الاكثر قراءةدراساتغير مصنف

“استراتيجيات التكيف” الفكري السياسي في سوريا: تحليل سوسيو – سياسي

بقلم: د. ساعود جمال ساعود

جامعة دمشق

 

 

برزت ظاهرة تقلب المواقف السياسية وعدم الثبات فيها لدى شرائح واسعة من السوريين منذ فترة مبكرة من القرن التاسع عشر إمتداداً إلى القرن الواحد والعشرين، ولم تكن وليدة اللحظة، بل هي نتاج تراكم تاريخي يعود جذوره إلى عوامل جيوسياسية، اجتماعية، واقتصادية. هذه الظاهرة، التي غالباً ما تُوصف بالبراغماتية أو “التكيف مع الواقع”، نشأت من سياقات استعمارية ودكتاتورية فرضت على السوريين التنقل بين الولاءات لأجل البقاء.

 

التحقيب التاريخي لظاهرة التقلب السياسي:

 

تعود الجذور إلى سقوط الإمبراطورية العثمانية في أوائل القرن العشرين، حيث قسمت اتفاقية سايكس-بيكو (1916) المنطقة بين بريطانيا وفرنسا، مما أدى إلى تقسيم سوريا الحديثة وزرع بذور التقلبات السياسية، هذا التقسيم لم يكن جغرافياً فحسب، بل أثار هويات طائفية وعرقية كانت خاملة تحت الحكم العثماني، الذي اعتمد على نظام “الملل” (الطوائف) لإدارة التنوع.

 

أولاً: الحقبة العثمانية (1516-1918): كانت سوريا جزءاً من الإمبراطورية العثمانية، حيث تباينت المواقف السورية بين الولاء للسلطان (كرمز إسلامي) والتمرد المحلي ضد الضرائب والتجنيد، وعلى سبيل المثال، في القرن التاسع عشر، شهدت المنطقة ثورات محلية ضد الإصلاحات العثمانية (مثل تنظيمات 1839)، لكن الكثيرين عادوا إلى الولاء عندما هددت التهديدات الخارجية (مثل الغزو الروسي أو البريطاني)، هذا التقلب كان فسر شعبياً آنذاك تحت دوعاوي ما يعرف اليوم بالبراغماتية، حيث كان السوريون يدعمون الحكم العثماني للحفاظ على الوحدة الإسلامية ضد الاستعمار الأوروبي، لكنهم انقلبوا عليه عندما أصبح عبئاً اقتصادياً، هذا السياق زرع ثقافة “التكيف مع القوي”، حيث كانت الولاءات مشروطة بالمصلحة الشخصية أو الجماعية.

ثانياً: الانتداب الفرنسي) 1920-1946): أدخل الفرنسيون سياسة “فرق تسد”، حيث قسمت سوريا إلى دويلات طائفية بشكل عزز التقلبات، إذ كانت الطوائف تتأرجح بين التعاون مع الفرنسيين (للحصول على امتيازات) والثورة ضدهم، فما كان من الفرنسيين إلا أن قاموا بتجنيد اجنّدوا أقليات في الجيش، مما أثار عداء الأغلبية، وأدى إلى تقلبات في الولاءات، وصولاً لمرحلة ما بعد الاستقلال، حيث استمر هذا الإرث في شكل عدم استقرار سياسي، حيث شهدت سوريا 20 انقلاباً بين 1946 و1970، مع تقلبات في التحالفات مع الغرب أو الشرق السوفييتي.

ثالثاً: حقبة الأسدين (1970-2024): وفّر الأسد الأب خلال استلامه الحكم في سوريا جميع مقومات الدولة للسوريين، وكان يستمد قوته ووجوده من التأييد الشعبي، جراء الإصلاحات الهيكلية وبنائه دولة عرفت ما لم تعرفه قبله ألا وهو الاستقرار السياسي والأمني، ومشاركة الشعب بجميع فئات بالعملية السياسية وإدارة دفة الحكم، على الرغم من أن طبيعة الظروف والمتغيرات التي مرت بسوريا اقتضت شيئاً من الاستبداد واستخدام القبضة الأمنية لأحداث حالة من الضبط والسيطرة، ولقد نجح الأسد بخلق حالة من الانتماء للدولة عبر البوابة الاقتصادية لا سيما القطاع العام الذي ولّد شعوراً بأن دولة قوية مسؤولة عن مواطنها تقف خلفه وتتولاه، ويكفي دلالات التأييد الشعبي مناظر المسيرات المؤيدة،

التي وصلت لحد المغالاة والمبالغة من قبل الشرائح كافة لا شريحة بعينها، وصولاً لحقبة بشار الأسد التي طغت عليها اللجوء إلى القبضة الأمنية والعسكرية، وفرض السياسات الخارجية والأيدولوجيا التي تتبناها الدولة بالقوة، ولكن الأمر ذاته تكرر والمظاهر ذاتها أيضاً، مسيرات سمتها المغالاة، وجيش شعاره” بالروح بالدم نفديك يا بشار” ، إلا أن حانت- لأسباب عديدة- ساعه السقوط، ليخرج الشعب المنتمي لشريحة المؤيدين للأسدين بمظاهرات مفعمة بالشتائم والسب والطعن واللعن والتنديد بسياسات الأسدين، هو تحول نوعي انقلابي، لا يبرره الخوف من القبضة العسكرية أو الأمنية بقدر ما تبرره الأسباب الفكرية والاجتماعية، مما يضع المواطن السوري في خانة ” المتقلب أو المنافق سياسياً والمتنصل فكرياً من مبادئه، الأمر الذي يحتاج لتوصيف دقيق ومن ثم الوقوف على أسبابه وبطريقة علمية موضوعية وأوصاف لئن شحنت بالغضب، فهي نقد بناء ودعوة لتبني موقف سياسي واضح وصريح، ومعتقد فكري يؤسس عليه.

 

ما أظهره التاريخ: سمات الموقف السياسي لدى المواطن السوري: من خلال الجذور التاريخية السابقة والأمثلة، يمكن استخلاص سمات رئيسية تحدد الملامح الخاصة بالمواقف السياسي عند المواطن السوري، والتي توجز بالآتي:

  1. البراغماتية والتكيف: يميل السوريون إلى دعم القوي الحاكم للحفاظ على الاستقرار الشخصي، لكنهم ينقلبون عندما يهدد ذلك مصالحهم، وهذا ما يفسر أنه انتهازية، واستجابة لتاريخ من القمع والتدخلات بالوقت ذاته.

  2. التأثير الطائفي والعرقي: الولاءات غالباً ما تكون طائفية، مما يجعلها غير مستقرة ومعرضة للتلاعب الخارجي، ويكفي أن يكون الحاكم من دين المواطن حتى يؤيده في سياساته، لذا لا يعول عليه، وغالباً ما يتحول إلى عنصر خامل غير نشط لا يجدي نفعاُ في العمل السياسي.

  3. الخوف من الفوضى: يفضل الكثيرون الاستقرار حتى لو كان تحت دكتاتور، لكن التراكم يؤدي إلى انفجار، كما في 2011 و2024، مما يبرز الحاجة إلى تغليب الأولوية التي هي توضيح الموقف السياسي وإشهاره، حتى لا يؤدي التنكر له إلى نتائج عكسية تمس سمعة المواطن.

  4. التأثر بالخارج: المواقف تتقلب مع تغير التحالفات الدولية (مثل التحول من الغرب إلى روسيا في عهد الأسد)، والعكس بعد سقوط الأسد من التحول نحو الغرب والذي كان بالأمس عدو (إسرائيل)، وهذا ما لوحظ عند شريحة الإعلاميين، الذي كانوا يزرفون الدموع عند ظهور الأسد على الشاشات، الأمر الذي يفسره الخوف الوجودي والتلون الفكري والسياسي على حساب المبدأ والكرامة والقناعة.

بالنتيجة، إن هذه السمات تجعل الموقف السوري مرناً لكن غير موثوق، مما يعيق بناء دولة مستقرة، ولقد وظفت في حقبة ما بعد انهيار النظام عام 2024، والتي أخذت منحيين: سلبي وإيجابي، والمنحى الإيجابي تمثل بما شهدته الفترة الأولى من دعم شعبي واسع للنظام الجديد بسبب الأمل في الإصلاح، لكن سرعان ما ظهرت تقلبات بسبب الطائفية، والتدخلات ( (إسرائيل) في الجنوب، تركيا في الشمال). على سبيل المثال، بعض المناطق العلوية والدرزية والمسيحيون والسنة المعتدلون ترددت في الولاء، مما يعكس البراغماتية التاريخية.

 

تحليل ظاهرة التلون الفكري والسياسي في سورية:

يُستخدم مصطلح “التلون الفكري” كتشبيه مجازي يعتمد على الشبه بين آلية التلون الدفاعية لدى الحيوانات وبين الأفراد الذين يغيرون آراءهم ومواقفهم بسرعة للتكيف مع الظروف السياسية أو الأمنية المتغيرة، مع إغفال الالتزام بالمبادئ السابقة، مما يدخلهم في دائرة “التكيف السياسي”. يظهر ذلك في السياق السوري، حيث شهدت بعض الشرائح الاجتماعية تحولاً في مواقفها تجاه النظام السابق بعد سقوطه في 8 كانون الاول 2024، بعد أن كانت تعبر عن دعمها له من خلال المسيرات والتصريحات العامة. ومع ذلك، فإن الوقائع الأخيرة في سوريا تشير إلى وجود تقلبات في المواقف السياسية والفكرية، غالباً ما تكون مدفوعة بعوامل خارجية أو داخلية، مما يطرح تساؤلات حول الثبات على المبادئ. ولا يقتصر هذا على الشرائح العامة، بل يمتد إلى بعض المثقفين السوريين من أكاديميين وإعلاميين ورجال دين وسياسيين وعسكريين، الذين غيروا مواقفهم بعد السقوط، مما يستدعي دراسة أعمق لأبعاد هذا المفهوم.

 حول تحليل في مضامين المصطلح وأبعاده، يشير مصطلح “التلون الفكري والسياسي” إلى المرونة المفرطة التي قد تؤدي إلى تنازلات عن المبادئ، حيث يتكيف الفرد مع التغييرات في الظروف المحيطة، حتى لو تعارضت مع آرائه السابقة. ويرمز المصطلح إلى ثلاثة أبعاد رئيسية في المنظور الفكري، خاصة في المجال السياسي، نوجزها كالتالي:

  1. الافتقار إلى المبادئ الثابتة: غالباً ما يفتقر هذا النوع من الأشخاص إلى مجموعة ثابتة من المبادئ والقيم التي توجه سلوكه، مما يجعله عرضة للتأثر بالآراء والاتجاهات السائدة في البيئة المحيطة.

  2. التكيف من أجل المصلحة: غالباً ما يكون الدافع لتغيير المواقف هو تحقيق مصلحة شخصية، سواء كانت مادية أو اجتماعية أو سياسية.

  3. غياب الهوية الفكرية: الشخص الذي يغير مواقفه باستمرار يفتقر إلى هوية فكرية وسياسية واضحة، فهو لا يمتلك مجموعة متماسكة من الأفكار والمعتقدات التي تميزه عن الآخرين.

 

الثبات الفكري عند المثقفين: التعريف والأمثلة

الثبات الفكري هو قدرة المثقف على التمسك بمبادئه وقيمه، والدفاع عنها حتى في مواجهة المعارضة والضغوط، وهي صفة تميز المثقف الحقيقي وتمكنه من التأثير في المجتمع وتغيير الواقع. من أمثلة الثبات الفكري البارزة: الفيلسوف سقراط اليوناني الذي فضل الموت على التنازل عن مبادئه، وتم إعدامه بتهمة إفساد الشباب وتقويض الدين، لكنه ظل وفياً لفلسفته التي تدعو إلى البحث عن الحقيقة والسؤال المستمر، والزعيم الهندي غاندي الذي تميز بالتزامه الصارم بالمبادئ الأخلاقية مثل اللاعنف والصمود المدني، ونيلسون مانديلا الزعيم الجنوب أفريقي الذي كرس حياته لمحاربة نظام الفصل العنصري، وقضى سنوات طويلة في السجن دون التخلي عن نضاله من أجل المساواة والعدالة، وروزا باركس الناشطة الحقوقية الأمريكية التي رفضت التنازل عن مقعدها في الحافلة لشخص أبيض، مما أشعل شرارة حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة، ومارتن لوثر كينج القس الأمريكي الذي قاد حركة الحقوق المدنية من خلال خطاباته المؤثرة ومسيراته السلمية، وحاز على جائزة نوبل للسلام عام 1964، وأليس بول الناشطة البريطانية التي قادت حركة المطالبة بحق المرأة في التصويت، واجهت السجن والعنف دون الاستسلام حتى حصلت النساء على هذا الحق. وبشكل عام، تعتبر شخصية المثقف التي تتمسك بمبادئها وتضحي من أجلها رمزاً للقيم النبيلة، وتترك بصمة في التاريخ من خلال مواجهة التحديات. بالنتيجة، دور المثقف يتجلى في التأثير العملي من خلال القيم والأثر الذي يخلقه، وإلا فإن أفكاره تبقى محدودة التأثير. في السياق السوري، يطرح ذلك تساؤلات حول مدى الثبات الفكري لدى بعض الشرائح، مقارنة بالنماذج العالمية، كما يناقش “إريك هوفر” في كتابه “المؤمن الصادق” أهمية الالتزام العملي بالأفكار.

 

الإسقاطات العملية على الواقع الفكري في سوريا:

يمكن تفسير المصطلح المستخدم لتوصيف حالة التقلبات في المواقف والقناعات، بما في ذلك لدى شرائح المثقفين السوريين، على ضوء نظرية “التكيف السياسي للمثقف”. تفترض هذه النظرية أن المثقف، كأي فرد آخر، يتأثر بالبيئة المحيطة، خاصة الأمنية والسياسية، ويضطر تحت تأثير عوامل متعددة إلى تغيير توجهاته الفكرية، مما يرسم معالم موقفه. وتشبه هذه الدائرة التعامل مع القناعات الدينية في بعض الفرق الصوفية، التي تعتمد مبدأي الظاهر والباطن، حيث يخفي الأفراد قناعاتهم الحقيقية تحت تأثير عوامل مثل التشهير أو الضغوط، خاصة في سياقات لا تحترم الحرية العقائدية. وبنفس المنطق، تشمل العوامل خلف تغيير المواقف السياسية والفكرية في سوريا ما يلي:

  1. الخوف من التصفية الجسدية التي قد تمتد إلى جماعات: عندما تتسم أيديولوجيا الحكام الجدد بسمات الإقصاء والتطرف، فإن ذلك يولد مخاوف مشروعة من التصفيات، مما يدفع بعض الأفراد إلى التكيف. ومع ذلك، يُسجل التاريخ وجود أفراد سوريين حافظوا على مبادئهم رغم الخسائر، مما يبرز التباين في الاستجابات.

  2. الضغوط الاجتماعية والسياسية: تعرض المواطنين السوريين لضغوط شديدة من النظام أو الجماعات المتنفذة، مما دفع بعضهم إلى تغيير مواقفهم للحفاظ على سلامتهم أو عملهم، كما يظهر في تراجع التيارات القومية والماركسية والليبرالية أمام التيار الديني، مما يكشف عن ديناميكيات النظام والمثقفين.

  3. الخوف من العزلة: يخشى بعض السوريين، بما فيهم المثقفين، العزلة الاجتماعية والفكرية، خاصة مع انتشار التيارات السائدة التي قد تؤدي إلى إقصاء الآخرين، مما يدفعهم إلى التكيف مع التيار.

  4. الحاجة إلى البقاء: في ظل التصفيات، يضطر المثقف إلى تغيير مواقفه لتوفير احتياجات أسرته أو الحفاظ على موقعه، خاصة بعد الفصل من الوظائف على أساس طائفي، مما يكشف عن تباين في تطبيق القوانين مقارنة بالنظام السابق.

  5. الواقعية السياسية: من خلال مقابلات مع مواطنين سوريين، بما فيهم الشريحة المتعلمة، أكدوا ضرورة التكيف مع الواقع لتجاوز الصدمات النفسية والسياسية، الناتجة عن تحولات مثل خيانة بعض الضباط وحلفاء إيران وروسيا، بالإضافة إلى أخطاء استراتيجية شملت: الثقة المفرطة في الحاشية، منح صلاحيات واسعة للأجهزة الأمنية، تقصير في الاستخبارات الخارجية، عدم تنفيذ عمليات استراتيجية مشابهة لتلك في عهد حافظ الأسد مثل تورط محتمل في اغتيال السفير الفرنسي لويس دولامار في لبنان عام 1981 وعمليات أبو نضال في باريس، عدم إتقان استخدام القوة العسكرية، سن سياسات غير ملائمة للواقع السوري، عدم مراعاة تغير المزاج الشعبي، الاعتماد الزائد على روسيا والصين وإيران، فشل في إدارة تناقضات الحلفاء، التركيز على جانب واحد من الصراع، عدم تغيير النهج السياسي لضمان استمرار الدولة، عدم دعم حزب الله بالترسانة، وإهمال الطائفة العلوية مما أدى إلى خسائرها بعد السقوط، حيث شهدت مذابح في آذار 2025. كما أخفق في تغيير القيادات العسكرية في الأيام الأخيرة، مما كان يمكن أن يغير المعادلة.

  6. الضعف الإيديولوجي : تحدث هذه الحالة عندما تكون الإيديولوجيا لدى الفرد ضعيفة أو غير متماسكة، مما يجعله أكثر عرضة للتأثر بالظروف المتغيرة. وعلى سبيل التوضيح، يُقصد بالإيديولوجيا هنا المنظومة القيمية التي تعمل كمعيار لتقييم ما إذا كان الفرد يمتلك منهجاً فكرياً وقيمياً متيناً يتميز بالثبات، والذي يظهر في بعض جوانبه من خلال الموقف السياسي تجاه الأوضاع العامة. وعلى هذا الأساس، فإن عدم امتلاك هذه القوة يؤدي إلى حالات من عدم الثبات، مما يدفع نحو قرارات التبدل والتغيير، من خلال مبررات واسعة مثل البراغماتية والواقعية. ومع ذلك، فإن معظم المبادئ تكون مستقرة في كينونة الإنسان، حيث ترتبط بشرفه ومعتقده كعناصر أساسية تمس وجوده ودوره، وإذا لم يسلم الفرد بدوره لغيره للتقرير عنه، فلا يوجد ضرر في تقلب مواقفه.

  7. طبيعة النظام السياسي : في الأنظمة الديكتاتورية والقمعية، يكون المثقفون أكثر عرضة للتظاهر بمواقف سياسية تتعارض مع ما يخفون من آراء، مما يدفعهم إلى التعبير عن آرائهم الحقيقية خلال فترات الانفراج السياسي والأمني. ويبررون مواقفهم بالخوف من الاضطهاد، وهم محقون في جزء كبير من مبرراتهم. ومع ذلك، فإن تعريف المثقف يرتبط بدور يعتمد على العلم والعمل، وقد يتضمن التضحية من أجل هدف سامٍ، كما في النماذج السائدة في أوروبا، حيث تعج المكاتب والجامعات بكتب المفكرين الغربيين وإنجازاتهم وأفكارهم، بما في ذلك الشريحة الثورية.

