الاكثر قراءةتقدير موقفغير مصنف
قمة بلا أطراف: كيف يُصاغ السلام في غياب الفاعلين الرئيسيين؟

بقلم: نور نبيه جميل
باحثة في مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية
مقدمة
تُعد قمة غزة الأخيرة، التي انعقدت تحت عنوان تهدئة الصراع بين الأطراف الفلسطينية و(الإسرائيلية)، محطة محورية في دراسة إدارة النزاعات المعقدة على الصعيدين الإقليمي والدولي. فهي تتجاوز حدود القمم التقليدية، إذ تطرح إشكالية أساسية تتعلق بشرعية التمثيل السياسي، وفاعلية الوساطة الدولية، وطبيعة السلام المعلن في غياب الأطراف الفاعلة الرئيسة على الأرض.
تثير هذه القمة تساؤلات جوهرية حول مشروعية القرارات المتخذة باسم السلام، ومدى قدرتها على تحقيق استقرار مستدام في بيئة صراع محفوفة بالتشابك بين الأبعاد الأمنية، الإنسانية، والسياسية. كما أنها تكشف عن مفارقة بنيوية في مسار الوساطة الدولية، حيث يتضح أن التوافق الدولي قد لا يوازي توافقًا محليًا أو شرعية تمثيلية، ما يفتح المجال أمام جدلية إدارة الصراع مقابل حله.
من منظور الصراعات الدولية وعلم التفاوض السياسي، يمثل غياب الأطراف الفاعلة — تحديدًا (إسرائيل) وحركة حماس اختبارًا عمليًا لحدود القدرة الدولية على ضبط النزاعات، وتقييم جدوى الحلول القائمة على الضبط والإدارة المؤقتة مقارنة بالحلول المستدامة التي تقوم على مشاركة جميع الأطراف المعنية. وعليه، تكتسب هذه القمة بعدًا تحليليًا واستشرافيًا يتطلب فحص ديناميكيات القوة، تأثير الوساطة الدولية، والتداعيات المحتملة على هيكل النظام الأمني الإقليمي ومستقبل القضية الفلسطينية.
تسعى هذه الورقة إلى تقديم تقدير موقف تحليلي لقمة غزة، عبر تناول ثلاثة محاور أساسية: الشرعية التمثيلية وأزمة غياب الأطراف الفاعلة، مضمون الاتفاق وبنوده الأساسية، والقراءات الاستشرافية للسيناريوهات المحتملة في إطار إدارة النزاع الدولي. هذا الإطار يهدف إلى الجمع بين التحليل النظري والتطبيق الواقعي، بما يعكس رؤية أكاديمية في فهم وتحليل صراعات (الشرق الأوسط) المعقدة.
مدخل الحدث والسياق العام
شكّلت قمة شرم الشيخ حول غزة (13 تشرين الأول 2025)، التي دعا إليها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، محطةً مفصلية في مسار الصراع الفلسطيني–(الإسرائيلي)، بعد ان أرهقت الحرب كل الأطراف وأعادت القضية الفلسطينية إلى صدارة المشهد الدولي.
انعقدت القمة تحت شعار “ما بعد الحرب”، في ظل ظروف إنسانية مأساوية داخل القطاع، وبيئة إقليمية مشحونة بالتحولات الاستراتيجية. وقد حضرها أكثر من سبعة عشرين دولة عربية وغربية، فيما غابت عنها (إسرائيل) وحركة حماس، وهو غياب ذو دلالة سياسية عميقة.
جاءت القمة لتطرح تساؤلًا جوهريًا: هل تمثل هذه المبادرة خطوة نحو تكوين نظام أمني جديد في غزة يضمن الاستقرار والردع المتبادل؟ أم أنها تُمهّد لمرحلة تدويلٍ للصراع الفلسطيني، بحيث يُدار الشأن الفلسطيني عبر آليات دولية وإشراف خارجي يُضعف القرار الوطني المستقل؟
المقاربة الأميركية: بين استثمار الحرب وإعادة هندسة الإقليم
تسعى إدارة ترامب من خلال القمة إلى استثمار حالة الإنهاك المتبادل لإعادة فرض دورها في (الشرق الأوسط)، وتقوم الرؤية الترامبية على مقاربة ثلاثية الأبعاد منها الأمن مقابل الإعمار: ربط عملية إعادة إعمار غزة بنزع سلاح الفصائل الفلسطينية، خصوصًا حماس، مقابل ضمانات مالية وسياسية. وثانياً إدارة انتقالية للقطاع: تشكيل سلطة مؤقتة أو مجلس دولي–عربي يشرف على الشأن الإداري والأمني في غزة. وثالثاً إشراف دولي طويل الأمد: نشر قوة مراقبة متعددة الجنسيات بإشراف أميركي لضمان استقرار الهدنة ومنع أي عودة للاشتباك العسكري. هذه المقاربة تُترجم رؤية امريكا للسلام ليس كاتفاق سياسي شامل، بل كنظام أمني مُدار يهدف إلى احتواء الصراع لغرض المصالح لا حله جذريًا.
الدوافع (الإسرائيلية): البقاء الأمن أولًا
تنظر (إسرائيل) إلى المقترح الأميركي بعيون أمنية بحتة، إذ ترى فيه فرصة لتثبيت مكاسبها الميدانية وتحقيق “ردع مستدام” دون الدخول في تسوية سياسية نهائية. فـ”النظام الأمني الجديد” يتيح لها التخلص من عبء إدارة قطاع غزة وسكانه. مع ضمان استمرار الرقابة على المعابر والحدود. فضلاً الاحتفاظ بحرية العمل العسكري ضد أي تهديد مستقبلي. لكنها في الوقت نفسه تتحفظ على أي وجود دولي مباشر في القطاع، لما يحمله من قيود على تحركاتها الميدانية أو مساءلات قانونية محتملة في إطار القانون الدولي الإنساني.
الموقف العربي والفلسطيني: بين الحذر والفرصة
على المستوى العربي، تمثل القمة نافذة لإعادة إدماج الدور الإقليمي في إدارة الصراع الفلسطيني–(الإسرائيلي). بالنسبة لمصر، فإنها تسعى لتكريس موقعها كوسيط مركزي ضامن للاستقرار الحدودي، ولها مصلحة مباشرة في منع عودة الفوضى الأمنية إلى سيناء. أما قطر والأردن، فترى في المبادرة فرصة للتأثير السياسي وضمان استقرار التمويل الدولي لإعادة الإعمار. أما السلطة الفلسطينية، فبينما تُبدي دعمًا حذرًا، تخشى من أن يؤدي المسار إلى تدويل القرار الفلسطيني وتقويض مشروع الدولة المستقلة. من جهة أخرى، تعتبر حركة حماس أن الخطة الأميركية تهديد مباشر لشرعيتها السياسية والعسكرية، وترى أن أي نزعٍ لسلاحها يهدف إلى تحويلها من فاعل مقاوم إلى طرف إداري منزوع الإرادة.
التحليل التنظيمي والمنهجي
الشرعية التمثيلية والتمثيل الفاعل، واحدة من الركائز الأساسية لحل النزاعات الدولية هي إشراك جميع الأطراف الفعلية الذين يمتلكون القدرة على اتخاذ قرارات تنفيذية، سواء كانوا دولاً أو جماعات مسلحة محلية.
كما يعد غياب (إسرائيل) وحركة حماس من القمة يعني أن ليس كل من يملك “القرار الفعلي على الأرض” قد شارك. هذا يُخَلّف فجوة في الشرعية التنفيذية — فالقرارات أو الاتفاقات التي تُتّخذ بدون مشاركة هؤلاء قد تكون رمزية أكثر منها عملية. من منظور النظريات السياسية مثل نظرية التمثيل (Representation) والنظرية الديمقراطية في مفاوضات السلام Procedural Justice، غياب الأطراف الأساسية يُضعف “عدالة الإجراءات” ويقلِّل من فرص الالتزام بالاتفاقات. اما وظائف القمم الدولية في الصراع وسماتها المحتملة من دون الأطراف الأساسية فتتمثل في ان القمم غالبًا ما تؤدي إلى إعلان نوايا أكثر منها اتفاقات ملزمة، حيث تُستخدم لإنشاء ضغط سياسي أو دبلوماسي أو تسجيل موقف أمام الجمهور الدولي أو الإقليمي. كما تلعب دور الوسيط أو الضامن الخارجي، محاولة لتشكيل إطار سياسي وأمني بديل أو مكمل، ولكن دون القدرة على فرض التنفيذ القسري إن لم تكن الأطراف بالفعل ملتزمة أو مشاركة.
فضلاً عن التوازن بين الأمن والسيادة فالحديث عن نظام أمني جديد يُفترض أن يُصاحب التسليم بوجود قدر من التمثيل المحلي، خصوصًا من حركة ذات قاعدة شعبية مثل حماس، وأن يُراعى مطلب السيادة الفلسطينية على غزة. فالتدويل المحتمل للصراع يُشكّل خطرًا من منظور السيادة الوطنية، حيث يصبح جزء من القرار يُدار من قبل جهات خارجية، مما قد يُثير رفضًا شعبيًا أو مقاومة غير ظاهرية.
ماذا يعني هذا الاتفاق عمليًا — ما تم التوصل إليه حتى الآن
من المعلومات المتاحة: تم توقيع اتفاقية لوقف إطلاق النار بين (إسرائيل) وحماس، تم فيها تبادل للأسرى والمعتقلين.
-
تم إعلان أن الحرب “انتهت” من جهة ترامب، وتحول التركيز إلى إعادة الإعمار والمساعدات الإنسانية.
-
الاتفاق تضمن انسحابًا جزئيًا للقوات (الإسرائيلية) وإعادة انتشار خلف خطوط معينة، فتح المعابر، إرسال مساعدات إنسانية، وتسهيل وصولها.
-
تم الاتفاق على بنود تتعلق بإشراف دولي أو ضمانات دولية من الدول التي شاركت كوسطاء (مصر، الولايات المتحدة، قطر، تركيا) لدعم تنفيذ المراحل الأولى.
-
رغم ذلك، لم تُوضّح حتى الآن صلاحيات الحكم المحلي في غزة بعد التهدئة، وكيفية مشاركة الفصائل المحلية حماس، ولا مدى التزامات (إسرائيل) في نزع السلاح أو السماح بحكم داخلي مستقل.
بين النظام الأمني والتدويل: قراءة في مآلات السيناريوهات
التقييم الاستشرافي — السيناريوهات المحتملة وآفاق المستقبل
السيناريو المحتمل الأول: نظام أمني هجين مع مشاركة محلية محدودة بمعنى الحكم المحلي في غزة قد يُعاد ترتيبه بحيث تشارك فصائل محلية ضمن إطار إداري مدني، لكن مع إشراف أمني دولي أو خارجي لضمان الالتزام بشروط التهدئة. قد تُمنح حماس دورًا “أمنيًا داخليًا مؤقتًا” أو ضمن تسوية مؤقتة، بشرط التزامها بعدم استخدام القوة، مع ضمانات لحقوقها السياسية أو المدنية. اما إعادة الإعمار تُدار من خلال مؤسسات دولية وعدد من الدول العربية، مع مراقبة استخدام الأموال، مع التركيز على البنية التحتية والخدمات الأساسية.
السيناريو المحتمل الثاني: تدويل الصراع وصيغة سلام ضعيفة التنفيذ في هذا السيناريو، يتحول الملف إلى إدارة دولية، حيث تُتخّذ القرارات من خارج غزة أو دون مشاركة فعالة لها، مما يقود إلى سلام شكلي أكثر منه واقعي مع استمرار تعارض المصالح والرؤى والقضايا بين الاطراف مما قد يرجع الصدام. اما الأجندات الخارجية قد تُركّز على الأمن ووقف إطلاق النار والمساعدات، وتُهمّش البعد السياسي للقضية: مثل حق العودة، سيادة فلسطينية على الأراضي، أو تشكيل دولة كاملة. إذا لم تُلبَّ بعض المطالب الشعبية، قد يظهر رد فعل شعبي أو مقاومة تستعيد الزخم، مما يعرقل التنفيذ الفعلي ويُضعف الاستقرار.
لا يمكن أن يُعتبر ما تم التوصل إليه حتى الآن في القمة “سلامًا” بمعناه الكامل دون إدخال الأطراف الأساسية في التفاوض والتنفيذ الفعلي. لكنّ القمة تمثل خطوة مهمة في السياسة الدولية يمكن أن تُستخدم كمنصة لتعزيز الضغط الدولي على الأطراف لتسليم الأدوار، إذا تم استثمارها جيدًا. من المهم أن يُصاحب أي نظام أمني جديد آليات شفافية، مشاركة مجتمعية، وضمانات للحقوق الأساسية، حتى لا يتحول السلام إلى حالة رعاية دولية مؤقتة تُخفي استمرار الهيمنة.
الخاتمة
تُبرز قمة غزة الأخيرة ما حملته من غياب للأطراف الفاعلة في الصراع هشاشة البنية التفاوضية للسلام في المنطقة، وتُعيد إلى الواجهة سؤال الشرعية التمثيلية في إدارة النزاعات الدولية. فالقمة، وإن مثّلت حدثًا دبلوماسيًا لافتًا من حيث الحضور الإقليمي والدولي، إلا أنها كشفت عن فجوةٍ بنيويةٍ بين التمثيل السياسي الرمزي والتمثيل الفعلي للفاعلين الميدانيين. وفي ضوء ذلك، يتضح أن السلام الذي لا يقوم على حضور الأطراف الحقيقية وقدرتها على الالتزام والتنفيذ، يظل في إطار “التهدئة القسرية” أكثر من كونه تسوية شاملة قابلة للاستمرار.
من زاوية تحليل الصراعات، يمكن توصيف هذا النمط من التفاعلات بأنه انتقال من منطق تسوية الصراع (Conflict Resolution) إلى منطق إدارة الصراع (Conflict Management)، حيث تسعى القوى الوسيطة إلى تثبيت توازن هشّ يمنع الانفجار دون معالجة الجذور البنيوية للصراع. إن غياب (إسرائيل) وحركة حماس عن طاولة القمة لا يعني فقط ضعف احتمالية التنفيذ، بل يشير إلى تحول مركز الثقل من الداخل إلى الخارج، أي إلى تدويل تدريجي للقضية وتوسيع دائرة الوصاية السياسية والأمنية على غزة.
وعليه، فإن مستقبل الصراع سيعتمد إلى حدٍّ كبير على قدرة الأطراف الإقليمية والدولية على إعادة دمج الفاعلين الرئيسيين ضمن إطار تفاوضي جديد يوازن بين متطلبات الأمن والاستقرار من جهة، وحقوق التمثيل والسيادة من جهة أخرى. أما في حال استمرار الفراغ التمثيلي وغياب الحلول المتوازنة، فإن الساحة مرشّحة لدخول مرحلة جديدة من “الاستقرار الهش” الذي قد يُفضي لاحقًا إلى تجدد المواجهة أو إعادة تشكّل للنظام الأمني في غزة ضمن معادلات دولية أكثر تعقيدًا.
في المحصلة، يمكن القول إن قمة غزة فتحت الباب أمام نقاش أعمق حول ماهية السلام نفسه: أهو غياب العنف المسلح مؤقتًا، أم إعادة بناء نظام أمني عادل ومستدام؟ وبين هذين الحدّين، يتحدد مستقبل المنطقة وحدود قدرة الدبلوماسية الدولية على تحويل الهدنة إلى سلام حقيقي وليس شعارات خاوية.



