الاكثر قراءةتحليلات و آراءغير مصنف

إيران وحافة الزاوية: لماذا لا يمكن للولايات المتحدة قبول دولة غير خاضعة في ركن العالم الجيوسياسي؟

بقلم: حنين محمد الوحيلي

باحثة في مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية

 

 

حين نقف أمام مشهد الصراع المستمر بين الولايات المتحدة وإيران، نجد أن كثيراً من التحليلات تتوقف عند النووي أو النظام أو الأيديولوجيا، لكنها تفشل في التقاط العنصر الأكثر رسوخاً واستمرارية (الموقع) فهناك مواقع في العالم لا تُقاس بأطوال الحدود ولا بحجم الاقتصاد بل بقدرتها على التأثير في حركة البحر ومسار الطاقة واتجاهات النفوذ الدولي. وهي مواقع لا تسمح الجغرافيا بتجاهلها ولا تسمح السياسة بتركها خارج حسابات القوى الكبرى.

وفي قلب هذه المواقع تقع الجمهورية الإسلامية الإيرانية دولة تقف عند تقاطع بحري- بري يصنع توازنات الخليج وآسيا الوسطى وبحر العرب في آن واحد. ومع أنّ الولايات المتحدة بنت جزءاً كبيراً من هندستها الأمنية على السيطرة أو التحالف مع “الأركان” الجيوسياسية المشابهة حول العالم، وجدت نفسها أمام ركنٍ آخر لا يمتثل لذات الوظيفة ولا يقبل الاندماج في البنية الأمنية التي أرادتها واشنطن للمنطقة. وهنا يبدأ جوهر المشكلة ويتحوّل الموقع من مجرد مساحة جغرافية إلى نقطة اختناق استراتيجية لا يمكن تجاوزها.

 

إن ما يجعل إيران لاعباً يصعب احتواؤه ليس ما تمتلكه من قدرات بقدر ما يفرضه مكانها من دور. فالدول التي تقع في زوايا العالم الكبرى لا تستطيع أن تكون هامشية حتى لو رغبت بذلك. وهذه الحقيقة “بكل تعقيداتها” تفسر جانباً كبيراً من القلق الأمريكي المستمر وتفتح الباب لفهم العلاقة بين الجغرافيا والهيمنة بعيداً عن التفسيرات التقليدية.

 

 

أولاً: أهمية الموقع الركني بالنسبة للولايات المتحدة وحقيقة سياساتها تجاه إيران

في العقيدة الاستراتيجية الأمريكية لا تتعامل واشنطن مع الجغرافيا بوصفها مجرد حدود أو مساحات بل بوصفها أركاناً حاكمة تبنى عليها منظومات النفوذ والتحكم. فالمواقع التي تشكل زوايا بين البحار والممرات الدولية تعد حجر الأساس في قدرة الولايات المتحدة على ضبط حركة الطاقة والتجارة والأمن البحري. لذلك شكل شرق آسيا عبر اليابان وكوريا الجنوبية ركناً أساسياً لمواجهة الصين، كما مثل شرق المتوسط عبر مصر وتركيا و(إسرائيل) ركناً لضبط المجال الروسي، في حين أصبح الخليج ركناً ثالثاً للسيطرة على مصادر الطاقة العالمية. هذه الأركان ليست نقاط انتشار عسكري فحسب بل مفاصل استراتيجية تعطي واشنطن القدرة على التأثير في توازنات بعيدة عن حدودها.

ضمن هذا الإطار يكتسب الموقع الإيراني أهمية استثنائية فإيران تقف عند عقدة جغرافية نادرة تشرف على مضيق هرمز، تتحكم بحدود تمتد نحو العراق وأفغانستان وبحر العرب، وتجاور القوقاز وآسيا الوسطى، وتقع على طرق الطاقة التي تصل الشرق بالغرب. هذه الزاوية ليست مجرد مساحة مهمة بل “موقع ارتكاز” لوضع ترتيبات أمنية واسعة وهو ما كانت واشنطن تدركه منذ عقود، لذلك اعتمدت سابقاً على الجمهورية الاسلامية في إيران الشاه كركن مركزي في استراتيجية الاحتواء ضد الاتحاد السوفييتي.

