الاكثر قراءةتقدير موقفغير مصنف

بين التفوّق الجوي الروسي والتمدّد البحري الصيني: كيف يتغيّر ميزان القوة العالمية؟

بقلم: نور نبيه جميل

باحثة في مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية

 

منذ مطلع الربع الأخير من العام 2025، يتزايد وضوح التحوّلات البنيوية في ميزان القوة الدولي بصورة غير مسبوقة منذ نهاية الحرب الباردة. فقد شهدت الساحة الدولية خلال الأيام القليلة الماضية حدثين متزامنين يحملان دلالات استراتيجية عميقة: الأول، إعلان أوكراني يفيد بأن روسيا دخلت مرحلة إنتاج ضخم للقنابل الموجّهة منخفضة الكلفة، بما يصل إلى 120 ألف قنبلة خلال عام واحد، والثاني، بدء الصين أولى التجارب البحرية لسفينتها الهجومية البرمائية المتقدمة Sichuan Type-076، وهي خطوة تعبّر عن انتقال البحرية الصينية إلى مرحلة جديدة من التمدد العملياتي وطموح السيطرة عبر البحار.

هذا التزامن لا يمثل مجرد تطوّر عسكري منعزل، بل يعكس دينامية مركّبة تتجه من خلالها كلٌّ من روسيا والصين إلى إعادة بناء أدوات القوة وتغيير قواعد الاشتباك الاستراتيجي، وهو ما يعيد إحياء النقاش حول طبيعة التحول في النظام الدولي واتجاهه الفعلي. ثم ان هذا التزامن في التطوّر العسكري يطرح سؤالًا محوريًا: هل نحن أمام موجة جديدة من إعادة توزيع القوة العالمية.

 

اولاً: روسيا (هندسة الردع عبر القوة النيرانية منخفضة الكلفة)

يُظهر تسارع روسيا في إنتاج القنابل الموجّهة بأن موسكو انتقلت من مرحلة إدارة الحرب إلى مرحلة إدامة التفوق العملياتي بأدوات جديدة أكثر قدرة على تحقيق الردع عبر الاستنزاف. ففي الحرب الأوكرانية، تعلّمت روسيا درسًا استراتيجيًا صارمًا: أن التفوق ليس دائمًا رهين الأسلحة المتقدمة عالية التقنية، بل يمكن أن يُبنى عبر “تراكم القوة” و”وفرة النيران” التي تربك حسابات الخصم وتضاعف تكاليف الدفاع الغربية.

القنابل الموجّهة التي تملكها روسيا تمثل نموذجًا كلاسيكيًا للقوة غير المتماثلة في مواجهة الغرب- سلاح رخيص الثمن، سهل الإنتاج، صعب الاعتراض، وفعّال في الحرب طويلة الأمد. هذا التحول يعكس إعادة تعريف روسية لمنطق الردع، من ردع بالنوعية إلى ردع بالكم التكتيكي، وهو تحوّل تفرضه طبيعة الحرب الأوكرانية التي دمجت بين الحروب التقليدية وحرب الاستنزاف وحرب التكنولوجيا الرخيصة.

ولعلّ أهم ما يكشفه هذا المسار هو أنّ روسيا أصبحت تُعيد إنتاج قدرتها العسكرية بطريقة مستقلة عن السوق العالمية للسلاح، مستفيدة من شبكات الإمداد البديلة عبر آسيا، ومن توسّع صناعتها العسكرية داخليًا. هذا المعطى يؤكد أن موسكو لا تسعى فقط لحسم الحرب، بل لإعادة بناء” قدرة ردعية طويلة الأجل” أمام الغرب، بما يكرّس مكانتها كقوة عظمى قادرة على تحمّل الكلفة الزمنية.

 

ثانياً: الصين (التمدّد البحري وصناعة جغرافيا نفوذ جديدة)

في الطرف الآخر من أوراسيا، تكشف الصين من خلال سفينة Sichuan Type-076 عن مرحلة متقدمة من التحول الذي تعمل عليه منذ عقدين تحول يهدف إلى التحرر من قيود الجغرافيا القارية والانتقال نحو الجيوبولتيك البحري. فالسفينة، بما تمتلكه من قدرات هجومية برمائية وتشغيل طائرات مسيّرة ونظام إطلاق كهرومغناطيسي، تمثّل خطوة نوعية في بناء “قوة بحرية ممتدة” قادرة على العمل في أعالي البحار، وليس في المياه الإقليمية فحسب.

هذا التطوّر يغير شكل المعادلة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، حيث يتزايد الحديث عن انتقال الصين من استراتيجية “منع الوصول” (Anti-access/Area denial) إلى استراتيجية “إبراز القوة” (Power Projection). ومع دخول هذه السفينة الخدمة خلال عام 2026، ستصبح الصين أقرب إلى امتلاك القدرة على تنفيذ عمليات إنزال برمائي واسعة وهو سيناريو ذي حساسية قصوى في ملفات مثل تايوان وجزر بحر الصين الجنوبي.

الصين، عبر هذا المسار، لا تعزز فقط قوتها البحرية، بل تُعيد ترسيم حدود القوة في الإقليم. فالصعود البحري الصيني يدفع الولايات المتحدة إلى إعادة صياغة تموضعها الاستراتيجي في آسيا، ويحفّز دول المنطقة على بناء سياسات احتواء ناعمة وخشنة في آن واحد، ما يجعل المنطقة أقرب إلى “حرب باردة آسيوية” تتسم بالتنافس التكنولوجي والعسكري.

 

ثالثاً: توازي التحولات بين موسكو وبكين: نحو بنية أمنية موازية للغرب

رغم اختلاف البيئات العملياتية (جو- بر في أوكرانيا، وبحر- جو في شرق آسيا)، فإن التحول الروسي والصيني يلتقيان في جوهر واحد: إعادة هندسة التوزيع العالمي للقوة، وكسر احتكار الولايات المتحدة لأدوات الردع الاستراتيجي.

 

روسيا تبني قوة تُحاكي الحروب الطويلة، فيما تبني الصين قوة تُحاكي الصراعات المستقبلية المعقدة. كلاهما ينقل النظام الدولي نحو تعددية قطبية أكثر صلابة، وأكثر احتكاكًا، وأعلى كلفة.

 

 

هذا التوازي يعكس ما يمكن تسميته “التلاقي غير الرسمي للقوى الصاعدة”، وهو تلاقي لا يرتقي إلى تحالف كامل، لكنه يخلق بيئة دولية جديدة تُعلي من شأن المقاربة الواقعية في تفسير العلاقات الدولية: صراع قوى، توازن قوى، وقوة صاعدة تفرض نفسها بعيدًا عن النظام الليبرالي التقليدي.

 

مما يتجلى ذلك عبر انعكاسات على بنية النظام الدولي

هذه التطورات تُعيد إلى الواجهة مفاهيم مركزية في العلاقات الدولية:

  • توازن القوى (Balance of Power): الغرب لم يعد الطرف الوحيد القادر على فرض قواعد اللعبة.

  • التعددية القطبية (Multipolarity): مع صعود الصين وتكيّف روسيا مع العقوبات، يصبح النظام أكثر تشتتًا وأقل خضوعًا للهيمنة الأميركية.

  • الردع (Deterrence): يتحوّل من نموذج يعتمد على القوة النووية والصواريخ الباهظة، إلى نماذج جديدة تعتمد على الكم الرخيص أو النوعية الدقيقة.

  • النفوذ الإقليمي (Regional Hegemony): كل من روسيا والصين يسعيان لتثبيت نفوذ جغرافي يتجاوز حدودهما التقليدية.

وترتب هذه التحولات ارتفاعًا في المخاطر العالمية، من عسكرة الممرات البحرية إلى توسع الحرب بالوكالة، وعودة التنافس الجيوبولتيكي بصيغته الصلبة.

 

 الخاتمة

ما يجري ليس مجرد تحديث عسكري، بل تحوّل بنيوي في منطق القوة الدولية. فروسيا تعيد تعريف الردع من الأرض والجو عبر قوة منخفضة التكلفة وعالية التأثير، بينما تبني الصين معادلة جديدة للسيطرة عبر البحر وتوسيع الجغرافيا العملياتية.

وفي تزامن الحدثين، تظهر ملامح العالم الجديد الذي لطالما الكثير تحدثو عنه: عالم تتراجع فيه مركزية القوة الأميركية، ويتسع فيه نطاق القوة الصاعدة، وتتغيّر داخله قواعد اشتباك النظام الدولي نحو مزيد من الاضطراب والاحتكاك الجيوبولتيكي.

بهذا المعنى، يمثّل الحدثان مؤشرًا رئيسيًا على أنّ النظام الدولي في نهاية 2025 يدخل مرحلة إعادة تشكّل استراتيجية، تتداخل فيها القوة الصلبة والتكنولوجيا والقدرة على التمدد الإقليمي، في مسار يعيد صياغة مصادر القوة والنفوذ في القرن الحادي والعشرين.

 

 

Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?

Reload Reload document
| Open Open in new tab

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى