الاكثر قراءةترجماتغير مصنف
الصفقة الاستراتيجية الكبرى للذكاء الاصطناعي: رؤية أميركية للفوز بسباق الابتكار

بقلم: بن بوكانان وتانتوم كولينز
ترجمة: صفا مهدي عسكر
تحرير: د. عمار عباس الشاهين
مركز حمورابي للبحوث والدراسات الإستراتيجية
قد يبدو أن الولايات المتحدة تتربع على قمة سباق الذكاء الاصطناعي بلا منازع، فتتصدر شركات أميركية رائدة مثل (Anthropic ،Google ،OpenAI ،xAI ) جميع التقييمات المتعلقة بالإمكانات العامة لهذه التقنية، وتتفوق نماذج الذكاء الاصطناعي الأميركية على العلماء الحاصلين على درجة الدكتوراه في حل مسائل معقدة في الفيزياء والكيمياء والأحياء علاوة على ذلك تجاوزت القيمة السوقية لبعض شركات الذكاء الاصطناعي والمعالجات الأميركية مجمل سوق الأسهم الصينية، ويواصل المستثمرون من مختلف أنحاء العالم ضخ موارد متزايدة في النظام البيئي الأميركي للذكاء الاصطناعي.
يعكس هذا التقدم السريع قوة نموذج تطوير الذكاء الاصطناعي الأميركي الذي سيطر خلال العقد الماضي والذي يقوم على منح القطاع الخاص الحرية للعمل مع تدخل حكومي محدود، ويختلف هذا النهج عن الأساليب التي أطلقت تقنيات ثورية سابقة مثل الأسلحة النووية والطاقة النووية والسفر إلى الفضاء وأنظمة التخفي والحواسيب الشخصية والإنترنت والتي نشأت غالباً نتيجة جهود حكومية مباشرة أو تمويل عام كبير، صحيح أن جذور الذكاء الاصطناعي مرتبطة بالبحث العلمي المدعوم حكومياً بما في ذلك الحوسبة الشخصية والإنترنت ويستفيد من الأبحاث المستمرة المدعومة من الدولة الا أن توسيع نطاق الذكاء الاصطناعي كان نشاطاً أساسياً للقطاع الخاص. مع ذلك ثمة مؤشرات على أن النهج الأميركي الحالي قد وصل إلى حدود فعاليته، ومن المتوقع أن تصبح هذه الحدود أكثر وضوحاً خلال الأشهر والسنوات المقبلة، ما قد يهدد الهيمنة الأميركية على هذا المجال ويضعها في مواجهة تنافسية غير متكافئة مع الصين، التي تتبنى نموذجاً مختلفاً في تطوير الذكاء الاصطناعي.
لتجنب هذه المخاطر تحتاج الولايات المتحدة إلى تبني نموذج متكامل لتطوير الذكاء الاصطناعي يقوم على شراكة استراتيجية وثيقة بين القطاع العام والخاص، فالتقدم المستقبلي يعتمد على موارد وقدرات لا يمكن للقطاع الخاص وحده توفيرها مثل الطاقة لتشغيل مراكز البيانات الضخمة وتوفير كفاءات ومواهب دولية وبناء منظومة دفاعية فعّالة ضد أنشطة التجسس المتقدمة، وفي المقابل يحتاج القطاع الخاص إلى دعم الدولة لدمج الذكاء الاصطناعي في الأجهزة الوطنية للأمن القومي وضمان أن استخدامه لا يقوض الديمقراطية عالمياً.
باختصار يجب أن يقوم النموذج الأميركي الجديد للذكاء الاصطناعي على صفقة استراتيجية كبرى بين الحكومة وقطاع التكنولوجيا، ففي هذه الشراكة يمكن للقطاع الخاص مساعدة الدولة في فهم وتوظيف الذكاء الاصطناعي بشكل فعّال بينما توفر الدولة للقطاع التقني البيئة والموارد اللازمة للنمو المستدام بما يضمن استمرار الريادة الأميركية وتعظيم المنافع الوطنية والدولية لهذه الثورة التكنولوجية.
تعظيم الإمكانات
يمكن فهم سبب نجاح النهج الأميركي القائم على التدخل المحدود في تطوير الذكاء الاصطناعي، على عكس التقنيات الثورية السابقة مثل الأسلحة النووية والسفر إلى الفضاء لم يكن للذكاء الاصطناعي تطبيقات تجارية مباشرة منذ البداية، لكن الحال اليوم مختلف فالأعمال التجارية القائمة على الذكاء الاصطناعي تشهد طلباً هائلاً ما أدى إلى ارتفاع الإيرادات بشكل قياسي إلى جانب وعود الشركات بأتمتة مهام قيمة عديدة مثل البرمجة، ونتيجة لذلك توفر أسواق رأس المال تمويلاً لمشاريع الذكاء الاصطناعي بمستويات كانت ستتطلب تاريخياً موارد حكومية ضخمة، كما أن الطبيعة الحسابية المكثفة للذكاء الاصطناعي الحديث تعتمد بشكل كبير على البنية التحتية للحوسبة السحابية التي تسيطر عليها شركات القطاع الخاص أكثر من الحكومة.
إلا أن الاعتماد على رأس المال الخاص وحده بدأ يكشف عن حدوده خصوصاً على صعيد البنية التحتية للطاقة، فالتوسع في مراكز البيانات الضخمة التي تغذي الذكاء الاصطناعي يحتاج إلى كميات هائلة من الكهرباء إذ تشير تقديرات Anthropic إلى أن الولايات المتحدة ستحتاج إلى إنتاج نحو 50 غيغاواط من الطاقة الجديدة لتشغيل أنشطة الذكاء الاصطناعي بحلول عام 2028- ما يعادل تقريباً استهلاك كامل دولة الأرجنتين اليوم، ومع ذلك فإن القدرة على بناء هذه البنية التحتية الضخمة تتطلب دعم الحكومة سواء عبر تمويل مباشر أو تيسير الإجراءات التنظيمية.
على مدى سنوات طويلة أضافت الولايات المتحدة قدرًا ضئيلاً جداً من الطاقة الجديدة لشبكتها الكهربائية، وبعد تولي الرئيس جو بايدن منصبه تم إقرار قانون لدعم إنشاء بنية تحتية للطاقة النظيفة ما أدى إلى إضافة أكثر من 100 غيغاواط من القدرة الإنتاجية، كما وقع بايدن في أيامه الأخيرة على أمر تنفيذي لتسريع مشاريع الذكاء الاصطناعي والطاقة النظيفة، ومع ذلك لم يتم تنفيذ تلك الخطط بشكل فعّال ويُرجّح أن تقويضها جزئياً من قبل السياسات اللاحقة يعوق استغلال الإمكانات الاقتصادية للذكاء الاصطناعي ويهدد القدرة التنافسية الأميركية.
توسيع الطاقة لتلبية احتياجات الذكاء الاصطناعي لا يقتصر على تطوير القطاع نفسه بل يمتد لتوفير فرص عمل ضخمة وتحفيز الابتكار في مصادر الطاقة النظيفة بما في ذلك الطاقة الحرارية الأرضية المتقدمة والمفاعلات النووية الحديثة وهي مجالات تحظى بدعم سياسي واسع من كلا الحزبين، وفي حال فشل الولايات المتحدة في بناء الطاقة المحلية ستواجه شركات الذكاء الاصطناعي ضغوطاً لنقل أنشطتها إلى الخارج وربما إلى مناطق تعتمد على وقود أحفوري، ما يمثل تهديداً للأمن الاقتصادي والاستراتيجي الأميركي.
علاوة على البنية التحتية يعتمد تقدم الذكاء الاصطناعي على المواهب البشرية بقدر اعتماده على التكنولوجيا والحوسبة، وقد تحركت إدارة بايدن بشكل فعال لتسهيل قدوم أفضل الكفاءات التقنية إلى الولايات المتحدة بما في ذلك تحديث متطلبات تأشيرات العمل والبحث العلمي لجذب كبار العلماء، بالمقابل سياسات ترامب عرقلت هذا المسار من خلال إجراءات تحد من دخول الطلاب والعمال الأجانب المؤهلين بما في ذلك فرض رسوم مرتفعة على تأشيرات H1-B، مما يؤدي إلى انخفاض كبير في أعداد الطلاب الدوليين المسجلين في الجامعات الأميركية بنسبة تتراوح بين 30 و40%، وفق تقديرات أولية.
يعد جذب الخبرات الأجنبية أحد أبرز أسباب تقدم الولايات المتحدة في سباق الذكاء الاصطناعي إذ يشير بحث جامعة جورج تاون إلى أن نحو 70% من أفضل الباحثين الأميركيين في الذكاء الاصطناعي كانوا مولودين في الخارج وأن 65% من الشركات الأميركية الرائدة في القطاع أسسها أحد المهاجرين على الأقل، وإن استمرار السياسات المعوقة قد يدفع هؤلاء الخبراء إلى العودة إلى بلدانهم أو الانتقال إلى الصين التي تسعى لاستقطاب أفضل المواهب في الذكاء الاصطناعي، مما يزيد من التحديات أمام الولايات المتحدة للحفاظ على ريادتها.
باختصار تواجه الولايات المتحدة تحديين محوريين للحفاظ على تفوقها في الذكاء الاصطناعي الاول بناء بنية تحتية طاقية حديثة ومستدامة وثانيا ضمان تدفق مستمر من المواهب العالمية عالية المستوى، النجاح في هذين المجالين سيتطلب تنسيقاً وثيقاً بين الحكومة والقطاع الخاص لضمان استدامة الريادة الأميركية في هذا السباق التكنولوجي الحيوي.

التحدي الصيني
الحفاظ على ريادة الولايات المتحدة في الذكاء الاصطناعي ليس مجرد مسألة كبرياء وطني بل يمثل ركيزة أساسية للأمن القومي الأميركي والتنافسية الاقتصادية، فقد أحرزت الصين تقدماً ملحوظاً في تطوير الذكاء الاصطناعي ورغم أن شركاتها لم تصل بعد إلى مستوى أفضل الشركات الأميركية، إلا أنها لا تعاني من نقص في المواهب التقنية.
تواجه الصين تحدياً كبيراً في هذا السباق، عجزها عن إنتاج كميات كبيرة من رقائق الذكاء الاصطناعي المتقدمة وهو ضعف زاد تفاقمه نتيجة القيود الأميركية على الصادرات التي بدأت في عهد ترامب الأول ووسّعها بايدن بشكل كبير، ومع ذلك بدأ ترامب الثاني بعد ضغوط صناعية بفك بعض هذه القيود الثنائية الحزبين ففي حزيران الماضي تم التراجع عن قرار نيسان الذي منع الصين من الحصول على رقائق الذكاء الاصطناعي الأحدث وأشار الرئيس إلى نيته التراجع عن قيود أخرى فرضها بايدن، من المرجح أن تُسرّع هذه الإجراءات من وتيرة تطوير الذكاء الاصطناعي في الصين.
اتخذت بكين خطوات حاسمة لضمان أن يتيح الوصول إلى هذه الرقائق تطوير منظومة ذكاء اصطناعي قد تتفوق على الولايات المتحدة، فعلى صعيد الطاقة استثمرت بكين بشكل هائل في محطات الطاقة وتخزينها وشبكات النقل ما مكّنها من إنتاج أكثر من ضعف الطاقة الكهربائية الأميركية مع استمرار اتساع الفجوة، ففي بعض الأشهر تمكنت الصين من تركيب أكثر من 90 غيغاواط من الطاقة النظيفة الجديدة- أي ما يقارب ضعف الطاقة التي ستحتاجها شركات الذكاء الاصطناعي الأميركية في السنوات القادمة.
كما اكتسبت الصين ميزة من خلال دمج صناعة الذكاء الاصطناعي مع أجهزتها الوطنية للأمن القومي، وقد أشارت وزارة الدفاع الأميركية إلى أن شركات مثل Tencent تشكل ركائز استراتيجية ضمن سياسة الدمج المدني العسكري للصين، تُستخدم أنظمة الذكاء الاصطناعي هذه في تطوير الأسلحة والعمليات السيبرانية والمراقبة الداخلية وغيرها من التطبيقات، بينما توفر الحكومة الصينية للشركات دعماً واسعاً من حيث السياسات والأمن بما في ذلك خدمات الدفاع ونقل أسرار صناعية مستهدفة من شركات أميركية.
فقدان ريادة الذكاء الاصطناعي أمام الصين سيترتب عليه أضرار عالمية جسيمة فالمستهلكون حول العالم يستفيدون اليوم من صرامة وشفافية اللوائح والمعايير الأميركية والتي غالباً ما تُطوَّر بالتعاون مع ديمقراطيات أخرى كما في حالة تقنيات الشحن للسيارات الكهربائية، ويستلزم الذكاء الاصطناعي شراكات مماثلة ومن مصلحة واشنطن قيادة هذا الجهد وإلا فإن هناك خطر أن تحدد الأنظمة الاستبدادية المعايير بشكل أحادي، وإذا لم تتمكن الولايات المتحدة من تعزيز علاقاتها بقطاع الذكاء الاصطناعي والحفاظ على ريادتها العالمية فقد تفرض الأجهزة الأمنية الصينية معايير عالمية تتوافق مع قواعد الرقابة الصينية.
المقايضة الاستراتيجية
حالياً لا توجد شراكات قوية بين شركات الذكاء الاصطناعي الأميركية والوكالات الوطنية للأمن القومي إلا نادراً وتلك الموجودة ما تزال في مراحلها الأولى، ولمعالجة هذا النقص تحتاج الحكومة إلى فهم أعمق لماهية الذكاء الاصطناعي وكيفية عمله، يمكن للدولة دعم الصناعات الأميركية ولكن فقط في المجالات التي تفهمها جيداً واليوم الذكاء الاصطناعي ليس من بينها، خلال تجربتنا في الحكومة عملنا مع بعض الموظفين المدنيين والضباط العسكريين ذوي الخبرة التقنية العالية الذين دفعوا نحو تغيير بيروقراطي فعّال، وقد وظفت إدارة بايدن مئات الخبراء في الذكاء الاصطناعي لتعزيز كوادرها الا أن العديد منهم غادروا أو تم الاستغناء عنهم مؤخراً بما في ذلك كبار الفنيين ويجب على واشنطن تعزيز احتفاظها بالمواهب في هذا المجال وعكس السياسات التي أرسى ترامب اتجاهها.
من جانبها يجب على الشركات الأميركية ضمان أن يفهم المسؤولون الحكوميون طبيعة عملها وأن تكون أكثر استجابة لاحتياجات واشنطن، قد يتردد قادة الذكاء الاصطناعي في وادي السيليكون في التعاون الوثيق مع الحكومة نظراً لجهل الأخيرة التقني وبطء البيروقراطية فضلاً عن نجاح شركاتهم في العمل المستقل، ومع ذلك التاريخ يوضح أن التعاون بين القطاع الخاص والدولة غالباً ما يكون مثمراً للجميع فمثلاً تعاونت إدارة الرئيس فرانكلين روزفلت مع شركة (فورد Ford) قبل الحرب العالمية الثانية لإنتاج قاذفات B-24ما حقق أرباحاً للشركة وساهم في تلبية احتياجات الجيش، ومشاريع مثل مشروع مانهاتن واختراع الرادار والأقمار الصناعية والطائرات النفاثة والمعالجات الدقيقة والإنترنت، جميعها تجسد نجاح التعاون بين الشركات والحكومة.