لكن بعد الثورة الإسلامية، حدث ما لم يكن قابلاً للإستيعاب في الحسابات الأمريكية أهم ركن جيوسياسي في المنطقة خرج من البنية الأمريكية، وتحول من دولة وظيفية إلى دولة مستقلة ومن نقطة ارتكاز إلى نقطة تعطيل. ولذلك اتّخذت واشنطن على مدى أربعة عقود سياسات تجمع بين العقوبات، وحروب الظل، والردع البحري، ومحاولات العزل الدبلوماسي، ليس بسبب النووي وحده بل لأن وجود دولة غير خاضعة في إحدى زوايا العالم يجعل الخريطة الأمريكية غير مكتملة. إن حقيقة السياسة الأمريكية تجاه إيران تقوم على قاعدة بسيطة (الموقع الذي لا تسيطر عليه واشنطن يتحول إلى مصدر تهديد مهما كانت نوايا الدولة أو قدراتها).

 

ثانياً: مميزات الموقع الإيراني وكيف استثمرته طهران في تعزيز قوتها الإقليمية

يمتلك الموقع الإيراني مجموعة من الخصائص التي قلما تجتمع في دولة واحدة. فإيران تشرف على أهم ممر نفطي في العالم، وتمتلك أطول ساحل على الخليج، وتتمركز بين ساحات صراع متداخلة في العراق وأفغانستان والقوقاز. كما أنها تمسك بمفاصل جغرافية تربط (الشرق الأوسط) بآسيا، وتملك القدرة على التأثير في خطوط النقل البري التي تصل الصين وروسيا بالمياه الدافئة، ما يمنحها موقعاً نادراً في حسابات كل القوى الكبرى.

إلا أن ما يعطي الموقع الإيراني وزنه الحقيقي هو كيفية إدارته. فلم تتعامل طهران مع جغرافيتها باعتبارها مجرد حدود تحمى عسكرياً بل باعتبارها مصدر قوة يمكن تفعيله. فقد استثمرت خطوطها البرية المفتوحة نحو العراق وسوريا ولبنان في تشكيل عمق استراتيجي يخفف من أي محاولة لمحاصرتها، ووسعت حضورها في بحر العرب وخليج عمان لحماية خطوط إمدادها، وعززت قدراتها الصاروخية والبحرية لتأمين المجال المائي المحيط بها، وجعلت من مضيق هرمز أداة ردع تمنع أي تهديد مباشر لأمنها.

كما استفادت الجمهورية الاسلامية في إيران من تحولاتها الإقليمية لتعزيز مكانتها في آسيا فارتبطت بشبكات اقتصادية مع الصين وروسيا، وعمقت علاقاتها مع دول تبحث عن بديل للهيمنة الأمريكية. وبذلك لم تكن قوتها نابعة من القدرات العسكرية فقط بل من طريقة استخدام الجغرافيا نفسها باعتبارها عنصراً يصعب تجاوزه أو تجاهل تأثيره.

إن استثمار الجمهورية الاسلامية في إيران لموقعها لم يكن دفاعياً فحسب بل كان استثماراً سياسياً واستراتيجياً أعاد تعريف مكانتها الإقليمية، وجعلها لاعباً قادراً على التأثير في توازنات تمتد من شرق المتوسط إلى المحيط الهندي. وهذه القدرة نابعة من إدراك واضح بأن الدول التي تقف في “حافة الزاوية” لا تستطيع أن تكون محايدة أو ساكنة بل تصبح بحكم موقعها جزءاً من معادلة القوة ذاتها.

تكشف القراءة العميقة للصراع الأمريكي- الإيراني أن الجغرافيا هي التي تحدد مسار العلاقة إلى حد كبير، لا النووي ولا طبيعة النظام السياسي. فالولايات المتحدة التي بنت هيمنتها على شبكة من “الأركان” الجيوسياسية المتحالفة لا يمكنها بسهولة التعايش مع ركنٍ يقع خارج منظومتها. وفي المقابل استطاعت الجمهورية الاسلامية في إيران أن تحوّل هذا الركن إلى مصدر نفوذ وأن تُدير موقعها بما يمنحها قدرة على الضغط والموازنة والصمود، وأن تنتقل من دولة تُحاصر إلى دولة تُغيّر توازنات الإقليم.

وبين ركنية الموقع وأهميته لواشنطن من جهة واستثمار الجمهورية الاسلامية في إيران لهذا الموقع من جهة أخرى، يتشكل جوهر الصراع، صراع بين قوة تريد السيطرة على زاوية العالم ودولة قررت أن تكون فاعلاً مستقلاً فيها. وفي ظل التحولات الدولية الراهنة يبدو أن هذا الركن سيظل نقطة اختبار مستمر لعلاقة الجغرافيا بالقوة ولحدود الهيمنة الأمريكية في (الشرق الأوسط).

 

 

Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?

Reload Reload document
| Open Open in new tab

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى