الاكثر قراءةتحليلات و آراءغير مصنف

مجتمع الاستخبارات، من الأمن الوطني إلى الأمن المجتمعي

بقلم: الباحث بختيار أحمد صالح

 

كشف تقرير (دروس حرب الـ 12 يومًا لتركيا) الذي نُشر في آب 2025 من قبل الأكاديمية الوطنية للاستخبارات التركية (MİA)، عن نقطة تحول للتفكير في مفاهيم الأمن الوطني. يؤكد هذا التقرير، من خلال تحليل الحرب الأخيرة بين الجمهورية الاسلامية في إيران و(إسرائيل)، أن مستقبل الصراعات لم يعد يُحدد فقط في جبهات القتال، بل أيضًا في مجالات الحرب السيبرانية، والإلكترونية، والنفسية، والمعلوماتية. ولهذا السبب، تقترح منظمة الاستخبارات الوطنية التركية (ميت) أن يشارك المجتمع التركي على نطاق واسع في عملية الأمن والاستخبارات.

كشفت التطورات الأمنية في العقود الماضية أن مفهوم الأمن الوطني لم يعد محصورًا فقط ضمن الحدود الجغرافية وحروب الجيوش التقليدية. مع اتساع التكنولوجيا الرقمية وشبكات الاتصالات وظهور التهديدات الهجينة، تواجه دول العالم تحدي إعادة تعريف الأمن الوطني في إطار أكثر تعقيدًا ومتعدد الأبعاد. أحد مظاهر هذه إعادة التعريف هذه، هو مسعى بعض الدول لجذب المجتمع بأكمله إلى مجال جمع المعلومات الاستخباراتية والمشاركة في المشاريع الأمنية.

في آب 2025، نُشر تقرير بعنوان (دروس حرب الـ 12 يومًا لتركيا) من قبل الأكاديمية الوطنية للاستخبارات التركية التابعة لمنظمة الاستخبارات الوطنية – ميت. أشار التقرير، من خلال تحليل الحرب الأخيرة بين الجمهورية الاسلامية في إيران و(إسرائيل)، إلى أن مستقبل النزاعات لم يعد يُحدد فقط في جبهات القتال، بل أيضًا في الساحات الإلكترونية، والنفسية، والمعلوماتية. بناءً على هذه الرؤية، تقترح ميت أن يشارك المجتمع التركي على نطاق واسع في عملية الاستخبارات، من مستوى الحي إلى وسائل الإعلام والمجتمع بأكمله.

كان التركيز على مشاركة المجتمع بأكمله في عملية جمع المعلومات الاستخباراتية أحد الأجزاء المثيرة للجدل في التقرير. ورد في النص أن تطور تكنولوجيا الاتصالات جعل من الممكن لجميع أفراد المجتمع أن يلعبوا دورًا كمصادر للمعلومات من أجل الأمن الوطني. رؤية من هذا القبيل، إلى جانب الدعوة لمشاركة وسائل الإعلام في نشر المعلومات الهادفة وخلق ثقافة الاستخبارات، أثارت نقاشًا واسعًا في مجالات حقوق الإنسان، وحرية الإعلام، والأخلاقيات الأمنية.

أهمية هذه القضية لتركيا مضاعفة لأنها من ناحية تقع في منطقة معقدة وتواجه العديد من التهديدات، ومن ناحية أخرى تواجه معضلات داخلية مثل تقييد الحريات المدنية، واستقلالية السلطة القضائية، وأزمة الثقة المجتمعية. ولهذه الأسباب، يمكن لمشاركة المجتمع المدني بأكمله في مشاريع الاستخبارات أن يكون لها تأثير أعمق مما يبدو للوهلة الأولى.

 

الحروب الجديدة وتغير مفهوم الأمن

تطور طبيعة الحرب:  في القرن الحادي والعشرين، لم تعد الحروب محصورة في خنادق الجنود. أدى ظهور التكنولوجيا الرقمية وشبكات المعلومات العالمية إلى طمس الحدود بين الحرب والسلام. أصبح مفهوم الحرب الهجينة، كنهج يدمج بين الأدوات العسكرية، والإلكترونية، والاقتصادية، والنفسية، هو التعريف السائد للحرب الحديثة. يمكننا القول أن أبعاد الحرب الجديدة تشمل حاليًا:

  1. الهجمات السيبرانية: هجمات إلكترونية على البنى التحتية الحيوية للدول.

  2. الهجمات الإلكترونية: تعطيل الرادار وأنظمة الاتصالات.

  3. الحرب النفسية: التلاعب بالرأي العام عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي.

  4. حرب المعلومات: أصبحت البيانات والروايات ساحة قتال رئيسية.

 

المجتمع كساحة حرب

في هذا الإطار، لم يعد المجتمع مجرد مسرح خلفي للحرب، بل أصبح جزءًا من ساحة القتال. يوضح مثال (إسرائيل) والصين والولايات المتحدة أن مشاركة المواطنين في حماية الأمن الوطني أصبحت منهجًا عالميًا.

لم يعد الأمن الوطني يعني فقط حماية الحدود، بل يشمل أيضًا حماية البيانات وتماسك المجتمع والرأي العام. مهد هذا التطور الطريق لدخول المجتمع بجميع شرائحه في العمليات الاستخباراتية. يؤكد تقرير حرب الـ 12 يومًا ودروسها لتركيا بوضوح على ضرورة مشاركة المجتمع في جمع المعلومات الاستخباراتية. يكشف هذا التقرير عن تحول في معادلات الحفاظ على الأمن الوطني في تركيا: من الاعتماد على المؤسسات الرسمية وحدها إلى إشراك المجتمع بأكمله في جمع المعلومات الاستخباراتية.

 

الأمن والتحليل الاستراتيجي

ترى ميت أنه في عصر التهديدات الهجينة، كل مواطن هو مستشعر بشري، وسرعة الوصول إلى البيانات يمكن أن تغير مصير الحرب. الفوائد المحتملة لهذا الوضع:

  1. لا مركزية شبكة المعلومات.

  2. تقليل تكلفة جمع المعلومات.

  3. زيادة سرعة الإنذار.

  4. تعزيز المناعة الوطنية.

 

 

مقارنة دولية

  1. (إسرائيل:( تطبق (إسرائيل) منذ سنوات عديدة مفهوم الأمن الوطني متعدد الجوانب. تعد مشاركة المواطنين في الإبلاغ عن التهديدات الأمنية جزءًا لا يتجزأ من نظام الدفاع في البلاد. في بعض المناطق الحدودية، يُحظر استخدام الهواتف الذكية أو تقييد قدرات التصوير بهدف تقليل تسرب المعلومات والتجسس. والأهم من ذلك، أن التدريب الأمني في المدارس والحملات العامة جعل المواطنين أكثر حساسية تجاه التهديدات الإلكترونية والنفسية.

  2. الصين: تتبع الصين سياسة مماثلة تسمى الأمن الوطني الشامل. من خلال أنظمة المراقبة ومواقع التواصل الاجتماعي والتوعية العامة، يتم تشجيع المواطنين على المشاركة في حماية الأمن الداخلي. تؤكد الصين على دمج المراقبة التكنولوجية مع الثقافة المجتمعية، حتى أنها جعلت الأطفال والمراهقين جزءًا من نظام الأمن من خلال البرامج التربوية.

 

النتائج الاجتماعية والسياسية

  1. التعارض مع اتفاقية حقوق الإنسان: مشاركة المجتمع بأكمله في المشاريع الأمنية تشكل انتهاكًا صريحًا لاتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الانسان.

  2. الخصوصية والحرية الفردية: هذه السياسة تضعف الخط الفاصل بين الحياة الخاصة والأمن الوطني ويمكنها حتى أن تضغط على العلاقات التربوية والأسرية.

  3. وسائل الإعلام كأداة أمنية: دور وسائل الإعلام في نشر ثقافة الاستخبارات يضعف استقلالية الصحافة ويجعل الإعلام أداة للدعاية الحكومية.

  4. التأثير على رأس المال الاجتماعي: لا تبقى الثقة المجتمعية بل يحل محلها الشك وتتدمر العلاقات الإنسانية.

  5. التأثير على الجيل الجديد: يكبر الأطفال في ثقافة يرون فيها التجسس والتحكم الاجتماعي كأمر عادي.

يمثل تقرير ميت تحولًا مهمًا في رؤية تركيا للأمن الوطني، لكن إشراك المجتمع بأكمله في ساحة الاستخبارات له آثار قانونية وأخلاقية واجتماعية خطيرة.

الفرص والتهديدات:

    • الفرصة: زيادة الوعي العام وتسريع جمع المعلومات الاستخباراتية.

    • التهديد: انتهاك حقوق الإنسان، وخلق ثقافة المراقبة.

بالتركيز على تجارب تركيا و(إسرائيل) والصين يمكننا أن نرى أن الأمن الوطني في القرن الحادي والعشرين هو مفهوم واسع ومتعدد الجوانب. المجتمع ليس فقط مستخدمًا للأمن، بل منتجًا له. في نفس الوقت، فإن مخاطر هذا النهج واضحة: الإفراط في استخدام المواطنين في القضايا الأمنية يمكن أن يؤدي إلى إضعاف الثقة المجتمعية والسياسية.

 

 

Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?

Reload Reload document
| Open Open in new tab

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى