الاكثر قراءةتحليلات و آراءغير مصنف

نهاية الدين عند مارسيل غوشيه

بقلم: أ.د. عبير سهام مهدي

كلية العلوم السياسية / جامعة بغداد

 

يرى مارسيل غوشيه أن الدين في الغرب قد دخل مرحلة “نهاية الدين” بمعنى أنه لم يعد هو المنظم البنيوي للمجتمع والسياسة، بل أصبح ظاهرة فردية. كما يرى أن هذا التحول مرتبط بعملية “فك السحر عن العالم” التي بدأت مع الحداثة، حيث فقد الدين سلطته التنظيمية على المجتمع. عليه قسمت الورقة الى محورين: تناول الاول مفهوم الخروج من الدين عند غوشيه وكرس المحور الثاني لمناقشة مسارات الخروج من الدين.

 

المحور الاول: الخروج من الدين

قبل تحديد معنى الخروج من الدين يدعونا غوشيه للتسليم بالحقيقة التالية: إن الخروج من الدين مفهوم لا يشير لحدث بعينه، بل إ نه سيرورة أنتجتها تحولات اجتماعية وسياسية شهدها المجتمع الأوروبي تحديدا وبصورة أكبر في فرنسا.(1)

 ولأجل ذلك يدعونا غوشيه إلى التفريق بين حركة العلمانية من الدين والقناعات الدينية المقاومة لها، إذ إن التأثير التنظيمي للدين على الوجود الجماعي شيء، بينما الجذور الفردية للمعتقد الديني شيء آخر، هذا الأخير يمثل إيمان الناس الذي يعرف استقلالا نسبيا مقارنة بالأول.(2)

فقد عمد غوشيه على استخدام مقولة الخروج من الدين بدل العلمانية، فهو القائل: ” هذا التعبير ويقصد هنا “الخروج من الدين”، وهو تعبير يبدو لي أكثر دقة من تلك المستخدمة عموما، مثل “العلمانية” أو “العلمانية” الكلاسيكية، وهي مفاهيم في رأيي تمثل إشكالية، لأنها تأتي إلى حد كبير من الأديان نفسها: نحن علمانيون فيما يتعلق برجال الدين، وعلمانيون فيما يتعلق بمجال الأشياء المقدسة، أو السماوية مباشرة. إن “الخروج من الدين” أكثر حيادية بكثير من العلمانية، فهو يشير إلى الظاهرة العميقة وبخلاف ما يذهب إليه فيبر، فالخروج من الدين المقصود لديه ليس بالضرورة من المعتقد الديني للأفراد، بل من التنظيم الديني للعالم(3).

ينطلق غوشيه، وهو يناقش الدين في عالم الحداثة، وتشكلها وتأثيرها على مصير وديناميات الدين، من منطلق أساسي يعتبر فيه أن زمن الحداثة الغربية، خصوصا الأوروبية هو زمن الخروج من الدين. غير أن فيلسوفنا الفرنسي المتأثر بالمدرسة البنيوية، يقول إن “هناك أصلاً مسيحيًا للحداثة، ذلك ما أؤمن به حقًّا، لكن الأصل ليس بالضرورة أن يكون المدخل إلى بيان مقترحات الحداثة”. ولذلك، فإن العلمنة عند غوشيه ليست أيديولوجية ولدت من رحم الحداثة السياسية، وليست تمثلات كوسموبوليتية لفيلسوف معزول عن الواقع الأوروبي وتطور مجتمعاته في زمن صراعات الأصولية، وعودة الدين للفضاء العام الغربي نفسه.(4)

وتبعا لذلك، يرى غوشيه أن أطروحة “نزع السحر على العالم” وتهميش الدين والتحَاكُم للماضي تعني الخروج من الدين. وأن عملية النزع، لا تمثل قطيعة مع الإيمان بالله، و” لا تعني أن الناس باتوا لا يؤمنون بالله فهم لم يكونوا أقوياء الإيمان به من قبل في كل الأحوال!…، إن إحدى أولى المؤشرات على الدخول في الحداثة بصفتها خروجًا من الدين هي الإصلاح البروتستانتي الذي وُلِدَ رد فعل على ما عرف بالإصلاح الكاثوليكي” ففي زمن الإصلاح هذا تراجعت بشكل قوي هيمنة الدين على البناء والتنظيم المجتمعي، وبدأ عصر الفرد باعتباره «بنية جديدة» في المجتمع الغربي الحديث.(5)

ولهذا، يدقق غوشيه قصده من فكرة الخروج من الدين بالقول: “هو خروج عن التنظيم الديني للعالم”،  لهذا السبب لم نفهم المجتمعات القديمة، حيث إنها كانت منظّمة دينيًّا وكانت تحدّد في الوقت نفسه نوع السلطة السائدة فيها، ونوع العلاقة بين الأفراد وشكل المجموعات… هذا البنيان الكامل هو الذي راح يتفكّك شيئا فشيئًا في مجهود استغرق خمسة قرون وصولاً إلى عصرنا.(6)

 

 بعبارة اخرى أن “نهاية الدين” عند غوشيه لا تعني اختفاء الدين من حياة الناس كممارسة فردية، بل تعني خروجه من كونه منظماً بنيوياً للمجتمع اي ان نهاية الدين ليست بالضرورة نهاية التدين.(7)

 

المحور الثاني: مسارات الخروج من الدين

  • اعتبر غوشيه أن المسيحية بسبب التجسد، ووجود الكنيسة؛ هي دين الخروج من الدين وبعبارة أخرى، لقد قامت المسيحية بفصل الإيمان عن السياسة، الشيء الذي أدى إلى خروج المجتمعات من الأديان، وكما عبر عن ذلك بقوله :”إن المسيحية هي ديانة الخروج من الأديان”.(8)

  • يرى غوشيه أن الديمقراطية قوضت الدين، فأدى إلى انسحاب الدين من العالم المعاصر، ومن جهة اخرى تسببت الثورة العلمية في تراجع المنظور الديني للعالم المادي وهو ما أضعف تأثير الدين على التفكير العلمي ومناهج تفسير العالم المادي، وأن انسحاب الدين يظهر بشكل أكبر في الحقل السياسي والعلمي، حيث الدين منسحب تماماً إلا على صعيد المجال الخاص، ولكن مع ذلك يحافظ الدين على البعد الروحي.(9)

  • الإصلاح البروتستانتي الذي ولد رد فعل على ماعرف بالإصلاح الكاثوليكي، والدين عند غوشيه هو في اصله دين البشر للعالم الآخر وللكائنات العلوية وللقوى الفائقة، والدين يتضمن أولاً مبدأ الخارجية، أي القول بأن المجتمع يستمد قوانينه من خارجه لا من ذاته، ويتضمن ثانياً مبدأ المغايرة، أي القول بأن البشر مدينون بمعنى وجودهم إلى غيرهم وليس إلى بشر مثلهم، ويتضمن ثالثاً مبدأ الانفصال، أي القول بوجود فارق أو مسافة بين المجتمع ومصدره، بين الجماعة والمبدأ المؤسس والمشرع لها. وهذا البنيان الكامل للدين اخذ بالتفكك شيئاً فشيئاً في مجهود استغرق خمسة قرون وصولاً إلى عصرنا، بموازاة الإصلاح الديني، ثمة حدث برز على أنه معاصر، هو ظهور السياسة الحديثة الذي ولد على مدى قرن كامل مفهوم الدولة الحديثة، يمكنك أذن أن نرى كيف أن مساراً سياسياً ومساراً دينياً يغيران معطيان الإيمان بشكل كلي، في هذا السياق الخطي للتاريخ، احتلت السياسة الجغرافية التنظيمية والمعرفية التي كان الدين يسكنها، ويستمد قوته في المجال العام، وتشكيل وعي الإنسان، ومن ثم تجدد الوعي الاجتماعي بالتغير الحاصل، ونزع الطابع اللاهوتي عن مسار التاريخ، ومعه تسقط التبعية الدينية، وأنتقل الفرد والمجتمع إلى عصر عرف تحولاً كبيراً للأيديولوجيا بتعبيراتها الجذرية والمعتدلة خلال الثلاثين سنة الماضية، مما أدى بدوره إلى إدخال الدين في عالم الاستقلالية الديمقراطية المعاصرة.(10)

 

وبذلك يرى غوشيه أننا نجد أنفسنا في عصر يتجه فيه المعتقد الديني إلا يكون سياسياً، فيما يتجه المعتقد السياسي ألا يكون دينياً، وهذا يدخلنا في عصر جديد من تاريخ الإنسانية، يتميز بحسب أطروحة غوشيه بأربع خصائص أساسية يمكن أجمالها فيما يلي:

 

  1. تراجع الدين في تكوين مؤسسات الدولة والمجتمع المعاصر.

  2. خصخصة الدين، واحتلال البعد الفردي للدين مكان الصدارة أمام المعتقد الجماعي ودوره في الحياة العامة الأوربية خاصة.

  3. الفردانية الدينية، حيث أصبح الدين تفسيراً وممارسة، يخضع لنوع من التصور الفردي، بعيداً عن مفهوم الجماعة للدين الذي كان سائداً إلى حدود القرن التاسع عشر.

  4. الابتعاد عن الممارسات الدينية الكنسية، حيث ظهرت سلوكيات غير مؤسساتية للدين تؤمن بالنسبة الدينية، وتخرق النسق المعرفي الكنسي للدين، ويظهر ذلك في موجه الخروج الكبير عن نمط المنظومة الدينية، باعتبارها نسقاً واحداً وثابتاً ولا يتحقق الإيمان إلا بالتبعية الدينية للكنيسة، إذ أثبتت الدراسات المتعددة في مختلف الدول الأوربية، ازدياد مهماً في نسبة المتدينين المخالفين للثقافة الدينية والسلوكية للكنيسة الكاثوليكية والبروتستانتية.(11)

 

الخاتمة:

  • قصد غوشيه بأطروحة” الخروج من الدين” ليس مجرد الانفصال عن الدين، بل هو تحول في طبيعة الدين وعلاقته بالمجتمع، حيث يظهر الدين بوجه جديد يتماشى مع الحداثة.

  • كما أن أطروحته يبدو أنها تنطبق على بعض المجتمعات الغربية فقط أي تلك المجتمعات التي عرفت سيرورة تمايز وتفاضل في حقولها وأنساقها الاجتماعية، وفصلت الديني عن السياسي، وتبنت الديموقراطية، وطورت ثقافاتها على أسس علمية وقيم كونية وفق منظور منفتح، وهو ما زعزع أركان عناصر الثقافة التقليدية لهذه المجتمعات، الذي يعتبر الدين أوضح وجوهها، ذلك ما أعاد صياغة الدين حسب ثقافة الحداثة (السياسية والحقوقية والفكرية)، فالأمر كما يلاحظ “أوليفييه روا” لا يتعلق بانسحاب الدين كليا وإنما بتغيير أشكال حضوره في العالم الحديث.

  • كانت طروحات غوشية احادية الجانب اذ ركز على ضعف دور الدين او تغير وظيفته او انسحابه من الفضاء العام، متناسيا وجود تيار اخر مغايرا في طروحاته عن ما ذكره غوشية، تيار تحدث عن تعاظم دور الدين في الفضاء العام عرف بأسم تيار ما بعد العلمانية الني بشرت بنهاية العلمانية متمثلة بطروحات هابرماس وتشارلس تايلر بينما يصر غوشيه على انتصار العلمانية رغم تعاظم حضور الدين.

 

  • مارسيل غوشيه: فيلسوف ومؤرخ فرنسي ولد عام 1946، مدير البحوث بمدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية. ينظر: حيدر جواد السهلاني، جدلية الدين والسياسة عند مارسيل غوشيه، في 15/8/2025:
  https://almothaqaf.com/aqlam-3/944610
(1) بوسر السبتي، الدين والعلمانية عند مارسيل غوشيه، اطروحة دكتوراه مقدمة الى كلية العلوم الاجتماعية والانسانية/ جامعة مولود معمري تيزي وزو، 2024، ص116.
(2) المصدر نفسه ، الصفحة نفسها.
(3) المصدر نفسه ، الصفحة نفسها.
(4) خالد يايموت ، فك السحر عن العالم… أم عودة الدين إلى الحياة العامة؟، في 7/7/2025: https://aawsat.com/home/article/799616
(5) المصدر نفسه.
(6) يوسف محسن، مارسيل غوشية : استكشاف العلاقة بين الدين / الديمقراطية، الحوار المتمدن، العدد 2750، في 7/7/2025:
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=182403
(7)  سيدينا سيداتي، الاديان التوحيدية  والسياسه عند مارسيل غوشيه، في 10/7/ 2025:
https://www.aljazeera.net/blogs/2021/2/21
(8) عبد العزيز راجل، الدين في ظل الدولة الديمقراطية المعاصرة،في 10/8/2025:
https://elaph.com/Web/opinion/2012/4/727453.html
(9) حيدر جواد السهلاني، مصدر سبق ذكره.
(10) المصدر نفسه.
(11) المصدر نفسه.

 

 

Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?

Reload Reload document
| Open Open in new tab

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى