الاكثر قراءةتحليلات و آراءغير مصنف
تحولات الردع والأجندة متعددة الأبعاد
قمة G20 جوهانسبرغ 2025 كنقطة محورية للأمن الإقليمي الإفريقي وتأثيرها على النظام الدولي

بقلم: نور نبيه جميل
باحثة في مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية
تُعدّ قمة G20 جوهانسبرغ 2025 من أبرز محطات التحول في النظام الدولي الحديث، ليس فقط لأنها أول قمة من هذا الحجم تُعقد في أفريقيا، بل لأنها جاءت في سياق متصاعد من التوتر الجيوسياسي والاقتصادي. استضافت جنوب أفريقيا القمة تحت شعار “التضامن- المساواة- الاستدامة”، محاولةً من الدولة المضيفة أن تعيد موضع صوت “الجنوب العالمي” في المنصات الكبرى لصنع القرار.
في الزمن الذي تشهد فيه مراكز النفوذ التقليدية ارتجافًا غابت فيها الولايات المتحدة رسميًا على مستوى القادة، وكذلك غابت بعض القوى الكبرى الأخرى، ظهرت هذه القمة كمنصة لإعادة قراءة أدوات الردع الدولي، ليس من منظور عسكري فقط، بل من منظور اقتصادي ودبلوماسي وتنموي. في هذا السياق، من المهم تحليل ما تحقق من أهداف، وما فشل فيه، وكذلك تقييم ما إذا كانت قمة جوهانسبرغ تشكل نقطة تحول استراتيجية أم لحظة رمزية فقط.
اولاً: المحاور الأساسية والديناميكيات الدولية في قمة G20 جوهانسبرغ 2025
1. غياب الولايات المتحدة ومقاطعة دبلوماسية
أعلن الرئيس دونالد ترامب مقاطعة القمة، ورفض الحضور رسميًا، متهمًا جنوب أفريقيا بسلوك “انتهاكات حقوق الإنسان” تجاه بعض السكان، وهو اتهام نفاته السلطات الجنوب أفريقية.
في ضوء ماسبق حاولت الولايات المتحدة إرسال ممثل منخفض المستوى لتسلم رئاسة G20 اللاحقة قوبلت برفض من جنوب أفريقيا، التي رأت أن ذلك يقلل من مكانتها، ما أرسل إشارة رمزية قوية بأن جنوب أفريقيا لن تخضع لإهانة بروتوكولية.
إن غياب الولايات المتحدة على هذا المستوى الرمزي والاستراتيجي يعكس تحوّلًا في ديناميكيات القوة الدولية، ويمنح الدول النامية، وعلى رأسها جنوب أفريقيا، مساحة أكبر لتحديد جدول الأعمال وممارسة النفوذ داخل المنصات متعددة الأطراف، بما في ذلك إعادة رسم أولويات التنمية والردع الدولي بعيدًا عن الهيمنة الأمريكية التقليدية
في ختام القمة، أغلق الرئيس سيريل رامافوزا الجلسة بشكل درامي وضرب المطرقة (gavel)، ما عبّر عن تمسك بسيادة دور جنوب أفريقيا في رئاسة القمة رغم مقاطعة القوة الكبرى.

2. أولويات أفريقيا: الدين، التنمية، التعددية
الدين كان من بين أولويات القمة: دعا رامافوزا إلى معالجة مخاطر الديون للدول منخفضة ومتوسطة الدخل، مؤكدًا أن هذه الأعباء تقيّد قدرة الدول النامية على الاستثمار في النمو والخدمات الأساسية.
كما تم التأكيد على إصلاح البنوك التنموية متعددة الأطراف مثل البنك الدولي وصندوق النقد والبنك الأفريقي للتنمية، بهدف إعادة توزيع النفوذ المالي لصالح الدول النامية.
من ثم أصدرت القمة إعلانًا ختاميًا دعم فيه “التعددية والإصلاح الدولي”، مع دعوات لتعديل هيكل بعض المؤسسات الدولية كي تعكس بشكل أفضل مصالح الدول النامية.
3. الطاقة والمناخ
كانت من أبرز الملفات على طاولة القمة: الطاقة والتحول المناخي. وضعت الدول خطة لدعم الانتقال العادل للطاقة في أفريقيا، مع مراعاة مصالح القارة من حيث البنية التحتية والطاقة النظيفة.
هناك تأكيد في البيان الختامي على الربط بين العدالة المناخية وتمويل التنمية، مع دعوات لدعم الدول الأشد تعرضًا لتأثيرات تغير المناخ.
4. تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي والتنمية الرقمية
-
أعلنت القمة عن مبادرات لتعزيز البنية التحتية الرقمية في أفريقيا، لا سيما من خلال “مبادرة الذكاء الاصطناعي لأفريقيا” لدعم الاستخدام الأخلاقي والتنموي للذكاء الاصطناعي في البلدان الأفريقية.
-
النقاش شمل أيضًا حوكمة البيانات والتعاون الدولي لتحسين قدرة الدول النامية على استثمار التكنولوجيا دون أن تدفع ثمنًا باهظًا في شكل تبعية تكنولوجية.
ثانياً: الانتقادات والفجوات
بحسب تقرير من المنظمات غير الحكومية، فشلت القمة في تقديم حلول ملموسة لأزمة الديون: لم تُطرح مقترحات جديدة جوهرية لتخفيف الأعباء، على الرغم من الالتزامات.
كما ان المجموعات الناشطة أعربت عن استياءها من بطء تنفيذ “إطار العمل المشترك” (Common Framework) الخاص بإعادة هيكلة الديون، معتبرة أن الإصلاحات غير كافية وموزعة بشكل غير عادل بين الدائنين.
وفي بعض الدول وأطراف المجتمع المدني وصفت البيان الختامي بأنه رمزي أكثر منه عملي، وأن بعض الالتزامات مثل “الانتقال العادل” للطاقة وحوكمة المناخ ليست مدعومة بآليات تنفيذ واضحة.
ثالثاً: التحليل الاستراتيجي والانعكاسات
1. الرسالة الاستراتيجية من الجنوب العالمي
قمة جوهانسبرغ مثلت منصة رمزية واستراتيجية للدول النامية، خصوصًا في أفريقيا، لكي تعبر عن طموحها لبلورة نظام دولي لا يهيمن فيه الشمال الاقتصادي فقط. من خلال التركيز على قضايا الديون والتنمية والكهرباء والطاقة، وضعت جنوب أفريقيا نفسها كزعيم بديل داخل G20 يطالب بإعادة التوازن الدولي. هذا يعد جزءًا من استراتيجية أكبر لإعادة تشكيل الردع ليس بالأسلحة وإنما بالقدرة الاقتصادية والتنموية.
2. إعادة تشكيل أدوات الردع
غياب الولايات المتحدة على مستوى القمة وقبولها بتسلم الرئاسة من خلال تمثيل منخفض المستوى يعكس ضعفًا في الردع التقليدي: أي أن القوة الكبرى لا تستطيع فرض إرادتها بسهولة عندما تكون هناك تضامن دولي من دول الجنوب.
في المقابل، الدول النامية استخدمت الردع الاستراتيجي عبر المنصات متعددة الأطراف (G20) لتمرير أجندتها التنموية. بناء قدرات البنوك التنموية والتوجه نحو الطاقة الخضراء والتكنولوجيا كلها أدوات قوّة جديدة تستخدم كوسيلة ردع اقتصادي ودبلوماسي.
3. التأثير على النظام الدولي
تمثل الدعوة إلى إصلاح مؤسسات متعددة الأطراف (مثل البنك الدولي وصندوق النقد ومجلس الأمن) قد تمهد الطريق لتحولات بنيوية في النظام الدولي. إذا ما نجحت هذه الدعوات، فإنها قد تقلل من هيمنة الدول التقليدية وتمنح الدول النامية نفوذًا أكبر في صنع القرار.
لكن، هناك تحديات كبيرة: الانتقادات بشأن الفجوة بين النص والواقع، وسرعة تطبيق الإصلاحات، وكذلك طبيعة الالتزامات (غير ملزمة قانونيًا غالبًا) قد تقيد من تأثير القمة على المدى الطويل.
4. الرهانات الإقليمية
من منظور الأمن الإقليمي في أفريقيا، يمكن أن تُحدث هذه القمة تأثيرات متعددة: تحسين القدرة على تمويل البنية التحتية (بما في ذلك الطاقة النظيفة)، وتقوية المؤسسات المالية الإقليمية، وزيادة التعاون التكنولوجي الداخلي.
ولكن إذا لم تتحقق التزامات الديون أو إنفاذها بفعالية، فإن الدول الأفريقية قد تبقى في دائرة تبعية مالية، مما يضعف من قدرتها على تحقيق استقرار طويل الأمد، خصوصًا في ظل الضغوط المناخية والاقتصادية.
رابعاً: تقييم عام: هل كانت القمة نقطة تحول استراتيجية؟
القمة تمثل منصة متعددة الأطراف أساسية لمناقشة القضايا الاقتصادية والسياسية العالمية، لكنها في هذه الدورة أخذت طابعًا رمزيًا واستراتيجيًا باعتبارها أول قمة G20 تُعقد في أفريقيا.
في ضوء ماسبق فإن حضور عدد من القوى الصاعدة مثل الصين والهند والدول الأفريقية الكبرى، مع غياب الولايات المتحدة على مستوى القادة، أعطاها بعدًا متعدد الأقطاب: أي أن النفوذ لم يعد مقتصرًا على القوى التقليدية فقط. مما يمكن وصف القمة بأنها اختبار للدور القيادي للجنوب العالمي في النظام الدولي، ومحاولة لإعادة توزيع النفوذ وصناعة أجندة جديدة تتعلق بالديون، التنمية، التكنولوجيا،والطاقة.
الإيجابيات: قمة جوهانسبرغ نجحت في وضع قضايا الجنوب (الديون، الطاقة، التنمية) في صدارة جدول G20. أظهرت أن الدول النامية قادرة على توجيه الأجندة الدولية، وأنهم غير جاهزين فقط للاستماع بل للمساهمة بفعالية في إعادة رسم النظام الدولي.
القيود: على الرغم من الطموحات الكبيرة، إلا أن تنفيذ التزامات القمة سيظل اختبارًا صعبًا. الفجوة بين التصريحات والواقع (كما أشار نشطاء الديون) تهدّد بأن بعض التطلعات تبقى على الورق.
الاستراتيجية المستقبلية: لتعزيز ما تم تحقيقه، يجب أن تعمل دول الجنوب على بناء تحالفات قوية، متابعة فاعلة بعد القمة لضمان تنفيذ الالتزامات، وتطوير أدوات داخلية تمكّنها من مقاومة ضغوط الدائنين التقليديين.



