الاكثر قراءةترجماتغير مصنف

تحرير فلسطين من وقف إطلاق النار في غزة إلى إحلال السلام الدائم

بقلم: زيد رعد الحسين

ترجمة: صفا مهدي عسكر

تحرير: د. عمار عباس الشاهين

مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية

 

 

يشبه بناء سلامٍ شاملٍ وعادلٍ ودائمٍ في (الشرق الأوسط) عمليةَ تشييد جسرٍ متينٍ بين ضفّتين متقابلتين، فمن جهة يتعين على مهندسي السلام أن يبدؤوا من موقعهم الراهن عبر التفاوض على اتفاقٍ لوقف إطلاق النار ثم تثبيته وتوجيهه نحو تسويةٍ نهائيةٍ مستقرة، ومن الجهة الأخرى ينبغي أن يضطلع فريقٌ آخر بتحديد ملامح تلك التسوية الدائمة، ثم العمل على هندستها العكسية لربطها بالجهود السياسية الجارية حالياً.

وعند اتباع هذا المخطط يمكن للساعين إلى بلورة رؤيةٍ بعيدة المدى للسلام أن يواصلوا عملهم بمعزلٍ عن الاضطرابات السياسية الطارئة أو موجات الكراهية المتجددة، إن إفراج حركة “حماس” عن جميع الرهائن (الإسرائيليين) الباقين على قيد الحياة وانسحاب (إسرائيل)** من داخل قطاع غزة وإنهاء حملتها العسكرية المدمّرة هناك – والتي وصفتها لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة وعدد من الخبراء بأنها شكلٌ من أشكال الإبادة الجماعية – يمنحان فسحةً إنسانيةً ملحّة. كما يُحسب للإدارة الأميركية بقيادة الرئيس دونالد ترامب دورها في المساعدة على تثبيت الهدنة الوليدة، غير أنّ هذه الهدنة ستبقى مجرّد محطةٍ عابرة في مسارٍ طويلٍ ومظلمٍ ما لم تُربط لاحقاً بتسويةٍ سياسيةٍ شاملةٍ تُلبي التطلعات المشروعة لكلٍّ من الشعبين الفلسطيني (والإسرائيلي)، ضمن إطار حلّ الدولتين.

وقد يبدو هذا الهدف بعيد المنال لكنه ليس وهماً سياسياً، فتصوّر ما يمكن أن تكون عليه دولتان تعيشان جنباً إلى جنب في سلامٍ ووئامٍ لا ينبغي أن يتوقف على المزاج الشعبي الراهن أو التجاذبات السياسية المؤقتة، إذ يمكن للمخططين أن يبلوروا منذ الآن تصوراً تفصيلياً قابلاً للتحقق في المستقبل، ويستند إلى أسسٍ واقعيةٍ ومقبولةٍ على نطاقٍ واسع. غير أنّ المقاربة السائدة لجهود السلام في (الشرق الأوسط) ظلت على مدى عقود تنصرف إلى معالجة الأزمات الآنية دون تحديدٍ واضحٍ للوجهة النهائية كما ظهر في اتفاقيات أوسلو في تسعينيات القرن الماضي ثم في “خارطة الطريق للسلام” عام 2003، واليوم يكرر العديد من المراقبين النهج ذاته من خلال تركيزهم على المرحلة الراهنة كيفية استثمار مبادرة ترامب للسلام المكوّنة من عشرين بنداً، وتوسيع المرحلة الأولى من وقف إطلاق النار بما يسهم في تحقيق قدرٍ أكبر من الاستقرار في غزة.

ولا شك أن وقف المعاناة الإنسانية في القطاع إلى جانب الإفراج عن الرهائن والأسرى يُعد هدفاً ملحّاً وضرورياً لكنه يبقى في جوهره شكلاً آخر من أشكال الهدنة المؤقتة وليس سلاماً دائماً، فخطة ترامب بصيغتها الحالية لا تتجاوز الإشارة العامة إلى إمكانية إقامة دولة فلسطينية من دون تفصيلٍ أو التزامٍ صريح، وقد قبل الفلسطينيون والدول العربية بالخطة مدفوعين برغبتهم في إنهاء الكارثة الإنسانية في غزة غير أن استمرار هذا القبول على المدى الطويل يبدو مشكوكاً فيه في غياب تعهدٍ أميركي واضح بحلّ الدولتين، وهذا الموقف يتسق مع ما عبّروا عنه خلال دعمهم إعلان نيويورك الأخير الذي قادته فرنسا والسعودية وطرح خارطة طريقٍ نحو حلّ الدولتين ونال تأييد الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول الماضي.

أما في (إسرائيل) فيواصل رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وحلفاؤه معارضتهم الشديدة لأيّ خطوةٍ نحو إقامة دولةٍ فلسطينية بل يسعون إلى إغلاق الباب نهائياً أمام هذا الخيار، إلا أن هذا الموقف لا يحمل صفة الديمومة فالمواقف السياسية والضغوط الداخلية تتبدل بمرور الوقت وقد يغيّر القادة (الإسرائيليون) حساباتهم في المستقبل، وفي الأثناء ينبغي (للإسرائيليين) والفلسطينيين المؤمنين بخيار الدولتين أن يواصلوا العمل في هذا الاتجاه. لقد قدّمت منظمات المجتمع المدني في الجانبين خلال السنوات الأخيرة نماذج بنّاءة لتصوّر سلامٍ قائمٍ على دولتين، وتبرز اليوم ثلاث مقاربات رئيسة في هذا السياق:

 

الأولى: المقترح التقليدي الذي طرحه رئيس الوزراء (الإسرائيلي) الأسبق إيهود أولمرت ووزير الخارجية الفلسطيني الأسبق ناصر القدوة والذي يستأنف المفاوضات من النقطة التي توقفت عندها قبل نحو عقدين.

أما الثانية والثالثة: فهما رؤيتان كونفدراليتان تنطلقان من فكرة دولتين متداخلتين بطرقٍ مختلفة: الأولى تُعرف باسم (الكونفدرالية في الأرض المقدسة) التي صاغها الوزير (الإسرائيلي) الأسبق يوسي بيلين والمحامية الفلسطينية هبة الحسيني، والثانية (أرض للجميع: دولتان ووطن واحد)، التي بلورها عددٌ من قادة المجتمع المدني من الطرفين بعد سنواتٍ من المشاورات ويقودها حالياً الناشطان ماي بوندك ورُلى حردل.

وتسعى هذه التصورات الكونفدرالية إلى تجاوز العقبات البنيوية التي حالت دون تحقيق سلامٍ دائمٍ في الماضي من خلال أفكارٍ مبتكرةٍ ورؤى طويلة الأمد، وإنّ تبني هذا النمط من التفكير البنّاء بات أمراً حتمياً اليوم فبينما يحاول الفلسطينيون في غزة إعادة بناء حياتهم المدمَّرة ويعود آخر الرهائن (الإسرائيليين) إلى ديارهم تصبح الحاجة ملحّة إلى الشروع في بناء الجانب الآخر من الجسر، عبر الانخراط الجاد في دراسة المقترحات الواقعية التي يقدّمها (الإسرائيليون) والفلسطينيون معاً لإقامة سلامٍ موثوقٍ ومستدامٍ يستند إلى مبدأ الدولتين.

 

البدايات المتعثّرة
 يتطلّب فهم المبادرات الراهنة النظر أولاً إلى مسار العقود الثلاثة الماضية من الجهود الرامية إلى تحقيق حلّ الدولتين، فمنذ إطلاق (عملية أوسلو) عام 1993، اتفق (الإسرائيليون) والفلسطينيون – عبر سلسلة من المفاوضات الثنائية – على اتباع نهجٍ تدريجي في صنع السلام يُفضي في نهايته إلى اتفاقٍ حول خمس قضايا رئيسة تُعرف بـقضايا الوضع النهائي، وهي: الحدود والمستوطنات اليهودية ووضع القدس وحقّ عودة اللاجئين الفلسطينيين والأمن، وقد اعتُبرت هذه الملفات شديدة الحساسية والتعقيد إلى درجةٍ استدعت تأجيلها إلى المرحلة الأخيرة حين يُفترض أن يكون رصيد الثقة المتبادلة بين الطرفين قد تراكم بما يكفي لتسويتها.

كان من الممكن أن ينجح هذا النهج لو وُجدت آليةٌ تُلزم الطرفين بالتقيد بالجداول الزمنية المتفق عليها بغضّ النظر عن الظروف الطارئة ولولا أن تلك الظروف كانت شديدة الاضطراب، فقد تعرّضت العملية منذ بداياتها إلى ضرباتٍ عنيفة من جانب متطرفين (إسرائيليين) ومن حركة حماس، ففي عام 1994 ارتكب متطرفٌ (إسرائيلي)-أميركي مجزرةً بحقّ المصلين الفلسطينيين في الحرم الإبراهيمي بمدينة الخليل. وبعد عامٍ واحد اغتال متطرفٌ (إسرائيلي) رئيس الوزراء إسحاق رابين، ثم قامت القوات (الإسرائيلية) بعد أشهر بقتل يحيى عياش القائد العسكري لحماس، فردّت الحركة بسلسلة تفجيراتٍ استهدفت حافلات (إسرائيلية) وأوقعت خسائر فادحة. أدّت هذه الأحداث مجتمعةً إلى تقويض العملية السلمية وتعطيل الجدول الزمني المتفق عليه، ومع انتخاب بنيامين نتنياهو رئيساً للوزراء عام 1996 – بعد حملته الانتخابية التي ركّزت على معارضة اتفاق أوسلو – شهدت العملية تراجعاً إضافياً، ولم يكن لدى أيٍّ من الطرفين تصوّر واضح حول كيفية تسوية قضايا الوضع النهائي فيما استمرّ النشاط الاستيطاني في الضفة الغربية وقطاع غزة بوتيرةٍ متسارعة.

استعادت عملية أوسلو زخماً مؤقتاً عام 1999 مع تولّي إيهود باراك رئاسة الحكومة (الإسرائيلية) إذ حاول إنقاذ المسار من خلال الانتقال مباشرةً إلى مفاوضات الوضع النهائي غير أنّ المحاولة باءت بالفشل، فبعد انهيار محادثات كامب ديفيد عام 2000، رفض الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات قبول العرض (الإسرائيلي) بكامل تفاصيله، وقد عُزي هذا الرفض من بعض المراقبين إلى استعجال المفاوضات وسوء الكيمياء الشخصية بين الرجلين أكثر من كونه موقفاً متصلّباً من عرفات.

ومع ذلك خلّفت مفاوضات كامب ديفيد إنجازاً مهماً تمثّل في قيام الرئيس الأميركي بيل كلينتون بطرح معاييره الخاصة بالسلام والتي تضمّنت فكرة تبادل الأراضي، وقد انطلقت رؤيته من منطقٍ بسيط: إذا أمكن الاتفاق بدقة على الحدود الفاصلة بين (إسرائيل) والأراضي الفلسطينية فسيُحَلّ تلقائياً إشكال المستوطنات ووفقاً لاقتراحه تُرسم حدود الدولتين على أساس الخط الأخضر (حدود ما قبل حرب 1967 التي استولت فيها (إسرائيل) على الضفة الغربية وقطاع غزة) مع إدخال بعض التعديلات، فبموجب الخطة يتنازل الفلسطينيون عن ما بين 4 و6 في المئة من أراضي الضفة الغربية (لإسرائيل) دون مقابلٍ إقليمي ويقدّمون ما بين 1 و3 في المئة إضافية مقابل أراضٍ (إسرائيلية) بديلة، وبهذا التعديل تحتفظ (إسرائيل) بنحو 80 في المئة من المستوطنين في حين يُعاد توطين من تبقّى منهم داخل الأراضي (الإسرائيلية).

أصبحت فكرة تبادل الأراضي منذ ذلك الحين المفتاح الرئيس لمحاولات حلّ القضايا العالقة الأخرى، فقد أُدرجت في مبادرات لاحقة مثل مبادرة صوت الشعب في تموز 2002 ثم في اتفاق جنيف في كانون الأول 2003 الذي أعدّه ممثلون عن المجتمع المدني من الجانبين وطرح نموذجاً لاتفاق سلامٍ (إسرائيلي)–فلسطيني وإطاراً لحلّ الدولتين، وإن لم يتضمّن تفاصيل دقيقة حول آلية تنفيذ تبادل الأراضي.

غير أنّ هذه المساعي الدبلوماسية تراجعت أمام تصاعد العنف وتعمّق انعدام الثقة وتباين الأولويات بين الأطراف (الإسرائيلية) والفلسطينية والإقليمية، وبحلول عام 2003 كانت العلاقات بين الجانبين قد بلغت أدنى مستوياتها، إذ استمرّت الانتفاضة الثانية – التي أشعلها في أيلول 2000 قيام السياسي (الإسرائيلي) أرييل شارون بزيارةٍ استفزازية إلى الحرم القدسي الشريف – في تأجيج المواجهة.

وفي هذه الأجواء فشلت مبادرتان محوريتان في الحصول على دعمٍ (إسرائيلي) (المبادرة العربية للسلام) التي أطلقها ولي العهد السعودي آنذاك الأمير عبد الله بن عبد العزيز في آذار 2002، و(خارطة الطريق للسلام) التي قدّمها الرباعي الدولي (روسيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة) في نيسان 2003، وقد حدّدتا معاً الإطار الذي يمكن ضمنه قبول حلّ الدولتين إقليمياً إذ تعهّدت الدول العربية مجتمعةً بالاعتراف (بإسرائيل) حال إنهائها احتلال الأراضي الفلسطينية. كما عبّرتا عن رغبة المجتمع الدولي في دفع الطرفين نحو اتفاقٍ نهائي، لكن (إسرائيل) لم تُبدِ قناعةً بالمبادرة العربية وقدّمت رداً على خارطة الطريق تضمن 14 تحفظاً، ورأى شارون أن لا إمكانية لأيّ تقدم قبل إنهاء الانتفاضة رغم قناعة العديد من الدول بأن وقف الانتفاضة والتفاوض نحو حلّ الدولتين يمكن أن يسيرا بالتوازي.

لم تُستأنف فكرة تبادل الأراضي مجدداً إلا بعد انحسار الانتفاضة عام 2006 عندما تسلّم إيهود أولمرت رئاسة الوزراء في (إسرائيل) وانتُخب محمود عباس رئيساً للسلطة الفلسطينية في العام السابق، غير أنّ الطرفين عجزا عن التوصل إلى اتفاقٍ نهائي بشأن نسبة الأراضي التي ينبغي تبادلها إذ ظلّ الخلاف قائماً بين حدود 4 و6 في المئة، وبعد عامين من المفاوضات وصلت العملية إلى طريقٍ مسدود وكانت تلك آخر مفاوضاتٍ جادّة تناولت قضايا الوضع النهائي بصورة مباشرة.

 

 

الماضي كبروتوكول للمستقبل

بعد نحو عقدين من الزمن يطرح إيهود أولمرت المواطن العادي حالياً في (إسرائيل) مبادرة جديدة لحلّ الدولتين بالتعاون مع ناصر القدوة وزير الخارجية الفلسطيني السابق المرموق، تستأنف مقترحات أولمرت–القدوة المباحثات من النقطة التي توقفت عندها محادثات أولمرت–عباس عام 2008 لكنها تضيف صياغات جديدة ومبتكرة تتعلق بقطاع غزة والقدس، وقد اقترح الطرفان نسبة 4.4 في المئة لتبادل الأراضي تتضمن إنشاء ممر يربط بين غزة والضفة الغربية.

وتتميّز هذه المبادرة بين رؤى حلّ الدولتين الأخرى بتركيزها على إنشاء هيكل حوكمة تكنوقراطي في غزة أطلق عليه أولمرت والقدوة اسم مجلس المفوضين ويرتبط هذا المجلس خلافاً للهيئة المماثلة في خطة ترامب بمجلس وزراء السلطة الفلسطينية، ومن المقرر إجراء انتخابات عامة خلال فترة تتراوح بين سنتين وثلاث سنوات بعد إنشاء المجلس، كما سيُنشأ وجود أمني عربي مؤقت في غزة للتعاون مع قوة فلسطينية خاضعة للمساءلة أمام مجلس المفوضين بهدف سدّ الفجوة الأمنية ومنع أي هجمات على (إسرائيل)، بالإضافة إلى ذلك سيتم عقد مؤتمر للمانحين لتأمين التمويل اللازم لإعادة إعمار غزة.

فيما يخص القدس سيُقسّم المدينة إلى عاصمتين على طول الخط الأخضر على أن تُضمّ الأحياء اليهودية المبنية على الجانب الفلسطيني من المدينة بعد حزيران 1967 إلى التبادل الإقليمي، وستُدار المدينة القديمة من خلال وصاية مشتركة لخمس دول تشمل (إسرائيل) والدولة الفلسطينية وفق قواعد يضعها مجلس الأمن الدولي، كما يعترف المخطط بالدور الخاص لملك الأردن في الوصاية على المواقع الإسلامية المقدسة في القدس، ولن يكون لأي دولة سيادة حصرية على المنطقة المحيطة بما يُعرف بالحوض المقدس مع ضمان حق جميع المصلين في الوصول إلى المواقع المقدسة دون قيود وستكون الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح عدا لأغراض الأمن الداخلي. مع ذلك لا يقدم مخطط أولمرت–القدوة توصيات نهائية لكافة قضايا الوضع النهائي، فمسائل المستوطنين والمستوطنات وحق العودة للفلسطينيين إضافة إلى التدابير الأمنية الإضافية، بما في ذلك احتمال نشر قوات دولية على طول نهر الأردن ستُترك للنقاشات المستقبلية بين الطرفين.

 

 

كونفدرالية الأرض المقدسة

 قدّم الوزير والسياسي (الإسرائيلي) السابق يوسي بيلين أحد مهندسي عملية أوسلو المخضرمين والمشارك في مفاوضات كامب ديفيد 2000 ومحادثات طابا 2001 واتفاق جنيف 2003 مع المحامية الفلسطينية هبة الحسيني، رؤية مبتكرة لحل الدولتين تحت مسمى كونفدرالية الأرض المقدسة (HLC) تقوم هذه الكونفدرالية على دولتين متجاورتين مع تبادل محدود للأراضي بنحو 2.5% من المساحة الإجمالية، وتركز بشكل أساسي على هيكل الدولتين وسبل معالجة بعض قضايا الوضع النهائي المعقدة بطريقة إبداعية.

أهم ما يميز هذا الاقتراح هو مفهوم الإقامة الدائمة للمستوطنين (الإسرائيليين) واللاجئين الفلسطينيين فالمستوطنون (الإسرائيليون) خارج نطاق تبادل الأراضي يمكنهم البقاء في منازلهم كمقيمين دائمين ضمن الدولة الفلسطينية المستقبلية، وفي المقابل يمكن لعدد مماثل من اللاجئين الفلسطينيين طلب إقامة دائمة في (إسرائيل)، وتستعرض الخطة بدقة أنواع الاختصاص القانوني التي ستنطبق على هؤلاء المقيمين الدائمين ما يتيح معالجة قضية الحدود والمستوطنات وعدد أكبر من اللاجئين العائدين دون الحاجة إلى عمليات نقل قسرية واسعة للمستوطنين.

فيما يخص القدس يدعم الاقتراح تقسيم المدينة إلى عاصمتين مع إنشاء لجنة مشتركة (إسرائيلية)–فلسطينية لإدارة المدينة بما في ذلك التخطيط البلدي مع فتح المدينة القديمة فور إنشاء الكونفدرالية، ويشمل الاقتراح أيضاً مجموعة من المؤسسات الكونفدرالية مثل لجنة حقوق الإنسان ويؤكد على ضرورة الامتناع عن أي تعاون عسكري مع دول أو كيانات معادية للطرف الآخر، مع ترك تحديد تفاصيل التنفيذ للنقاش ضمن إطار السلام الشامل. من نقاط الضعف المحتملة للكونفدرالية (بند الخروج) الذي يسمح لأي من الدولتين الانسحاب من الاتفاق، وهو ما قد يشجع المعارضة السياسية واستغلال المشكلات الأولية لكسب الدعم الشعبي ضد الترتيب، لذلك يُوصى بإلغاء هذا البند أو وضع فترة زمنية طويلة تصل مثلاً إلى خمسين عاماً قبل السماح بالانسحاب، لضمان استقرار الكونفدرالية واستدامة هذا النموذج الجديد للحل السلمي.

 

أرض للجميع (ALFA)

 المقترح الثالث المعروف باسم (أرض للجميع) (ALFA)، وُلِد عام 2012 ويقوده الناشطان المدنيان (الإسرائيلي) والفلسطيني ماي بوندك ورولا حردال، يتجاوز هذا المقترح رؤية كونفدرالية الأرض المقدسة (HLC) من حيث الابتكار إذ يثبت الحدود بين(إسرائيل) وفلسطين على طول الخط الأخضر دون أي تعديل أو تبادل أراضي ويركز بالكامل على مفهوم الإقامة الدائمة، وبموجب ALFA  لا توجد قيود على عدد (الإسرائيليين) أو الفلسطينيين الذين يمكنهم طلب الإقامة الدائمة في الدولة الأخرى مع اعتماد نهج مرحلي لتجنب ازدحام (إسرائيل) باللاجئين الفلسطينيين العائدين أو فرض أعداد كبيرة من المستوطنين (الإسرائيليين) على الدولة الفلسطينية الجديدة. يركز ALFA على حرية الحركة وحق الإقامة لكلا الشعبين بحيث يكون المقيمون قادرين على التصويت في الانتخابات المحلية دون أن يكونوا مواطنين رسميين، تستند هذه الفكرة إلى الارتباط العاطفي العميق لكل من (الإسرائيليين) والفلسطينيين بكامل الأرض من النهر إلى البحر، وهو مبدأ أساسي يجب أن يضمنه أي اتفاق سلام عادل ودائم.

فيما يتعلق بالقدس يشترك ALFA مع المبادرات الأخرى في جعل المدينة عاصمة مشتركة لكلتا الدولتين مع حرية التنقل وإدارة المدينة القديمة بشكل مشترك قد يشمل إشرافاً دولياً، يقترح المقترح إبقاء القدس كاملة مفتوحة ومشتركة، مع تفويض السلطات للجهة المختصة بإدارة المدينة سواء من خلال حكومة محلية مشتركة أو بلديتين ضمن الإطار الكونفدرالي.

على صعيد الأمن يؤكد ALFA على ضرورة أن تقوم كل دولة بحماية أراضيها السيادية ويدعو إلى شروط متبادلة للحد الجزئي من التسلح لكلا الطرفين، كما يعارض انتشار القوات الأجنبية من جانب واحد دون موافقة الطرفين، ويؤيد إنشاء قوة حدودية مشتركة (إسرائيلية)–فلسطينية. تواجه ALFA كما في المقترحات الأخرى تهديدات محتملة من القوى الداخلية المعارضة لأي شكل من أشكال التكيف، ولضمان عدم عرقلة الحل يجب على مصممي الاتفاقية اعتماد آليات حل نزاعات قوية واستراتيجية تنمية اقتصادية متينة إلى جانب قوانين مدروسة على الجانبين وقرارات منطقية بشأن التعليم واللغة والحقوق المدنية، كما يتطلب الأمر ضمانات أمنية إقليمية لضمان الاستقرار الدائم وهو جانب لم تقدم أي من المقترحات الثلاثة رؤية مكتملة له. على عكس HLC يقدم ALFA تفاصيل أقل عن المؤسسات الكونفدرالية لكنه يعرض خطة مفصلة لحقوق الإنسان، مع التأكيد على وجود هيئة استئنافية عليا لحقوق الإنسان للنظر في القضايا بعد صدور الأحكام في محاكم أي من الدولتين، وهذه الرؤية تعكس أهمية تبني الطرفين لمبدأ حقوق الإنسان المشتركة والعالمية.

في جوهره يعد ALFA الأكثر ابتكاراً بين هذه المقترحات إذ يكسر النماذج التقليدية ويقدم حلاً عملياً يحد من النزاعات من خلال عدم اللجوء إلى تبادلات الأراضي، تقع جميع المستوطنات تحت السيادة الفلسطينية، مما يعالج إحدى القضايا الأساسية التي أعاقت أي محاولة للسلام في (الشرق الأوسط) حتى اليوم، ومع ذلك فإن جميع المقترحات الثلاثة تحمل قيمة إذ توفر حلولاً عملية لإنهاء سنوات من العنف والقمع بشكل دائم.

 

الوصول إلى الجانب الآخر

 من دون جهود هؤلاء الرواد والمبتكرين سيكون من الصعب رسم مستقبل (للشرق الأوسط)، فرغم أن نتنياهو قد أبدى ترحيبه بخطة ترامب وقبوله بالإشارة إلى إمكانية قيام دولة فلسطينية، إلا أن ما يرمي إليه فعلياً (لإسرائيل) والمنطقة يبقى غير واضح تماماً. بخلاف إدارة الوضع الراهن غير المستدام يبدو أن نتنياهو لا يملك خطة سوى تلك التي تمليها حكومته اليمينية المتطرفة والتي تسعى إلى إقامة (إسرائيل الكبرى) بما ينطوي على محو الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية، هذا المسار ليس فقط مروعاً وغير قابل للتحقق بل إنه مرفوض أيضاً من قبل غالبية (الإسرائيليين)، ولتحقيق سلام دائم في غزة يتجاوز وقف إطلاق النار المؤقت يجب أن يكون هناك هدف واضح لنهاية هذا الصراع.

الصراع العميق والعنيف في (الشرق الأوسط) يولّد طبيعية شعوراً بالتشاؤم والريبة، ومع ذلك هناك أسباب حقيقية للتفاؤل الحذر، فجهود خفض العنف وتجهيز الأسس للسلام الدائم مستمرة بجدية من قبل الفاعلين الإقليميين والدوليين فقد ساعدت قطر بالتنسيق مع مصر والولايات المتحدة في تقريب وجهات نظر الأطراف نحو وقف إطلاق النار في غزة وتواصل مصر قيادة الجهود العربية بالتعاون مع الدول المجاورة لا سيما الأردن بينما جهزت السعودية بالتعاون مع فرنسا والنرويج الدعم الدبلوماسي والمالي الدولي من أجل حلّ الدولتين القابل للتطبيق، كما بدأت الدول حول العالم تعترف بشكل متزايد بالدولة الفلسطينية ما يعكس ارتفاع مستوى الاهتمام والمشاركة الدولية.

في هذا السياق تصبح المقترحات الإبداعية والواقعية المطورة من قبل (الإسرائيليين) والفلسطينيين–خطة أولمرت–القدوة وكونفدرالية الأرض المقدسة وALFA أدوات لا غنى عنها، فهي تقدم مسارات واقعية لتحقيق حل الدولتين الدائم وتعالج مجموعة من القضايا المعقدة، هذه الرؤى ليست مجرد تمارين نظرية بل تمثل السبيل العملي الوحيد لإنهاء الصراع وضمان الاستقرار الإقليمي. ومن الضروري الحفاظ على زخم الإجراءات قصيرة المدى – سواء عبر خفض الأعمال العدائية أو تيسير الدعم الإنساني أو تنسيق الضغوط الدبلوماسية الإقليمية – لكنها لن تنجح إلا إذا ارتبطت بشكل واضح ببناء الجانب الآخر من الجسر، أي الحل طويل المدى الذي يضمن السلام العادل والدائم بين (الإسرائيليين) والفلسطينيين. ببساطة، لا يوجد طريق آخر.

 

* Zeid Ra’ad al-Hussein, How to Free Palestine Turning the Gaza Cease-Fire into Lasting Peace, FOREIGN AFFAIRS, October 14, 2025.

**  لمقتضيات الأمانة العلمية، وضرورات الترجمة الدقيقة، تم الإبقاء على كلمة (إسرائيل)، وهو لا يعني اعتراف المركز بها، وما هو مكتوب يمثل راي وأفكار المؤلف.

 

 

Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?

Reload Reload document
| Open Open in new tab

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى