الاكثر قراءةتحليلات و آراءغير مصنف
استقالة مارجوري تايلور غرين.. انعطاف الشعبوية وإعادة تشكيل اليمين الأميركي

بقلم: د. محمد حسن سعد
رئيس معهد وورلد ڤيو للعلاقات الدولية والدبلوماسية
عضو الجمعية الأميركية للعلوم السياسية
شكّلت إستقالة مارجوري تايلور غرين من مجلس النواب الأميركي منعطفاً كاشفاً لتحوّلات بنيوية عميقة داخل اليمين الأميركي يتجاوز وقعها حدود الفعل الفردي أو التوترات اليومية في المشهد الحزبي، فهذه الاستقالة وإن بدت في ظاهرها نتيجة خلافٍ مع القيادة الجمهورية أو تباينٍ مع خطاب دونالد ترامب تكشف في جوهرها عن لحظة انتقالية تمرّ بها حركة MAGA، لحظة تتصدّع فيها ملامح الهوية السياسية التي صاغتها هذه الحركة منذ العام 2016 وتتبدّل أولوياتها ووظائفها داخل النظام السياسي الأميركي، إن ما يميّز هذا التطور أنه لا يمثل حدثاً تكتيكياً بل يعكس إعادة هيكلة أعمق في العلاقة بين الشعبوية اليمينية والمؤسسات الحاكمة وبين التعبئة الرقمية وبين متطلبات الحكم وبين سرديات الاحتجاج ورهانات إدارة الدولة.
لقد كانت غرين خلال العقد الأخير واحدة من أكثر التجسيدات نقاءً لخطاب اليمين الشعبوي في الولايات المتحدة خطاب يقوم على تحدّي شرعية النخب التقليدية وإعادة تعريف العلاقة بين المواطن والدولة وتحويل الصراعات الثقافية إلى جبهات سياسية مفتوحة، بهذا المعنى كانت ظاهرة سياسية لا تفسَّر فقط بقدراتها الشخصية بل بكونها نتاجاً لمرحلة أميركية مضطربة أعادت فيها العولمة والتمزقات الإجتماعية والتحولات الديموغرافية تشكيل دوائر الانتماء السياسي، ولذلك فإن خروجها من الكونغرس لا يمكن فهمه خارج إطار هذه الموجة الكبرى التي أعادت توازنات السياسة الأميركية منذ صعود ترامب إلى المشهد.
تأتي الإستقالة في لحظة تنتقل فيها حركة MAGA من كونها حركة احتجاجية مفتوحة على كافة احتمالات التصعيد إلى بنية أكثر انضباطاً تتلمّس شروط التحوّل إلى مشروع حكم، وهذا الانتقال يخلق بطبيعته صداماً بين جناحين داخل الحركة نفسها جناح يسعى إلى الحفاظ على منطق المواجهة والقطيعة مع المؤسسات وجناح آخر يحاول تطبيق إستراتيجية دمجٍ محسوب مع بنية الدولة لإعادة تشكيلها من الداخل، غرين كانت التعبير الأكثر حدّة عن الجناح الأول أما الاندفاعة الجديدة حول ترامب في ولايته الثانية فتبدو أكثر ميلاً إلى البراغماتية السياسية وإلى بناء شبكات نفوذ قابلة للاستمرار داخل الجهاز البيروقراطي.
ضمن هذا السياق التحليلي تصبح إستقالة غرين مؤشراً على نهاية مرحلة من “الشعبوية المتحررة من قيود المؤسسات” وبداية مرحلة جديدة يحاول فيها اليمين الأميركي إعادة ضبط إيقاعه الداخلي وتحديد حدوده القصوى والتفاوض على موقعه داخل النظام السياسي بدلاً من البقاء خارجه، إن هذه اللحظة تعكس في جوهرها أزمة إعادة تعريف تتجاوز غرين وترامب لتطال بنية اليمين ذاته هويته، أدواته جمهوره وكذلك مستقبل دوره في صوغ النموذج الأميركي بين قطبي الشعبوية والمؤسسات.
أولاً: الجذور الإجتماعية والسياسية تشكّل هوية غرين داخل سياق اليمين الأميركي
لم تكن مارجوري تايلور غرين ابنةً للمؤسسة السياسية التقليدية أو مخرَجة من مدارس صناعة النخب الأميركية بل كانت نتاجاً مساراً إجتماعياً وإقتصادياً يعكس التوترات التي عاشتها الطبقات البيضاء المتوسطة في الجنوب الأميركي خلال العقدين الأخيرين، انحدارها من بيئة تجارية متوسطة في ولاية جورجيا واشتغالها في قطاع المقاولات المحلي ثم دخولها عالم ريادة الأعمال الصغيرة قد يبدو مساراً فردياً عادياً ظاهرياً، لكنه في الواقع يعكس تحوّلاً بنيوياً في تكوين الكادر السياسي الجديد لليمين الشعبوي. فمنذ مطلع الألفية بدأت فئات واسعة من الطبقة الوسطى المحافظة تشعر بأنها مستبعدة من ديناميات العولمة ومن النمو الإقتصادي الذي تركز في المدن الكبرى ذات الغالبية الليبرالية، هذا الشعور بالتهميش الإقتصادي والثقافي خلق بيئة خصبة لبروز شخصيات “خارجة عن المؤسسة” تقدم نفسها باعتبارها صوتاً للطبقات التي تعتبر نفسها منسيّة، غرين كانت نموذجاً مثالياً لهذه الفئة غير مرتبطة بالنظام الحزبي التقليدي تمتلك خطابات بسيطة ومباشرة وتستطيع تحويل تجربتها المحلية المحدودة إلى سردية تتبنّاها قطاعات واسعة تبحث عن “بديل سياسي”.
لقد ساعدت السنوات التي أمضتها في إدارة الأعمال الصغيرة وصالات CrossFit في بناء شبكات إجتماعية متينة ليس فقط بمعنى العلاقات الشخصية بل كإطار ثقافي ـــ هوياتي قائم على قيم الانضباط الجسدي الإستقلالية الفردية ومسؤولية الذات، وكلها قيم انسجمت لاحقاً بسهولة مع خطاب اليمين الثقافي الذي يعادي تدخل الدولة ويقدّس “الفرد المقاوم”، وهكذا حين انتقلت غرين من الإقتصاد المحلي إلى السياسة الرقمية كانت قد بنت بالفعل قاعدة إجتماعية ـــ ثقافية قابلة للتسييس السريع.
ثانياً: التحوّل من النشاط الرقمي إلى الفعل السياسي ـــ صعود ظاهرة غرين
مع منتصف العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين أخذ الفضاء الرقمي يشكّل مسرحاً مركزياً للصراع السياسي في الولايات المتحدة، وقد أدركت غرين مبكراً أن قوة التأثير لم تعد محصورة في الأحزاب بل في القدرة على إحتلال حيز ضخم داخل الخوارزميات التي تدير منصّات مثل فيسبوك وتويتر، بهذا الفهم استخدمت أدوات اليمين الرقمي بمهارة بث مباشر متواصل ورسائل قصيرة حادّة ولغة ثنائية تقسم العالم إلى “نحن” و”هم” وتوظيف الانفعالات الجماعية بوصفها محركاً سياسيا. هذا الأسلوب لم يكن مجرد تقنية بل كان جزءاً من تحوّل عالمي في طبيعة السياسة نفسها حيث يتراجع التحليل العقلاني أمام قوة الرموز والشحن العاطفي، دخول غرين سباق 2020 كان التجسيد العملي لهذا التحوّل، فهي لم تقدّم برنامجاً تشريعياً متماسكاً بالمعنى التقليدي بل قدّمت سردية شاملة عن “الهوية الأميركية المهددة” وعن “الدولة العميقة” التي تتآمر على المواطن العادي، إن الخطاب الثقافي ـــ القيمي الذي ركّزت عليه (السلاح، الهجرة، المسيحية السياسية، معاداة الليبرالية) كان أقوى بكثير من أي خطة سياسية مفصّلة لأنه يخاطب مخزوناً رمزياً يحرّك جمهور اليمين بفعالية عالية.
وما جعلها مثيرة للجدل أكثر هو دخولها المبكر في فضاء نظريات المؤامرة وعلى رأسها QAnon، هذا الدخول لم يكن حادثاً فردياً أو منزلقاً شخصياً بل امتداداً لديناميات سياسية أعمق فحين تفقد الطبقات المهدَّدة الإقتصادية والإجتماعية ثقتها بالمؤسسات يصبح الخطاب التآمري أداة تفسير بديلة للعالم ويصبح السياسي الذي يجاهر بتبنّيه “حقيقياً” أكثر من السياسي التقليدي، من هنا جاء فوز غرين في مقعدها في الكونغرس تعبيراً عن ميل إجتماعي لا عن حادثة شاذة.

ثالثاً: غرين وتحالف القوة ـــ موقعها داخل بنية MAGA وصعود ترامب
منذ اللحظة التي ظهرت فيها على الساحة الوطنية كانت غرين تعبّر عن الخط الأكثر راديكالية في حركة “اجعل أميركا عظيمة مجدداً”، لم تكن مجرد داعمة لترامب بل كانت تجسيداً للروح التصادمية التي قامت عليها الحركة، لقد مثّلت بالنسبة لترامب قاعدة جماهيرية يمكن الاعتماد عليها في لحظات الأزمة، جمهوراً يرى في المواجهة مع الإعلام والقضاء والمؤسسات الفدرالية واجباً وطنياً لا مجرد خيار سياسي. العلاقة بين الطرفين كانت علاقة تبادل وظيفي غرين قدّمت خطاباً أكثر تطرفاً من خطاب ترامب نفسه، ما سمح له بالظهور أحياناً بصورة “الأكثر اعتدالاً” مقارنة بها، وهي تقنية شائعة في ديناميات التفاوض السياسي داخل الحركات الشعبوية، وترامب قدّم لها منصة وطنية وحماية سياسية ومكانة داخل الجناح الأكثر تأثيراً داخل الحزب الجمهوري.
بهذا المعنى لم تكن غرين مجرّد حليفة لترامب بل عنصر توازن داخل حركة تقوم على شخص واحد كانت تمثّل “الجناح العقائدي الخالص” مقابل “الجناح البراغماتي المرتبط بالسلطة”، ومع ذلك كانت العلاقة محكومة بحدود موضوعية فلا يمكن لأي حركة قائمة على الولاء الشخصي أن تتحمّل ظهور رموز شعبوية تتجاوز مركز القيادة، ولا يمكن لترامب بما يمثله من سيطرة مطلقة ضمن قاعدته أن يسمح بصعود شخصية قد تتحوّل إلى مرجعية بديلة، هذه الحدود البنيوية ستظهر لاحقاً مع تفجّر الخلاف بين الطرفين.
رابعاً: انفجار الخلاف ـــ من الشراكة الإستراتيجية إلى لحظة التصادم البنيوي
لم يكن الخلاف بين مارجوري تايلور غرين ودونالد ترامب مجرّد اختلاف في الأولويات السياسية أو في التكتيكات التشريعية بل كان انعكاساً لصدام أعمق بين نمطين متغايرين من الشعبوية داخل اليمين الأميركي، فبينما نشأت غرين ضمن فضاء يميني ثقافي أكثر تشدداً يقوم على رفض كامل للمؤسسات الفدرالية وعلى خطاب أخلاقي ــــ إيديولوجي يرفض التسويات كان ترامب في ولايته الثانية قد بدأ يتحوّل تدريجياً من قائد ثوري إلى زعيم يسعى لتثبيت سلطته داخل بنية الدولة، ولو عبر قدر من البراغماتية التي لا يمكن لحركة عقائدية خالصة أن تتسامح معها.
ظهرت بوادر الخلاف في ملفات حساسة ذات حمولة سياسية عالية مثل قضية جيفري إبستين والوثائق السرية والقضايا المرتبطة بالأمن القومي فموقف غرين أكثر جذرية وأقرب إلى خطاب “التطهير الشامل” الذي يطالب بإعادة هيكلة المؤسسات الأمنية والقضائية بصورة جذرية، في المقابل اتجه ترامب إلى مقاربة أكثر انسجاماً مع مصالح السلطة التنفيذية حيث يكون الحفاظ على قدر من العلاقات داخل البيروقراطية أمراً ضرورياً لإدارة الدولة، هذا التباين كشف حدود العلاقة بينهما فغرين تريد ثورة سياسية وثقافية كاملة فيما ترامب يريد السيطرة على الدولة لا إسقاطها. ومع هذا التباين بدأت الهوة تتسع بينهما خصوصاً حين صعدت غرين خطابها العلني وبدأت تنتقد “التراجع” داخل MAGA وتلمّح إلى أن الحركة تحتاج إلى قيادات جديدة غير مرتبطة باعتبارات الحكم، هذه اللغة كانت خطاً أحمر لدى ترامب لأنها حملت بذور توجيه جزء من القاعدة الانتخابية نحو مرجعية بديلة، وبسبب تأثير الآلة الإعلامية لترامب واتساع نفوذه داخل الحزب الجمهوري بدأت غرين تجد نفسها في عزلة متزايدة. فعلى الرغم من أنها كانت تتمتع بخطاب قوي وقدرة عالية على صناعة العناوين، إلا أنها لم تكن تمتلك قاعدة تنظيمية صلبة داخل مؤسسات الحزب، ومع تراجع الغطاء الذي يوفره ترامب أصبحت عرضة لضغوط داخلية مكثّفة أدت بصورة تدريجية إلى إضعاف قدرتها على المناورة.
خامساً: الاستقالة كتحوّل بنيوي ـــ لحظة سقوط أم إعادة تموضع؟
عندما أعلنت غرين استقالتها في تشرين الثاني العام 2025، بدا المشهد لأول وهلة وكأنه نهاية لمسار سياسي صاخب، لكن الاستقالة عند تفحّصها بدقة لم تكن نتيجة حدث واحد بل تتويجاً لمسار طويل من التآكل الداخلي داخل اليمين الأميركي، فالخروج من الكونغرس لم يكن حدثاً معزولاً بل تحوّلاً يكشف عن إعادة ترتيب مراكز القوة داخل MAGA والحزب الجمهوري.
يمكن تفسير هذه الاستقالة عبر أربعة مستويات مترابطة نوجزها بما يلي:
-
فقدان الغطاء السياسي داخل الحزب
منذ لحظة انفصالها عن ترامب، فقدت غرين أهم مورد سياسي تعتمد عليه: الحماية الرمزية والتنظيمية التي يوفرها القائد الوحيد القادر على حشد مئات آلاف الأصوات عند الحاجة، ومع غياب هذا الغطاء أصبحت مواقفها أكثر كلفة وأقل فعالية.
-
فشل في بناء تحالفات مؤسساتية
على الرغم من حضورها الإعلامي الكبير لم تستطع غرين بناء شبكة علاقات داخل لجان الكونغرس، وهو ما جعلها عرضة للعزل التشريعي فالكونغرس على عكس الفضاء الرقمي لا يكافئ الصخب، بل القدرة على خلق توافقات عملانية.
-
تراجع فاعلية خطابها داخل القاعدة اليمينية
بعد وصول ترامب إلى الولاية الثانية، بدأ جمهور MAGA ينقسم بين من يريد استمرار الخطاب الثوري ومن يريد رؤية نتائج عملية في الحكم، ومع تحوّل ترامب نحو البراغماتية بدأ الخطاب الأكثر تطرفاً يفقد زخمه.
-
إعادة توزيع مراكز القوة داخل اليمين الأميركي
الاستقالة جاءت في لحظة يعاد فيها رسم شكل اليمين الأميركي عبر ثلاثة تيارات يمكن اختصارها بما يلي:
أ. تيار محافظ تقليدي يسعى لاستعادة دور المؤسسة.
ب. تيار ترامب السلطوي ـــ الشعبوي المعتدل نسبياً.
ج. تيار راديكالي يمثّل امتداد “اليمين الأخلاقي المتشدد”.
استقالة غرين كانت إعلاناً بأن التيار الأخير خسر الجولة داخل المعادلة الجديدة.
سادساً ـــ الدلالات الكبرى ـــ ما الذي تكشفه الاستقالة عن مستقبل اليمين الأميركي والديمقراطية؟
لا يمكن قراءة استقالة غرين خارج إطار التحوّل العميق الذي يمر به النظام السياسي الأميركي فالولايات المتحدة اليوم تعيش لحظة صراع بين نموذجين:
-
نموذج الدولة الديمقراطية ـــ المؤسساتية التي تعتمد على توازن السلطات.
-
نموذج الشعبوية القومية التي ترى في القائد مصدر الشرعية.
من هذا المنظور، تكشف الاستقالة عن ثلاثة مسارات إستراتيجية:
أ. إعادة تعريف حركة MAGA
لم تعد الحركة كتلة واحدة كما كانت في 2016، بل أصبحت مكوّنة من مستويات متعددة، مستوى إعلامي ـــ ثقافي ومستوى تنظيمي مرتبط بترامب ومستوى راديكالي غير قابل للضبط، إبعاد غرين سواء كان طوعياً أم قسرياً يمثّل نجاحاً للجناح الأقرب للسلطة في فرض انضباط داخلي.
ب. الحزب الجمهوري يدخل مرحلة “التنظيم بعد الفوضى”
يسعى الحزب اليوم إلى توحيد صفوفه تحت قيادة مركزية مرتبطة بالرئاسة، وإلى التخلص من الأصوات التي تعيق التحوّل من حركة احتجاجية إلى قوة حكم مستقرة.
ج ـــ الخطاب الشعبوي يدخل طور “المأسسة”
إن تراجع الأصوات الأكثر راديكالية يشير إلى بداية انتقال اليمين الشعبوي من مرحلة الفوضى التعبيرية إلى مرحلة التنظيم السياسي، وهذه مرحلة خطيرة بقدر ما هي مهمّة، لأنها تعني أن الشعبوية يمكن أن تتحوّل إلى مشروع دولة لا مجرد حالة غاضبة.
سابعاً: غرين بوصفها مرآة مرحلة ـــ من صعود الشعبوية إلى إعادة تشكّل النظام
إن استقالة مارجوري تايلور غرين تتجاوز حدود حدث فردي لتصبح مرآة تعكس اهتزاز البنية الداخلية لحركةMAGA والتحولات البنيوية داخل اليمين الأميركي عموماً، فهي تكشف صراعاً مستمراً بين شعبوية التعبئة التي ترتكز على الطاقة الغاضبة للقاعدة الشعبية وبين متطلبات الاستقرار المؤسسي وضرورات تحويل القوة إلى نفوذ مستدام داخل الدولة، غرين جسدت الوجه الأكثر تصادماً من هذا التيار لكن خروجها يُظهر الحدود التي يفرضها واقع الحكم على الشعبوية المتطرفة حين يُختبر قدرتها على إدارة السلطة وتحويل التوتر الاجتماعي إلى تأثير سياسي فعّال.
على المستوى الإستراتيجي تضع هذه اللحظة اليمين الأميركي أمام سؤال محوري هل يمكن لحركة قامت على نقد الدولة ومواجهتها أن تتحوّل إلى مشروع حكم يوازن بين التعبئة الشعبية والفاعلية المؤسساتية؟
الإجابة تكمن في إعادة بناء تحالفات القوة وضبط الخطاب الشعبي وإعادة ترتيب العلاقة بين القاعدة الانتخابية ومراكز القرار داخل الحزب الجمهوري، استقالة غرين تؤكد أن الشعبوية ليست مجرد نتيجة لأشخاص محددين، بل ظاهرة تتجذر في الاختلالات الإقتصادية والإجتماعية والثقافية وهي قابلة لإعادة الإنتاج حتى مع تغيّر الوجوه. كما تعكس هذه الخطوة لحظة إعادة تعريف أوسع للعلاقة بين الفردانية السياسية والقوة المؤسسية، بين دور الزعامات الكاريزمية وإستراتيجيات المؤسسات، وبين سطوة الإعلام ونفوذ السياسة التقليدية، فاستقالة غرين تضع اليمين أمام ضرورة موازنة طموحات التغيير مع حدود الإمكانيات الواقعية للحكم بما يضمن استدامة النفوذ الشعبي من دون الانزلاق إلى فوضى سياسية تهدد مشروعه.
وعليه تصبح هذه اللحظة محطة فارقة لفهم هندسة القوة الجديدة داخل اليمين الأميركي بين التعبئة الشعبية والقوة المؤسسية بين الغضب الشعبي وإستراتيجيات الدولة وبين فردانية السياسة واستقرارها وبين الولاءات الشخصية وتحديات المؤسسات، إنها تجربة دراسية لمستقبل السياسة الأميركية حيث سيكون اختبار قدرة اليمين على دمج الشعبوية بالفاعلية المؤسساتية مؤشراً أساسياً على شكل النظام السياسي في العقد القادم وعلى مدى قدرته على الصمود أمام التحديات الداخلية والخارجية، وإعادة تعريف موقعه في قلب الديمقراطية الأميركية المتغيرة.