أحد المجالات الحرجة التي يمكن للحكومة تقديم المساعدة فيها هو الأمن السيبراني، مع تزايد أهمية الذكاء الاصطناعي للأمن القومي تكثف أجهزة الاستخبارات الأجنبية جهودها لسرقة الابتكارات من الشركات الأميركية، ففي اذار 2024 وُجهت اتهامات لمهندس برمجيات في Google لنقل تصاميم رقائق الذكاء الاصطناعي إلى الصين بينما سعت بكين إلى تهريب منتجات تقنية متقدمة بما في ذلك الرقائق نفسها، تركّز التجسس الصيني على سرقة أوزان النماذج- الأرقام التي تحدد نموذج الذكاء الاصطناعي المدرب- لتجنب تكاليف التدريب وتقليل الزمن اللازم لتطوير النماذج، وهي موارد حيوية خاصة للصين التي تعاني من قيود شديدة في القدرة الحسابية. تقع المسؤولية الرئيسية على عاتق شركات الذكاء الاصطناعي في حماية شبكاتها ومؤسساتها الا أن الحكومة الأميركية تمتلك قدرات سيبرانية لا تضاهيها الشركات ويجب أن تقدم دعماً كبيراً كما تفعل حالياً مع قطاع الدفاع والبنية التحتية الحيوية، يمكن أن يشمل الدعم معلومات استخباراتية حول محاولات الاختراق الأجنبية والمساعدة في فحص المواهب الدولية وإرشادات حول إجراءات الأمن، ويجب على الشركات العاملة مباشرة مع الحكومة تلبية معايير صارمة مشابهة لتلك المفروضة على مقاولات الدفاع.
على صعيد آخر يجب أن تساعد شركات الذكاء الاصطناعي الولايات المتحدة في دمج تقنياتها ضمن الأجهزة الأمنية الوطنية وهو جانب ضعيف حالياً في القدرة الأميركية، فالولايات المتحدة قد تتفوق في ابتكار الذكاء الاصطناعي لكنها ستتأخر في تطبيقه عسكرياً دون تعاون وثيق وهو ما قد يكون مدمراً في حالة النزاع، تاريخياً الدول التي فشلت في دمج التكنولوجيا الحديثة في قواتها المسلحة تكبدت خسائر كبيرة كما حدث مع فرنسا وبريطانيا في الحرب العالمية الأولى رغم ابتكارهما للدبابة مقارنةً بألمانيا التي استفادت أولاً من استخدامها في هجمات Blitzkrieg خلال الحرب العالمية الثانية. أسست إدارة بايدن في تشرين الاول 2024 إطاراً لتعاون فعال عبر توقيع مذكرة للأمن القومي لتقوية استخدام الذكاء الاصطناعي في الأغراض الأمنية، مع وضع ضوابط صارمة لمنع انتهاك حقوق الإنسان أو التجسس الداخلي أو أي أنشطة غير أخلاقية – إجراءات ضرورية لكسب ثقة المطورين والقطاع الخاص والجمهور، وعلى الرغم من عدم إلغاء ترامب لهذه المذكرة فقد أحرز تقدماً محدوداً في تنفيذ بنودها وأقصى بعض الخبراء غير السياسيين الضروريين لتفعيلها.
وأخيراً يجب على الحكومة والصناعة التركيز على تطبيق الذكاء الاصطناعي لحل التحديات الاستراتيجية في المنافسة مع الصين، فالذكاء الاصطناعي يمكن أن يعزز القدرات السيبرانية كما أظهرت مسابقة DARPA للذكاء الاصطناعي السيبراني ما يمكّن الولايات المتحدة من حماية شبكاتها واختراق أنظمة الخصوم بفاعلية ويمنح ميزة استخباراتية كبيرة، كما يمكن للذكاء الاصطناعي تحسين الأداء في مجالات أخرى مثل الاستطلاع الجغرافي والاستخبارات الإشارية واللوجستيات وتصميم الأسلحة، لكن تحقيق هذه المكاسب يتطلب توجيهات واضحة من الحكومة وتعاوناً مباشراً من شركات الذكاء الاصطناعي الأميركية.
خطر المجهول
هناك سبب أخير يستدعي بناء روابط أوثق بين الحكومة الأميركية وأكبر شركات الذكاء الاصطناعي وهو الحاجة إلى تقييم التوازن بين الفوائد والمخاطر معاً، يتفق غالبية خبراء التكنولوجيا على أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يقدّم فوائد هائلة للبشرية مثل علاج الأمراض وتعزيز التقنيات النظيفة والقضاء على الأعمال الروتينية، لكنه في الوقت نفسه قد يسبب أضراراً جسيمة، بعض هذه المخاطر مثل استغلال الأنظمة الاستبدادية للذكاء الاصطناعي لإعادة تشكيل النظام العالمي، يمكن التخفيف منها من خلال الحفاظ على تقدم واشنطن وتوسيع ريادتها على منافسيها. أما الأخطار الأخرى فهي أكثر تعقيداً فبعض كبار مفكري الذكاء الاصطناعي يرون أنه من المحتمل وربما مرجح أن يتمكن مستخدم خبيث مستقبلاً من استغلال الذكاء الاصطناعي لتصميم عامل ممرض فتاك جديد، وهناك من يقلق من أن الخوارزميات القوية حتى في أيدٍ حسنة النية قد تسبب حوادث كارثية نتيجة تصرفات غير مقصودة من مطوريها، بالإضافة إلى ذلك ثمة نتائج أقل خيالاً لكنها بالغة الخطورة مثل البطالة الواسعة وتركيز السلطة الاقتصادية في أيدٍ محدودة، والتحيز في مجالات حيوية مثل الرعاية الصحية نتيجة البيانات والنماذج المتحيزة.
من منظور السياسات العامة كل سيناريو من هذه السيناريوهات يشكل تحدياً تاريخياً ويستلزم اتخاذ قرارات صعبة، فعلى سبيل المثال في عالم افتراضي يُمكن لمستخدم واحد أن يُحدث أضراراً كارثية سيتوجب على الحكومة النظر في فرض تنظيمات صارمة على تطوير واستخدام الأنظمة المتقدمة حتى لو أدى ذلك إلى إبطاء الابتكار، وإذا تسبب الذكاء الاصطناعي في أتمتة نسبة كبيرة من الوظائف فقد تضطر الحكومة إلى إنفاق موارد ضخمة لإعادة تدريب القوى العاملة أو إلى تسهيل إعادة هيكلة الاقتصاد، وبالنظر إلى سرعة تطور الذكاء الاصطناعي سيجد صانعو السياسات أنفسهم مضطرين لاتخاذ هذه القرارات المصيرية ضمن جداول زمنية ضيقة للغاية وكل ذلك بشأن تكنولوجيا لم تقم الحكومة بابتكارها وتعرف عنها القليل جداً.
إن تعزيز التعاون بين القطاعين العام والخاص إلى جانب المجتمع المدني لا يضمن بالضرورة اتخاذ الحكومة للقرارات الصحيحة لكنه يمنح واشنطن فرصة حقيقية لتحقيق نتائج إيجابية صافية، فمع قاعدة تقنية أقوى سيتمكن المسؤولون من فهم مدى التزام أنظمة الذكاء الاصطناعي بالتعليمات، وكيفية تعاملها مع المهام الخطرة وما المجالات التي يمكن أن تحل فيها محل البشر وإلى أي مدى تميل إلى العمل الدفاعي أو الهجومي في سياقات الأمن والسلامة.
ويشكل مركز معايير وابتكار الذكاء الاصطناعي التابع لوزارة التجارة الأميركية (CAISI) خطوة أولى مهمة لبناء تعاون فعّال، منذ إنشائه جمع المركز المسؤولين الحكوميين والشركات للعمل معاً على قضايا السلامة وساهم في تطوير آليات اختبار قياسية للذكاء الاصطناعي، كما عمل مع وكالات أخرى ذات خبرة متخصصة لإجراء اختبارات طوعية على موضوعات حرجة مثل التعاون مع وزارة الطاقة وشركة Anthropic لتقييم ما إذا كانت النماذج المتقدمة للذكاء الاصطناعي تمتلك معرفة خطرة بالأسلحة النووية، وقد لعب CAISI دوراً بارزاً في خطة إدارة ترامب للذكاء الاصطناعي ويجب تمكينه من تعزيز التعاون الطوعي مع الشركات ووضع المعايير وإجراء اختبارات السلامة.
وبفضل جهود CAISI والتزامات الشركات الرائدة تجاه إدارة بايدن تعهدت الشركات بإجراء اختبارات مستقلة لنماذجها غالباً استناداً إلى توجيهات المركز، وفي بعض الحالات وافقت الشركات على منح CAISI الوصول إلى الأنظمة الجديدة قبل طرحها وأشادت بالخبرة التي قدمتها الحكومة في مجال الأمن القومي، يجب على الطرفين تعميق هذا التعاون وتخصيص المزيد من الوقت والموارد لوضع معايير عالية وإجراء تقييمات دقيقة للنماذج الجديدة.
الدعم الحكومي
غالباً ما تبدو المقايضات الكبرى شعارات جذابة أكثر من كونها سياسات عملية والحصول على الاتفاق الصحيح في مجال الذكاء الاصطناعي أسهل قولاً من فعل، فالتكنولوجيا تتطور بسرعة وعلى مسار غير متوقع، مع تحسن الذكاء الاصطناعي ستزداد الحاجة للبنية التحتية والطاقة والتمويل. كما ستتصاعد مخاطر التهديدات السيبرانية الأجنبية وستتعاظم الحاجة للتعاون مع الأجهزة الدفاعية بالإضافة إلى المخاطر المحتملة لسوء الاستخدام مما يفرض خيارات سياسية صعبة، ستظهر شركات ناشئة جديدة وقد تتراجع الشركات الكبرى الحالية، الجميع في عالم الذكاء الاصطناعي يجب أن يكون مستعداً لإعادة التفاوض والتوازن باستمرار ويجب على المسؤولين الأميركيين البقاء مرنين وتجربة سياسات مختلفة وفق تطورات التكنولوجيا.
رغم هذا الغموض من الضروري أن تلعب واشنطن دوراً أكثر نشاطاً في تمكين وتوجيه بيئة الذكاء الاصطناعي الأميركية، فالتكنولوجيا لا تحتاج أن تتطور تحت سيطرة الدولة الصارمة كما فعلت الأسلحة النووية لكنها لا يمكن أن تتطور بمعزل عن الحكومة، يمكن تشبيه الأمر بتطور السكك الحديدية الأميركية في القرن التاسع عشر القطاع الخاص تكفل بالتخطيط والبناء بينما لعبت الحكومة دوراً حيوياً بتنظيم القوانين والتصاريح ومتطلبات السلامة، هذا التعاون لم يكن مثالياً لكنه أثبت نجاحه وحوّل السكك الحديدية إلى أداة وطنية عززت الأمن والازدهار الأميركي، وبالمثل يمكن للذكاء الاصطناعي المتقدم تعزيز القوة والمصالح الأميركية إذا تم تطويره ضمن الإطار الصحيح وبالتعاون المناسب بين القطاعين العام والخاص.
* Ben Buchanan and Tantum Collins, The AI Grand Bargain What America Needs to Win the Innovation Race, FOREIGN AFFARIS, October 21, 2025.



