الاكثر قراءةتحليلات و آراءغير مصنف
الجيوبوليتيك إلى أين.. التطور التكنولوجي وإعادة صياغة المفاهيم

بقلم: د. فراس عباس هاشم
جامعة البصرة / كلية القانون
هل يعكس جوهر الجيوبوليتيك حاجة إنسانية ورغبة ملحة وضرورية تجسد غايات أو أهداف أو مصالح حيوية أم إنه جاء نتيجة للترف الفكري والتطور المعرفي في مجال الجغرافية، لا سيما فيما يتعلق بإعادة تنظيم المعلومات الجغرافية في إطار اهتمامات الدول الخارجية ببيئاتها المكانية وعلاقة ذلك بمشروعاتها التوسعية، يضاف إلى ذلك أن الجيوبوليتيك نمت ونضجت مرتكزاتها الفكرية ومقارباته الفلسفية في احضان الجغرافية، حيث أخذت تستولد بناء فرضياتها وأطروحاتها التقليدية منذ العقود الماضية.
ومن هنا، أن ولادة مقاربات الفكر الجيوبوليتيكي في القرن التاسع عشر كمعرفة مستحدثة في كتابات المفكرين الجيوبوليتيكيين “كفردريك راتزل” أو “رودولف كيلين” أو” كارل هاوسهوفر “وغيرهم، عملت على إعادة فهم التفكير في حركية وديناميكية مصالح الدول في ظل التحولات التي استجدت في البيئة الدولية آنذاك، وخاصة تلك المسائل المتعلقة بالأطر المعرفية للجيوبوليتيك بما هي مقاربات عابرة للحدود الجغرافية، فهي قراءات تقدم أيضاً موضوعات جديدة بعموميتها ذات صلة بعلاقة الإنسان بالبيئة الطبيعة، وما يقتضيه ذلك من انتزاع الحقوق في الوجود أو البقاء المكاني، في إطار صراعي يفرضه صراع المصالح بين المجتمعات، وأثر ذلك على وعي الإنسان بتركيز الاهتمام على مطالبة المكانية.
أضف إلى ما سبق، أن نشئ هذا العلم وفلسفته بحسب ما يظهر من الواقع لم يكن مستنداً إلى معايير أخلاقية وقيمية في توصيفه لسلوكيات الفواعل في النظام الدولي، وهو أمر لا يخرج من ممارسات مدفوعة بتطلعات توسعية للسيطرة على اليابسة أو البحار أو المجالات الحيوية (Lebensraum) تهدف إلى تعظيم دورهم وقدراتهم وتصبح تلك فضاءات التفاعل مختبرات لصقل استراتيجياتهم وإعادة ترتيب الأفكار الجيوبوليتيكية، فكانت ولادة هذا العلم نتيجة للتحديات التي كانت تواجه هذه الدول الطامحة في توسعة خرائط رقعتها الجغرافية، وكسر قيود الواقع وتجاوز حدوده ضمن نطاق سيادتها في ظل الاستكشافات الجغرافية، باتت هذه المعطيات تدفع بإدراكات الدول على نحو الخصوص لتوليد أفكار إبداعية تحدد سلوك سياسات بلدانهم، وبناء “هياكل جديدة للنظام الدولي” يعاد تشكيلها.
إعادة تفكيك المفاهيم التقليدية للجيوبوليتيكيا
جاءت المقاربة الجيوبوليتيكية في ظل فترات تاريخية في سياقاتها الزمنية أو المكانية تتسم بالتعقيد وتسارع الأحداث في البيئة الدولية، إذ تحولت إلى أداة للكشف عن الخلل في تعريف الدول لمصالحها، وأداة تجنب الدول التفريط في قيمتها ومكانتها الدولية، من خلال أثارة تساؤلات لها دلالاتها الاستراتيجية بشأن رسم اتجاهات التحرك وتوسعها ونقاط التوقف لتمددها، بحيث يصبح لتلك السياسات التي ترسمها الدول محاكاة للخرائط الذهنية(mental maps) التي تبحث فيها الدولة عن مصالحها أو الحد من المخاطر المهددة لأمنها القومي، فضلاً عن تفضيلات الاستراتيجية من المنافع والمحفزات الاقتصادية أو الاستراتيجية الآخذة بالتصاعد التي تكون عابرة للحدود الجغرافية.
لذلك، لا غرابة في أن تستلهم الجيوبوليتيك الأحداث والوقائع التاريخية وتجعلها محور اهتمامها، سيما وأن أدراكات الدول تجعل من تلك السرديات التاريخية محورها في جغرافية متخيلة تتجاوز حدودها السيادية، ومن ثمة تعمل على إعادة إنتاج تطلعاتها اتجاه محيطها الخارجي والفضاءات الحيوية التي تشكل هويتها الجيوبوليتيكية، من أجل احتوائها على المدى البعيد، ونعني هنا كيف يمكن أن يفكر صناع القرار من خلال قرائن التاريخ وأحداثه في تبني لتوجهات إقليمية أو عالمية، وبالتالي يفتح لنا فهم التفكير لذلك الواقع آفاقا جديدة من المعرفة، من دون إغفال الفرق في تطور المباني الفكرية للجيوبوليتيك بإدخالها للأبعاد الثقافية والإعلامية إلى جانب الاهتمام بالخطاب والهوية في تاريخ تطورها المعرفي، وعدم اقتصار منظومتها الفكرية على الحيز المادي للجغرافية.
وهنا، تعمل الجيوبوليتيك على استدعاء السياسات الاستراتيجية للدول من تاريخ تطورها وفهمها بشكل واقعي، بما في ذلك حالات النكوص التي رافقت سياساتها تجاه محيطها الإقليمي أو الخارجي في أحايين كثيرة، ما يعني إعادة صياغة خياراتها الجيوبوليتيكية ومقارباتها للأحداث في سياق أدراك دورها المرتبط بتحديد نطاقات نفوذها وتأثيرها الجغرافي. لذلك يذهب العديد من المفكرين الجيوبوليتيكيين إلى تقسيم العالم إلى مناطقة جغرافية مختلفة وبحسب أهميتها الحيوية منها مناطق التصادم ومناطق الاتصال، ومناطق تقع خارج المفهومين انفي الذكر أي بمعنى أنها مناطق خارج دائرة الاهتمام الدولي.
التطور التكنولوجي وصعود التكنو-جيوبوليتيك
حريا بنا القول أن الأفكار الجيوبوليتيك تتسم بالديناميكية في موضوعاتها بوصفها حقلاً معرفياً يعاد تعرفيه مع طبيعة التطورات المتسارعة التي تشهدها العلوم المعرفية وعلى نحو خاص التطورات التكنولوجية، لذا يسعى المفكرين الجيوبوليتيكيين اليوم إلى إيجاد وسائل التكيف مع التغيرات التكنولوجية بمستوياتها المتعددة سواء في المجال السيبراني (Cybersecurity) أو مجال الذكاء الاصطناعيArtificial intelligence) ) أو المجال المعلوماتي (Information Technology)، وهذا ما يعني في الواقع تحول في مجالات القوة، بما في ذلك المعايير ذات الصلة في مقاربات الجيوبوليتيك المتجاوزة للفضاءات الجغرافية المادية والموقع والموارد، وهذا الأمر من شأنه أن يفضي إلى إعادة تعريف وظيفة القواعد التي تعمل في إطارها الجيوبوليتيك، نتيجة لاستثارتها من قبل منظومة التطور التكنولوجي التي أصبحت المحرك الذي يهمين على ساحات التنافس الجيوبوليتيكية، الأمر الذي أعاد إنتاج خرائط جديدة على الحدود الافتراضية. أو أن يتم توظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي من أجل توسيع آليات تفكير الإنسان في اتخاذ القرارات السياسية بعيداً عن الأنماط التقليدية لأدوات التفكير، التي تعزز الكفاءة في قراءات الأحداث الدولية.
وفي الوقت نفسه، أن واقع الدول وحدود الطبيعية ونطاق سيادتها أصبحت متغيرة بسبب التطور التكنولوجي وللسبب نفسه حاولت والجيوبوليتيك استعادة تموضعها داخل دوائر الاهتمام العالمي، والتي تخشى أن تتلاشى مكانتها ووجودها في بنية النظام الدولي، من ناحية القوى الجديد التي تحاول رسم ملامح النظام الدولي الجديد، ضمن هذا الأفق أصبحت “الجغرافية الافتراضية” أو “الحدود الاصطناعية”Artificial Boundaries)) المعنى الذي تقاربه أطروحات النهج الجيوبوليتيكي الواقعي الجديد كمصدر للقوة.
بعبارة أخرى، نتج عن تلاشي الحدود المادية مفهوم اصطلاحي جديدة ضمن مكونات الفكر الجيوبوليتيكي، وهو “التكنوجيوبوليتيك”(Techno-Geopolitic) كمصطلح مستحدث يعبر عن تأثيرات التطور التقني في الحدود الجغرافية والتي تعد أهم مجالات الاهتمام الجيوبوليتيكي، إذ أعاد المفهوم الجديد تفسير الحدود الجغرافية نحو فضاءات افتراضية (Virtual (Spaces من الحدود اطلق عليها الخبراء والمختصون أمثال المفكر البرتغالي” برونو ماكيش” بـــــ “الأراضي المصطنعة” أو “فضاءات التفاعل” (Spaces Of Interaction)، ومن هنا أحدثت الثورة الشاملة للتطور التكنولوجي تغيرات في منظومة الحدود الجغرافية التي تقوم على الموقع والمساحة والموارد أي أنا أصبحنا أمام فضاءات أو حدود رقمية.
لذلك، أن هيمنة بعض الدول المتقدمة في الصناعات التكنولوجية والموارد الداخلة في تلك الصناعات من المعادن النادرة، ستعيد صيغ تحالفاتها، وبالتالي سوف يزيد من احتمالات توسيع التنافس في مجالات غير محصورة ضمن نطاق جغرافي واحد مع تعزيز قدراتهم على خوض صراعات افتراضية طويلة الأمد، ستكون لها تداعيات سلبية على البشرية سواء في نشوء حروب عالمية أو غياب الاستقرار الدولي. وهكذا فالخصوم باتوا في موضع أكثر للمنافسة للسيطرة وتعزيز النفوذ على الفضاء الافتراضي، وأصبحت الدول خارج نطاق مناطقهم الجغرافية تمارس نفوذها في ظل الحدود الآخذة في التلاشي بسبب التطور التكنولوجي.
أخيراً، من شأن هذا التقدم في الثورة الصناعية الرابعة التي أصبحت كما يرى العديد من الخبراء الاستراتيجيين منتجاً لتطور تكنولوجي ومعرفي يزيد من السيطرة على الفضاءات الواقعية أو الافتراضية، أي أن التكنولوجية أصبحت أداة جيوبوليتيكية تماثل أهمية الجغرافية المادية في تحديد القدرة على السيطرة على المجالات الحيوية والتحكم فيها، عبر التحكم في تدفق المعلومات والبيانات المعرفية في الفضاءات الافتراضية، والتي توهله نحو وضع قواعد جديدة تعيد صياغة المفاهيم الجيوبوليتيكية، وبالتالي تفرض هذه المعطيات مجالين لهام صله بالجيوبوليتيك والتطور التكنولوجي، فيلاحظ أولاً التراجع المطرد لدور الحدود الجغرافية المادية. والثاني تزيد من حضور التكنوجوبوليتيك في المقتربات المنهجية والمعرفية للفكر الجيوبوليتيكي.



