الاكثر قراءةترجماتغير مصنف
فلسطين كحقيقة سياسية لا يمكن لـ”إسرائيل” إنكارها
الاعتراف الرمزي بالدولة يظلّ عاجزاً عن معالجة المأزق الفلسطيني

بقلم: شيرا إفرون
ترجمة: صفا مهدي عسكر
تحرير: د. عمار عباس الشاهين
مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية
في يومي 21 و22 أيلول اعترفت كل من أستراليا وكندا وفرنسا والمملكة المتحدة إلى جانب ست دول أخرى بدولة فلسطينية، وقد جاء الرد (الإسرائيلي)** متحديًا فقد صرّح رئيس الوزراء (الإسرائيلي) بنيامين نتنياهو في مقطع مصوَّر باللغة العبرية بعد إعلان الاعترافات “لن يحدث ذلك لن تُقام دولة فلسطينية غربي نهر الأردن”، ومع أن نتنياهو لن يتخذ القرار النهائي بشأن الرد (الإسرائيلي) الكامل إلا بعد عودته إلى المنطقة عقب لقائه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، فقد هدد ائتلافه مرارًا بضم أراضٍ من الضفة الغربية وحل السلطة الفلسطينية بشكل كامل.
إن سياسة الرد بالمثل هذه لا تخدم مصالح أي طرف (فالإسرائيليون) معرضون للخسارة مع تنامي الزخم الدولي للاعتراف بالدولة الفلسطينية وتزامن ذلك مع الردود (الإسرائيلية) العدوانية التي تُسرّع من عزلة دولتهم دبلوماسيًا واقتصاديًا وثقافيًا، والفلسطينيون خاسرون أيضًا إذ إن الاعتراف وحده لا يوفر لهم فوائد ملموسة أو يساعد السلطة الفلسطينية على الخروج من أزمتها، بل يمنح ذلك أجنحة اليمين المتشددة في الحكومة (الإسرائيلية) ذريعة إضافية لقمع مساعي الفلسطينيين نحو تقرير المصير وإضعاف السلطة الفلسطينية. وحتى قبل الإعلان الرسمي عن الاعترافات استندت الحكومة (الإسرائيلية) إليها ذريعةً لاتخاذ خطوات جديدة في توسيع الاستيطان بالضفة الغربية، ففي 20 آب صادقت (إسرائيل) على بناء مستوطنةE1 المثيرة للجدل التي تؤدي فعليًا إلى شطر الضفة الغربية وقد صرح وزير المالية بتسلئيل سموتريتش بوضوح أن هذه الخطوة جاءت ردًا على الدعوات لإقامة دولة فلسطينية، قائلاً “هذا الواقع يدفن أخيرًا فكرة الدولة الفلسطينية لأنه لا يوجد ما يُعترف به ولا من يُعترف به”.
ومع ذلك لا يزال بالإمكان استثمار الزخم المرتبط بالاعتراف لتحقيق نتائج إيجابية إذا نظر كل من القيادة (الإسرائيلية) والفلسطينية إلى ما هو أبعد من الرمزية، وإذا عمل الفاعلون الدوليون على تقديم الاعتراف ليس كإجراء أحادي بل كجزء من مسار متعدد الأطراف وشاق يهدف إلى تحقيق الاعتراف المتبادل بين (إسرائيل) ودولة فلسطين، وتطبيع العلاقات الدبلوماسية بين (إسرائيل) وجيرانها وتعزيز التكامل الإقليمي. وينبغي على الدول التي اعترفت أن توضح أن قرارها يندرج ضمن إطار إعلان نيويورك الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة بأغلبية ساحقة في 12 أيلول إضافة إلى مؤتمر الأمم المتحدة في تموز حول حل الدولتين الذي ترأسته كل من فرنسا والسعودية، فكلا المبادرتين يقدمان سُبلًا عملية للمضي قُدمًا ويجب على (إسرائيل) اغتنام الفرصة التي توفرها هذه المبادرات. إذ يضع إعلان نيويورك إطارًا شاملاً لإنهاء العمليات العسكرية (الإسرائيلية) في غزة، وإعادة ما تبقى من الرهائن وتفكيك حركة حماس وإعادة إعمار القطاع، مع ضمانات أمنية ومبادرات لتعزيز التكامل الإقليمي.
تتوافق هذه التدابير مع الأهداف العسكرية والسياسية (لإسرائيل)، ومن ثم يجب على القادة (الإسرائيليين) تجاوز الجمود الأيديولوجي الذي يدفعهم إلى رفض أي تصور لتقرير المصير الفلسطيني واستثمار هذه اللحظة للتعاون مع فرنسا والسعودية لتنفيذ إعلان نيويورك ودعوة الفلسطينيين والفاعلين الإقليميين الآخرين للاعتراف (بإسرائيل) كالوطن القومي للشعب اليهودي كما فعلت اتفاقيات أبراهام عام 2020، والمطالبة في المقابل بمحاسبة القادة الفلسطينيين على الالتزام بموجب القانون الدولي بمنع استخدام أراضيهم كمنصة لشن هجمات على (إسرائيل)، وإذا ما تم ذلك فقد يكتشف الجانب (الإسرائيلي) أن الزخم نحو الاعتراف يحمل في طياته مزايا حقيقية. وعلى الدول التي اعترفت بدولة فلسطين أن تتحمل مسؤولياتها أيضًا، عبر تحويل ضماناتها الأمنية إلى التزامات ملموسة والمساهمة في بلورة دولة فلسطينية لا تهدد جيرانها، وتمنح شعبها الكرامة من خلال مؤسسات فاعلة وخدمات عامة حقيقية.
بعد 7 تشرين الأول أصبح (الإسرائيليون) شديدي الحذر ومترددين في تقديم تنازلات إقليمية خصوصًا في ظل التهديد المستمر من الأراضي الفلسطينية وفشل السلطة الفلسطينية في إدارة شؤونها،
رد فعل مكتسًب
تأسست (إسرائيل) بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة ما يعني نظريًا أن (إسرائيل) لا يمكنها قبول الشرعية التي أنشأت دولتَها انتقائيًا وفي الوقت ذاته رفض دولة فلسطينية تشكّلت ضمن نفس الإطار القانوني، غير أن المعارضة (الإسرائيلية) لإقامة دولة فلسطينية ازدادت تشددًا منذ هجوم 7 تشرين الأول 2023، فقد أظهر استطلاع أجرته مؤسسة بيو في حزيران 2025 أن 21 بالمئة فقط من (الإسرائيليين) يعتقدون أن “التعايش السلمي مع دولة فلسطينية ممكن” – وهي أدنى نسبة منذ أن طرحت المؤسسة هذا السؤال لأول مرة عام 2013، كما أظهر استطلاع مشترك أجرته في أيلول 2024 كلّ من المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والاستطلاعات (PCPSR) وبرنامج جامعة تل أبيب الدولي لحل النزاعات والوساطة أن معظم (الإسرائيليين) يعتقدون أنه إذا أُنشئت دولة فلسطينية فإن الهجمات على (إسرائيل) ستستمر أو تتزايد.
بعد 7 تشرين الأول أصبح (الإسرائيليون) شديدي الحذر ومترددين في تقديم تنازلات إقليمية خصوصًا في ظل التهديد المستمر من الأراضي الفلسطينية وفشل السلطة الفلسطينية في إدارة شؤونها، وحتى القادة من الوسط الذين يعارضون نتنياهو باستمرار أعلنوا معارضتهم للاعتراف بالدولة الفلسطينية فقد عبّر بيني غانتس الجنرال السابق في الجيش (الإسرائيلي) وعضو مجلس حرب نتنياهو عن أسفه قائلًا إن الاعتراف الآن “يعزز حماس ويطيل أمد الحرب ويبعد فرص صفقة تبادل الرهائن ويرسل رسالة واضحة بالدعم لإيران وفصائلها”، وفي 21 أيلول وصف يائير لابيد زعيم المعارضة (الإسرائيلية) الاعتراف الأحادي بدولة فلسطينية من قِبل بريطانيا وأستراليا وكندا بأنه “كارثة دبلوماسية وخطوة ضارة ومكافأة للإرهاب”. ويشارك كثير من (الإسرائيليين) بدرجة ما من المنطق الرأي القائل إن توقيت الاعترافات الأخيرة يُكافئ حماس وهو تصور سعت حماس لتغذيته، ففي 2 آب صرح غازي حمد المسؤول الكبير في حماس لقناة الجزيرة “مبادرة بعض الدول للاعتراف بدولة فلسطينية هي أحد ثمار 7 تشرين الأول، لقد أثبتنا أن النصر على (إسرائيل) ليس مستحيلًا، وأسلحتنا رمز لكرامة الفلسطينيين”. وبعيدًا عن الجدل حول هذا السرد لدى (الإسرائيليين) مخاوف أخرى ، فالاعتراف سيغيّر أساسًا الوضع القانوني للضفة الغربية وقطاع غزة بموجب القانون الدولي ويلزم الدول المعترفة بمراجعة اتفاقياتها مع (إسرائيل) لضمان عدم انتهاكها لالتزاماتها تجاه دولة فلسطين، وقد يتحول نطاق واسع من العمليات العسكرية (الإسرائيلية) بما في ذلك آلاف المداهمات السنوية لاعتقال المسلحين أو تدمير الأسلحة في الأراضي الفلسطينية، إلى انتهاكات لسيادة عضو في الأمم المتحدة.
قبل أيلول اعترفت نحو 150 دولة عضو بالأمم المتحدة بدولة فلسطين، لكن إضافة فرنسا والمملكة المتحدة– العضوين الدائمين في مجلس الأمن – إلى هذه القائمة فضلاً عن دول مجموعة السبع مثل أستراليا وكندا قد يضع (إسرائيل) تحت مزيد من التدقيق والضغط من النواب والجماعات المدنية بما في ذلك دعاوى قانونية جوهرية أمام المحاكم الدولية، وقد تشعر ألمانيا وإيطاليا وحتى الولايات المتحدة في نهاية المطاف أنها لا تملك خيارًا سوى السير على خطى زملائها في مجلس الأمن، كما سيعزز هذا الاعتراف موقف الفلسطينيين في المحافل الدولية ويمهد الطريق لتحويل فلسطين من مراقب دائم إلى عضو كامل في الأمم المتحدة ما يجعل وضعها كدولة لا جدال فيه بغض النظر عن اعتراضات( إسرائيل).
الخسارة الكبرى للفلسطينيين
على المدى القصير يبدو أن الاعتراف سيؤذي الفلسطينيين أكثر من غيرهم، فوفقًا للتعريف القياسي للدولة فإن فلسطين لا تستوفي الشروط بالكامل في الوقت الحالي فبينما لديها مؤسسات جزئية تعمل فإنها لا تسيطر فعليًا على أي أرض محددة ولا تمتلك احتكارًا للقوة ولا اقتصادًا مستقلًا ولا إدارة حكومية متماسكة، وأي دولة فلسطينية اسمية موجودة على الورق بفضل هذه الاعترافات لن تكون ذات جدوى فعلية وقد يؤدي ما تليها من تداعيات إلى تقويض قدرة السلطة الفلسطينية على الحكم حتى في الأراضي القليلة التي يُفترض أنها تسيطر عليها. فالسلطة الفلسطينية على حافة الإفلاس، فقد أجلت المدارس العامة في الضفة الغربية بدء العام الدراسي وأصبحت تعمل ثلاثة أيام أسبوعيًا فقط مما يؤثر على أكثر من 600 ألف طفل، كما اضطرت السلطة إلى خفض رواتب موظفيها العموميين بنسبة تصل إلى 50 بالمئة وتأجيل المدفوعات للمقاولين في القطاع الخاص. وتقدّم وزارات مثل وزارة الصحة خدمات جزئية فقط، وانكمش اقتصاد الضفة الغربية إلى أقل من سدس حجمه عام 2022 فيما بلغت نسبة البطالة أكثر من 30 بالمئة، ولا تحظى السلطة الفلسطينية بشعبية كبيرة لدى مواطنيها فقد أظهر استطلاع PCPSR في أيار أن 81 بالمئة من الفلسطينيين يرغبون في استقالة الرئيس محمود عباس، وأن 69 بالمئة يعتقدون أن السلطة لن تنجح في تنفيذ الإصلاحات الضرورية لإدارة شؤونها.
ولا تفعل اعترافات هذا الأسبوع شيئًا عمليًا لزيادة قدرة السلطة الفلسطينية أو حمايتها من العدوان (الإسرائيلي)، بل تضع الفلسطينيين بشكل أكبر في مرمى المسؤولين (الإسرائيليين) الذين يسعون لجعل الدولة الفلسطينية أمرًا مستحيلًا، ففي 18 أيلول هدّد وزير المالية بتسلئيل سموتريتش رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بأنه إذا لم تقم الحكومة (الإسرائيلية) بضم الضفة الغربية ردًا على الاعترافات فسوف يستخدم سلطته لإسقاط السلطة الفلسطينية بالكامل، وفي 20 أيلول وخلال فعالية في معاليه أدوميم مستوطنة كبيرة قرب القدس أعلن نتنياهو “سنفي بوعدنا بعدم إقامة دولة فلسطينية، هذه الأرض لنا”.
الخطر المنفرد للعزلة (الإسرائيلية)
تتجاوز عواقب موجة الاعتراف بالدولة الفلسطينية على (إسرائيل) حدود الرمزية ولا يمكن تداركها بسهولة من خلال إجراءات الضم، فمن المتوقع أن تزيد هذه الموجة من السخط الدولي على (إسرائيل) وتسهم في تسريع وتيرة سحب الاستثمارات وفرض المقاطعات الاقتصادية، كما أن الدول التي سعت إلى التخفيف من المعارضة الداخلية لسياسات (إسرائيل) عبر الإعلان عن الاعترافات ستواجه ضغوطًا متزايدة لفرض عقوبات رسمية عليها، ويُعد الاتحاد الأوروبي أكبر مستثمر في (إسرائيل) حيث تساوي مساهماته السنوية ضعف ما تقدمه الولايات المتحدة وهو الوجهة الرئيسية للاستثمارات (الإسرائيلية) وأكبر شريك تجاري (لإسرائيل). وقد شرعت بعض المؤسسات الأوروبية بالفعل في سحب استثماراتها من الشركات (الإسرائيلية)، ففي آب على سبيل المثال سحب صندوق الثروة السيادي النرويجي البالغ قيمته تريليوني دولار استثماراته من شركة كاتربيلر وخمسة بنوك (إسرائيلية) مستندًا إلى ما وصفه بـ”المخاطر غير المقبولة” لإسهام هذه الاستثمارات في انتهاكات حقوق الإنسان، ومن المتوقع أن تحذو دول أخرى مثل فرنسا وألمانيا وهولندا والمملكة المتحدة حذوه، ويُنظم العديد من العلاقات الاقتصادية بين دول الاتحاد الأوروبي و(إسرائيل) بموجب اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي و(إسرائيل) لعام 2000 والتي يمكن إنهاؤها فقط بالإجماع وهو أمر غير مرجح في ظل دعم المجر المستمر (لإسرائيل)، أما مقترح المفوضية الأوروبية لتعليق جزئي للاتفاقية في منتصف أيلول والذي كان يتطلب دعم أغلبية الدول الأعضاء فقط فقد قوبل بالفيتو من ألمانيا وإيطاليا.
غير أن التوجه العام للرأي الأوروبي الذي تعكسه موجة الاعترافات قد يدفع ألمانيا وإيطاليا في المستقبل إلى رفع الفيتو، وفي هذه الحالة قد تفقد (إسرائيل) اتفاقية التجارة الحرة مع الاتحاد الأوروبي إضافة إلى الوصول إلى برنامج( أفق اوروبا Horizon Europe )البحثي البالغ قيمته 100 مليار دولار وهو الصندوق الرئيسي للاتحاد الأوروبي للبحث والابتكار، وتعد (إسرائيل) مستفيدًا رئيسيًا من البرنامج إلا أن معدلات الموافقة على المشاريع المشتركة مع الباحثين (الإسرائيليين) انخفضت هذا العام بنسبة 68.5%، وفي أيار صرح ديفيد هاريل رئيس أكاديمية العلوم والعلوم الإنسانية (الإسرائيلية) بأن استبعاد (إسرائيل) بالكامل سيكون بمثابة “حكم بالإعدام على العلم (الإسرائيلي)”. ويمثل تهميش الأكاديميين (الإسرائيليين) جزءًا من اتجاه أوسع، إذ يواجه الرياضيون (الإسرائيليون) صعوبات متزايدة في المنافسة على المستوى الدولي ومن المتوقع أن تصوت اللجنة التنفيذية للاتحاد الأوروبي لكرة القدم قريبًا على تعليق مشاركة المنتخب الوطني (الإسرائيلي) وكافة أنديته ما يحرم الرياضيين من أحد أهم المنصات الرياضية، وتواجه المؤسسات الثقافية ضغوطًا مماثلة والتي ستزداد بعد موجة الاعترافات الأخيرة ففي أوائل أيلول ألغى مهرجان فلاندرز في غنت عرض الأوركسترا الفيلهارمونية في ميونيخ لمجرد أن قائدها لاهاف شاني الذي دعا إلى السلام في غزة يشرف أيضًا على الأوركسترا الفيلهارمونية (الإسرائيلية)، كما تعهد أكثر من 4,000 ممثل وصانع أفلام بعدم التعاون مع المؤسسات (الإسرائيلية). وقد يبدو للبعض أن هذه المسائل هامشية لكن احتمال استبعاد (إسرائيل) من مسابقة يوروفيجن للأغاني له وقع كبير على (الإسرائيليين)، فالمسابقة تُعد إحدى أبرز الفعاليات السنوية في البلاد ويعتز (الإسرائيليون) بسجلهم المتميز فيها فقد فازت (إسرائيل) أربع مرات وكان وصول متسابق (إسرائيلي) إلى نهائيات 2025 مصدر ارتياح كبير مؤكدًا لهم أن فنانيهم ما زالوا محل تقدير دوليًا، غير أن كلًّا من آيسلندا وأيرلندا وهولندا وسلوفينيا وإسبانيا هددوا بمقاطعة نسخة 2026 إذا شاركت (إسرائيل) وقد تدفع الاعترافات الأخيرة ورد الفعل العدواني (الإسرائيلي) المزيد من الدول لإصدار تهديدات مماثلة.
وفي مؤتمر عقده الأسبوع الماضي بوزارة المالية أقر نتنياهو بأن (إسرائيل) تدخل مرحلة “نوع من العزلة”، ومع ذلك حاول تصوير الأمر وكأن البلاد قادرة على إدارتها مقترحًا اعتماد اقتصاد ذو “خصائص اكتفائية” والتحول إلى “سبارتا عظمى” يبدو أن نتنياهو تجاهل أن نجاح الاقتصاد (الإسرائيلي) يعتمد بشكل كبير على مكاسب أوسلو للسلام وأن (إسرائيل) أصبحت اقتصادًا قائمًا على التصدير يعتمد على قطاع التكنولوجيا وقوة عاملة متعلمة ومرتبطة عالميًا، ويعتمد استمرار نجاحها على علاقات متينة مع بقية العالم ولهذا السبب قال مؤسس (إسرائيل) ديفيد بن غوريون في عام 1955 (إسرائيل) ليست مقدرًا لها أن تصبح سبارتا جديدة” وأضاف “بغض النظر عن انخراطنا العسكري يجب ألا نغفل أن هدفنا النهائي في علاقاتنا مع جيراننا هو السلام والتعايش”.
فرصة من ذهب
بعد انتهاء الضجة الدبلوماسية في الأمم المتحدة لا تزال هناك فرصة للاستفادة من هذه الاعترافات وتحويل الموقف إلى مكسب محتمل إذا أعادت (إسرائيل) والدول الأخرى تركيز اهتمامها على إعلان نيويورك، كان الهدف من هذا الإعلان تجنّب مأزق المبادرات الدبلوماسية السابقة الفاشلة من خلال اقتراح خطوات ملموسة محددة زمنياً نحو حل النزاع (الإسرائيلي) – الفلسطيني ضمن إطار إقليمي يرفض دور حماس ويحفّز الدول العربية على لعب أدوار رئيسية، للأسف أدت الخطابات التصعيدية والتهديدات المتبادلة المحيطة بالاعترافات إلى صرف الانتباه عن هذه الإجراءات العملية.
لكن إعلان نيويورك قد يوفر للحكومة (الإسرائيلية) مخرجًا لإنهاء حربها في غزة التي تحظى بعدم شعبية داخل (إسرائيل)، فقد أصرّت الحكومة (الإسرائيلية) منذ فترة طويلة على خمسة شروط لوقف العمليات العسكرية اولها هو تجريد حماس من السلاح وإعادة جميع الرهائن الأحياء والمتوفين ونزع السلاح من غزة، كما شرطت بإحتفاظ (إسرائيل) بالسيطرة الأمنية على قطاع غزة وإنشاء إدارة مدنية بديلة لا تتبع حماس أو السلطة الفلسطينية. ويتماشى إعلان نيويورك تمامًا مع الأهداف الثلاثة الأولى ويقر ضمنيًا بأن (إسرائيل) ستحتفظ على المدى القريب بالسيطرة الأمنية على الأطراف المحيطة بغزة وأن حماس لن تعود إلى السلطة، كما يربط إعلان نيويورك السلطة الفلسطينية على غزة بإصلاحات تجعلها شريكًا أكثر موثوقية (لإسرائيل) مقارنة بالوضع الحالي، وفي الواقع يمكن سد الفجوة بين ما تطمح إليه (إسرائيل) وما يطمح إليه المجتمع الدولي، ينبغي لفرنسا والسعودية والدول التي أيدت إعلان نيويورك أن تبدأ فورًا باتخاذ خطوات عملية لتنفيذ الإجراءات المقترحة مثل تصميم آلية لتجريد حماس من السلاح وتدريب قوة أمنية متعددة الجنسيات لمراقبة وفرض وقف إطلاق النار والحصول على التزامات فعلية من اللاعبين الدوليين لتثبيت الأوضاع وإعادة إعمار غزة ووضع خطة واضحة لتقليل التطرف داخل الحركات المسلحة الفلسطينية. علاوة على ذلك يجب على الدول الموقعة على إعلان نيويورك الاستثمار في حملات توعوية أكثر فعالية تجاه الجمهور (الإسرائيلي) لتوضيح أسباب كون مقترحها يشكّل بديلًا عمليًا للنهج الحالي (لإسرائيل) القائم على الصفرية تجاه الفلسطينيين، وينبغي أيضًا السعي لإشراك الولايات المتحدة في اجتماع 23 ايلول مع الرئيس ترامب، الذي من المتوقع أن يناقش رؤية ما بعد الحرب لغزة.
وقد أظهرت (إسرائيل) مرونة عند الحاجة فعلى سبيل المثال خلال وقف إطلاق النار الذي دام ستة أسابيع في كانون الثاني 2025 سمحت قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية والمرفقة بالعلم الفلسطيني بدوريات على الحدود في رفح، والآن حان الوقت لتطبيق المزيد من الواقعية فاعترافات هذا الأسبوع أصبحت واقعًا قائمًا ومسألة اعتراف دول أقوى بفلسطين هي مسألة وقت لا أكثر، وستواجه (إسرائيل) عزلة لا يمكن لشعبها تحملها على المدى الطويل ما لم تقبل بأن تلعب السلطة الفلسطينية دورًا ما في إنهاء الحرب في غزة.
في الواقع قد يكون للاعتراف بعض الفوائد (لإسرائيل)، فإذا بدأ المجتمع الدولي في التعامل مع النزاع (الإسرائيلي)- الفلسطيني على أنه نزاع بين كيانين متساويين قانونيًا وليس بين محتل وشعب محتل فإن ذلك سيجبر الأمم المتحدة والمنتديات الدولية الأخرى بما فيها المحاكم الدولية والقيادة الفلسطينية على الاعتراف بأن (إسرائيل) تواجه تهديدًا أمنيًا من الأراضي الفلسطينية، كما سيوضح الالتزامات القانونية للفلسطينيين لمنع استخدام أراضيهم كقاعدة للهجوم على (إسرائيل) ووقف الأنشطة المسلحة لحماس. وفي (الشرق الأوسط) من لا يجلس على الطاولة غالبًا ما يصبح على قائمة الطعام، بدلاً من رفض تدخل المجتمع الدولي بشكل قاطع ينبغي (لإسرائيل) أن توضح قبولها للمكونات الأساسية لإعلان نيويورك والمشاركة في مناقشات كيفية تنفيذها وطرح تساؤلات حول العناصر المقلقة والمطالبة بإجراءات إضافية مهمة مثل الاعتراف بحق اليهود في تقرير المصير داخل (إسرائيل)، فقط حينها يمكن تحويل مسار الأحداث في (الشرق الأوسط) من اعتراف أحادي وتجزئة إقليمية وعزلة دولية (لإسرائيل)، إلى تكامل إقليمي وتعزيز الأمن لكل من الفلسطينيين و(الإسرائيليين).
* Shira Efron, Israel Can No Longer Wish Palestine Away but Symbolic Statehood Is No Panacea for the Palestinians, FOREIGN AFFAIRS, September 23, 2025.
** لمقتضيات الأمانة العلمية، وضرورات الترجمة الدقيقة، تم الإبقاء على كلمة (إسرائيل)، وهو لا يعني اعتراف المركز بها، وما هو مكتوب يمثل راي وأفكار المؤلف.