  8. دور الإعلام: يلعب الإعلام دوراً كبيراً في تشكيل الرأي العام وتوجيه الأفكار، خاصة إذا كان إعلاماً مؤدلجاً يستخدم الآلة الإعلامية كقناة لنشر فكر أحادي الجانب. في هذه الحالة، يحدث الرضوخ من خلال التأثير والاقتناع، نتيجة للتعرض المستمر للرسائل الإعلامية، مما يؤثر بشكل كبير على مواقف المثقفين.

  9. الوضع الاقتصادي: قد يؤثر الوضع الاقتصادي الصعب على المثقفين، مما يدفعهم إلى اتخاذ قرارات تتعارض مع مبادئهم للحفاظ على حياتهم المعيشية، على حساب الفكر والموقف، وذلك بفعل الطبيعة البشرية واحتياجاتها الأساسية. وفي هذا السياق، لا يوجد أساس للوم أو النقد، إذ خضع الجميع أو الغالبية في سوريا، باستثناء الطبقات الميسورة، لتأثير الظروف الاقتصادية القاسية.

  10. الرغبة الذاتية: لا يمكن إنكار الجزء الذي يعود إلى الفرد نفسه، وفقاً لعقليته ونمط تفكيره وأسلوبه في التعامل مع الحدث، وتحليلاته لما يجري في محيطه المؤثر عليه بشكل مباشر. وبالتالي، قد تؤدي الرغبة الذاتية للفرد إلى التنكر الطوعي للمبدأ والمعتقد والموقف والاتجاه، ولا ضرر في ذلك، فالإنسان حر في قناعاته وأفعاله.

 

المبدئية والثبات الفكري والسياسي عند الفكر السور

بالإسقاط على سوريا، تُعتبر سوريا مهداً للحضارات والفكر، وقد أنجبت العديد من المفكرين الذين أثروا في الحركة الفكرية والثقافية العربية والعالمية. رغم الظروف الصعبة التي مرت بها سوريا، إلا أن هناك العديد من المفكرين الذين تمسكوا بمبادئهم وأفكارهم، ورفضوا التنازل عنها حتى تحت وطأة الاضطهاد. ومن أمثلة هؤلاء المفكرين نذكر الشاعر أدونيس (علي أحمد سعيد إسبر)، أحد أبرز هؤلاء المفكرين. رغم أن رحيله عن سوريا لم يكن بسبب اضطهاد مباشر كبعض الحالات التي ذكرت سابقاً، إلا أنه كان نتيجة لخلافاته الفكرية مع النظام الحاكم في سوريا، والتي دفعت به إلى البحث عن بيئة أكثر انفتاحاً على أفكاره. برهان غليون: أكاديمي وسياسي سوري، شغل منصب رئيس الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، واضطر للمغادرة إلى الخارج بسبب تهديدات تعرض لها. وفؤاد الحافظ: شاعر وكاتب سوري، عُرف بقصائده الوطنية والقومية، وتعرض للاضطهاد بسبب آرائه. حسين العود: كاتب وروائي سوري، عرف بأعماله التي تنتقد الأوضاع الاجتماعية والسياسية في سوريا. حنا بطاط: مؤرخ سوري، اشتهر بكتابه “تاريخ سوريا الحديث”، والذي يعتبر مرجعاً أساسياً لدراسة التاريخ السوري المعاصر. بالمجمل، هناك العديد من المفكرين السوريين الذين اضطروا لمغادرة بلادهم بسبب الأوضاع السياسية والأمنية، ولكنهم استمروا في الدفاع عن قضايا بلادهم ومبادئهم من المنفى. هؤلاء المفكرون شكلوا صوتاً معارضاً للنظام الحاكم، وساهموا في نشر الوعي بالقضية السورية حول العالم. وكان لهجرة هؤلاء المفكرين أسباب متشابكة، ولكنها تجتمع بقواسم مشتركة منها التهديدات الأمنية، حيث تعرض العديد من المفكرين والناشطين السوريين للتهديدات والاعتقال، مما أجبرهم على الفرار؛ وفرض السلطات السورية رقابة شديدة على حرية التعبير، مما جعل من الصعب على المفكرين ممارسة نشاطهم بحرية؛ والسعي لتوفير بيئة عمل آمنة، إذ سعى العديد من المفكرين إلى توفير بيئة عمل آمنة لهم تمكنهم من الاستمرار في إنتاجهم الفكري. دور المفكرين في المنفى تمثل في مساهمة هؤلاء المفكرين في نشر الوعي بالقضية السورية على المستوى الدولي، وكشف الانتهاكات التي ارتكبتها الحكومة السورية بحق الشعب، وبناء شبكات علاقات واسعة مع مؤسسات دولية ومنظمات حقوقية، مما ساهم في دعم القضية السورية، وعملوا على صياغة رؤية مستقبلية لسوريا ديمقراطية وعادلة.

 

في فلسفة أقرب المقاربات الفلسفية والواقعي

في إيجاد تسميات أكثر عمقاً وتعبيراً عن هذه الظاهرة، خاصة تلك التي تحمل بعداً فلسفياً ودينياً، يمكن اقتراح التالي: “الانسحاب السقراطي المجبر”، إشارة إلى سقراط الذي فضل الموت على التنازل عن مبادئه، لكن هنا يكون الانسحاب قسرياً وليس اختيارياً، و”الاستسلام النيتشوي المؤقت”، إشارة إلى فكرة نيتشه حول “إرادة القوة”، حيث يستسلم المثقف مؤقتاً لقوة خارجية؛ و”الكمون الفكري”، الذي يشير إلى وضع الفكر في حالة سبات مؤقت لحين تحسن الظروف، و”التقمص الكاذب”، الذي يشير إلى أن المثقف يتقمص شخصية لا تمثله حقيقة، كنوع من التكيف، و”الزهد القسري”، إشارة إلى حالة الزهد القسري في المبادئ، حيث يضطر المثقف للتخلي عنها، وأكثر التسميات الدينية قرباً من الواقع هي “الردة المؤقتة”، إشارة إلى فكرة الردة في الديانات الإبراهيمية، لكن هنا تكون الردة فكرية وليست إيمانية؛ وكذلك “التقية الفكرية”، مأخوذة من مصطلح “التقية” في الإسلام، ولكن بتطبيقها على المجال الفكري.  بالختام، التعميم غير مقبول، إذ يجب تجنب تعميم هذه الظاهرة على جميع المثقفين، فهناك العديد من المثقفين الذين يظلون ملتزمين بمبادئهم حتى في أصعب الظروف، ولا يمكن تفسير هذه الظاهرة بسبب واحد، بل هي نتيجة تفاعل عدة عوامل، تأخذ في الاعتبار الظروف التاريخية والاجتماعية التي يواجهها المثقفون.

 

 

النقاط المستخلصة من الورقة البحثية:

  1. التقلبات السياسية في سوريا ليست ظاهرة عابرة، بل نتاج تراكم تاريخي مدفوع بعوامل جيوسياسية (مثل سايكس-بيكو)، واجتماعية (مثل الطائفية)، واقتصادية (تداعيات الحصار الاقتصادي الدولي)، هذه التقلبات تعكس استراتيجية بقاء في سياقات القمع والتدخل الخارجي، حيث يصبح التكيف مع القوة الحاكمة وسيلة للحفاظ على الأمن الشخصي أو الجماعي.

  2. إن الاستقرار السياسي في حقبة حافظ الأسد كان مؤقتاً، لكنه خلق إحساساً بالانتماء، بينما فشل بشار الأسد في الحفاظ على هذا الإرث بسبب السياسات القمعية وسوء إدارة الأزمات، مما أدى إلى انهيار الثقة الشعبية.

  3. إن سمات رئيسية للموقف السياسي السوري البراغماتية والتكيف، التأثير الطائفي والعرقي، والخوف من الفوضى، والتأثر بالخارج، هذه السمات تجعل الموقف السوري مرناً لكنه غير موثوق، مما يعيق بناء دولة مستقرة ويؤثر على المنظومة القيمية التي تشكّل أحد ركائز بناء المجتمع السوري الذي يمر بحالة “شبه تفكك”، تجعله أمام ضرورة قصوى لإعادة بناء بنيوية كلية وصياغة مغايرة لعقد اجتماعي مغاير للتجارب السابقة يسير باتجاهين: الأول: بين مكونات المجتمع ذاته حول الخطوط الوطنية المقدسة، والثاني: عقد اجتماعي بين الشعب والحكومة.

  4. تعكس البراغماتية السياسية في سوريا استجابة عقلانية لظروف القمع والتدخل الخارجي، لكنها تؤدي إلى عدم استقرار الهوية السياسية الجماعية، وتعزز الطائفية كعامل رئيسي الانقسامات وتجعل الولاءات هشة، مما يستدعي تحليلات سوسيولوجية لفهم كيفية إدارة التنوع الاجتماعي، والخوف من الفوضى يفسر الدعم المؤقت للأنظمة القمعية، لكنه يؤدي إلى انفجارات اجتماعية عند تراكم الاستياء، مما يبرز الحاجة إلى آليات ديمقراطية لتفريغ الضغوط.

  5. تتجلّى أهم أبعاد التلون الفكري بالافتقار إلى المبادئ الثابتة، مما يجعل الأفراد عرضة للتأثيرات الخارجية، والتكيف من أجل المصلحة الشخصية (مادية أو اجتماعية)، وغياب الهوية الفكرية، مما يؤدي إلى فقدان تماسك القناعات.

  6. يعكس “التلون الفكري” آلية بقاء في سياقات القمع والاضطراب، لكنه يؤدي إلى فقدان المصداقية الفكرية والسياسية، خاصة بين المثقفين الذين يُفترض أن يكونوا قادة الرأي، كما أن التحولات السريعة في المواقف بعد 2024 تشير إلى غياب إطار قيمي موحد، مما يعكس تحديات بناء هوية وطنية متماسكة في سوريا، على العموم هذه الظاهرة ليست خاصة بالسوريين، بل هي استجابة إنسانية شائعة في سياقات الأزمات، لكن شدتها في سوريا تعزى إلى التاريخ الطويل من القمع والتدخلات.

  7. يتطلب الثبات الفكري من الناحية الخارجية، بيئة تدعم حرية التعبير، وهي شحيحة في سوريا بسبب القمع السياسي والأمني، مما يفسر هجرة المثقفين، وقد لعب المثقفون السوريون في المنفى دوراً محورياً في إبقاء القضية السورية على الأجندة الدولية، مما يشير إلى إمكانية بناء حركة فكرية خارجية قوية، وعند المقارنة مع النماذج العالمية تبرز الفجوة بين الثبات الفكري المثالي (كما عند سقراط) والواقع السوري، حيث الضغوط تجبر الأفراد على التكيف.

بالنتيجة، إنّ العوامل المؤدية إلى التلون الفكري حسب نظرية “التكيف السياسي للمثقف”، تتمثل بالخضوع لضغط عوامل مثل الخوف من التصفية الجسدية خاصة في ظل أيديولوجيات متطرفة أو إقصائية، والضغوط الاجتماعية والسياسية، التي أدت إلى تراجع التيارات القومية والليبرالية أمام التيار الديني، والخوف من العزلة الاجتماعية، مما يدفع الأفراد للتكيف مع التيار السائد، والحاجة إلى البقاء، خاصة مع الفصل الطائفي من الوظائف، والواقعية السياسية، التي تبرر التكيف مع الواقع الجديد بعد سقوط الأسد، أخطاء بشار الأسد الاستراتيجية (مثل الثقة المفرطة في الحاشية، سوء إدارة القوة العسكرية من ناحية التعسف والمظلومية، وإهمال حاضنته الشعبية)، عواملٌ ساهمت في تفاقم الأزمة وتسارع التقلبات، وبالمجمل أشارت العوامل المذكورة إلى تفاعل معقد بين الضغوط الخارجية (أمنية، سياسية، دولية) والداخلية (طائفية، اقتصادية)، مما جعل التكيف استجابة حتمية للبعض.

 

Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?

Reload Reload document
| Open Open in new tab

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى