الاكثر قراءةتقدير موقفغير مصنف
بين إدارة الصراع والرفض الدبلوماسي: الموقف الباكستاني من خطة ترامب لغزة

بقلم: نور نبيه جميل
باحثة في مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية
المقدّمة
أعلنت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في تشرين الاول 2025 خطة سلام مكونة من 20 نقطة تهدف إلى إنهاء الحرب المستمرة في غزة منذ عامين. تركز الخطة على وقف فوري للأعمال العدائية، إطلاق سراح الرهائن، نزع سلاح حماس، وإقامة حكومة فلسطينية مؤقتة تحت إشراف دولي. تسعى هذه المبادرة إلى إعادة تشكيل التوازنات الإقليمية عبر دمج (إسرائيل) في بنية إقليمية جديدة، مع تحييد القوى المناوئة من خلال ترتيبات سياسية وأمنية محكمة.
تأتي خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشأن غزة في سياق إقليمي متشابك، يواجه فيه الصراع الفلسطيني–(الإسرائيلي) تحولات استراتيجية عميقة، مع صعود منطق إدارة الصراع بدلًا من الحل الجذري. وقد أعادت باكستان في موقفها الرسمي طرح هذه الدينامية، ليس عبر تبنّي مباشر أو رفض مطلق، بل من خلال لغة تحفظ ودقة في التشكيك، ما يجعل موقفها نموذجًا لدراسة إستراتيجية في إدارة التناقضات السياسية.
تصريح وزير الخارجية الباكستاني، إسحاق دار، بأن “النقاط العشرين التي أعلنها ترامب ليست من صياغة باكستان” وأن “هذه ليست الوثيقة التي اطلعنا عليها”، يشير إلى أن الموقف الباكستاني ليس حياديًا شكليًا فقط، بل يحمل بعدًا تشكيكيًا مضمونيًا. هذا التشكيك يعكس عدم الثقة في شفافية الخطة ومصداقية العملية التي قدمتها واشنطن، ما يضع الموقف الباكستاني في خانة أكثر تعقيدًا من مجرد التحفظ التقليدي.
إدارة الصراع وليس حله
من منظور دراسات الصراع، الخطة الأميركية تسعى إلى إعادة صياغة الصراع الفلسطيني–(الإسرائيلي) على أساس إعادة توزيع جغرافي وسياسي للأدوار، بما يخدم المصالح (الإسرائيلية) والأميركية دون تحقيق او تقارب لمصالح الاطراف كافة.
في ضوء ذلك فإن باكستان، من موقعها كدولة إسلامية فاعلة، لم ترفض الخطة بشكل مباشر ولم تتخذ الصدام المباشر كطريقة، لكنها اعتمدت سياسة إدارة الحياد الظاهري، لتبقي لنفسها مجالًا للتحرك في المستقبل، دون الانخراط في المواجهة المباشرة أو القبول الكامل كما تعتمد الخطة على الردع غير المتماثل، عبر فرض ترتيبات أمنية تُضعف القدرة العسكرية للفصائل الفلسطينية، وتضع غزة تحت إشراف دولي، مما يحد من احتمالية تجدد التصعيد. لكنها تواجه خطر هشاشة الاستقرار إذا غابت الضمانات الدولية أو فشل الإشراف الفعّال.
ويتمحور هذا عبر الأبعاد الأساسية للخطة وهي كالاتي:
١. الركن الأمني: تركز الخطة على وقف فوري للأعمال العسكرية، مع سحب القوات (الإسرائيلية) إلى خطوط محددة تحت إشراف دولي. تشمل المرحلة الأولى من الخطة إطلاق سراح جميع الرهائن خلال 72 ساعة من قبول الاتفاق، وهو بند ذو بعد سياسي، تتضمن الخطة أيضًا نزع سلاح حماس، وتدمير البنية التحتية العسكرية، وإنشاء منطقة منزوعة السلاح تحت إشراف قوة دولية. وهو منطق ردع واضح دون الةصةل الى حلول جذرية للصراع مما يجعلنا في محل الادارة وليس الحل.
٢. الركن السياسي: تقترح الخطة إنشاء حكومة فلسطينية مؤقتة، غير حزبية، تحت إشراف دولي، لإدارة شؤون غزة. تتضمن الخطة أيضًا بحسب قولهم ضمانات لحقوق الإنسان، بما في ذلك حرية التنقل، وحقوق الملكية، والحريات المدنية. تهدف هذه الخطوة إلى خلق بيئة سياسية مستقرة تشجع على المشاركة الفاعلة من جميع الأطراف.
٣. الركن الاقتصادي: تتضمن الخطة إنشاء منطقة اقتصادية خاصة في غزة، تديرها الحكومة المؤقتة، مع تسهيلات جمركية واستثمارات دولية لإعادة الإعمار. تشمل الخطة دعم البنية التحتية الأساسية وتقديم مساعدات إنسانية، بما يعزز من فرص الاستقرار الاجتماعي ويخلق بيئة ملائمة للتهدئة. تسعى الخطة إلى جذب استثمارات دولية لإعادة بناء غزة، مع التركيز على خلق فرص عمل وتحسين مستوى المعيشة وكل ذلك بما يخدم مصالح القوى الكبرى في الصراع.
٤. الركن الإقليمي: تسعى الخطة إلى إدماج (إسرائيل) في إطار أمني–اقتصادي إقليمي، يستند إلى تحالفات استراتيجية جديدة بين الدول العربية وإ(سرائيل)، تحت مظلة الضمان الأميركي. تهدف هذه الخطوة إلى تحييد القوى المعادية (لإسرائيل)، من خلال إعادة ترتيب التحالفات الإقليمية. تشمل الخطة أيضًا إنشاء آلية أمنية مشتركة لمراقبة الحدود ومنع وصول الأسلحة إلى غزة.
ولكن واجهت الخطة رفضًا واسعًا من بعض القوى الفلسطينية، اما حماس فقد رأت فيها محاولة لتقويض مقاومتها ونزع سلاحها. في المقابل، أبدت بعض الأطراف الفلسطينية استعدادًا للتفاوض، إن توفرت ضمانات لإدارة ذاتية فعّالة وإعادة الإعمار. ومع ذلك، حددت حماس عدة شروط قبل الموافقة الكاملة:
-
وقف كامل للعدوان (الإسرائيلي) وانسحاب القوات (الإسرائيلية) من غزة.
-
إعادة إعمار القطاع تحت إشراف هيئة فلسطينية تكنوقراطية، بدلاً من إدارة دولية بقيادة ترامب.
-
إطلاق سراح جميع الأسرى الفلسطينيين في السجون (الإسرائيلية)، مع ضمانات واضحة لتنفيذ ذلك.
في المقابل، الرئيس ترامب أعرب عن تفاؤله بإمكانية التوصل إلى اتفاق، مؤكدًا التزامه بتوفير الضمانات الأمنية اللازمة لتنفيذ الخطة وضمان الإفراج عن الرهائن.
إجمالًا، حماس لم ترفض الخطة بشكل كامل، بل أبدت استعدادها لقبولها بشرط تلبية مطالبها الأساسية، مما يفتح المجال لمفاوضات قد تؤدي إلى تسوية شاملة في المستقبل
تلقت الخطة دعمًا من دول مثل مصر وقطر، واعتبرت خطوة إيجابية نحو التهدئة. بينما عبرت دول أخرى عن تحفظات، خاصة حول البعد السياسي للخطة وحقوق الفلسطينيين. من جهة أخرى، اعتبرت مراكز أبحاث أن الخطة تمثل اختبارًا لجدية واشنطن في إعادة صياغة دورها كضامن للسلام في الإقليم.
الرفض الدبلوماسي والتشكيك المضموني
تصريح وزير الخارجية يمثل رفضًا دبلوماسيًا ذكيًا، لأنه لا ينكر وجود مشاورات أو اطلاع على الخطة، لكنه يشدد على أن النسخة الرسمية المنشورة مغايرة لما كان متفقًا عليه. يوحي بوجود تغييرات أو تحريف في النص، ما يعني تشكيكًا بمصداقية الإدارة الأميركية نفسها. هذا الموقف يعكس استراتيجية سياسية مزدوجة رفض معلن في الشكل، تشكيك مضموني في الجوهر، وهو ما يوازن بين الحفاظ على المصالح الدبلوماسية مع واشنطن، والوفاء بالالتزامات الرمزية تجاه القضية الفلسطينية.
البعد الرمزي والهوية
القضية الفلسطينية تمثل ركيزة أساسية للهوية الإسلامية الباكستانية، لذلك لا يمكن لباكستان أن تظهر موقفًا داعمًا لخطة قد تُعتبر إضعافًا للحقوق الفلسطينية دون أن تواجه تداعيات سياسية داخلية وإقليمية. التصريح بهذا الأسلوب يعكس وعيًا سياسيًا عميقًا بضرورة حماية الصورة الرمزية لباكستان كداعم للقضية الفلسطينية، من دون الدخول في مواجهة مباشرة مع القوة الأميركية.
السيناريوهات المستقبلية
السيناريو الأول: استمرار إدارة الصراع باكستان ستواصل نهج الحياد الحذر، وتتعاطى مع أي تطوير للخطة الأميركية ضمن منطق “الانتظار والمراقبة”، مع الحفاظ على موقع يسمح لها بالمناورة الدبلوماسية.
السيناريو الثاني: تعزيز التشكيك والتعاون الإسلامي في حال اتسع نطاق الجدل الإقليمي حول الخطة، قد تعيد باكستان التنسيق مع دول إسلامية كبرى (تركيا، إيران، قطر) لدعم موقف فلسطيني موحد، مع تعزيز دورها الرمزي في قيادة المبادرات الإسلامية.
السيناريو الثالث: انخراط انتقائي: قد تختار باكستان الانخراط الجزئي في بنود إنسانية أو اقتصادية من الخطة، شريطة أن تضمن لنفسها مكاسب سياسية ودبلوماسية، مع الحفاظ على رفض مضمون نص الخطة كما هو معلن.
خاتمة
إنّ الموقف الباكستاني من الصراع الإيراني–(الإسرائيلي) يعكس إدراكًا استراتيجيًا عميقًا بأنّ مصلحة الدولة لا تُقاس بالاصطفاف، بل بالقدرة على المناورة بين التناقضات.
تتبنى إسلام آباد سياسة “إدارة التوازن” لا “إدارة التحالف”، مدركة أن أي انزلاق في هذا الصراع سيهدد الأمن الإقليمي بأسره، وأن الحياد الذكي قد يكون في بعض الأحيان أداة الردع الأكثر فاعلية. من منظور إعادة هندسة التوازنات الإقليمية.
تمثل الخطة محاولة أميركية لإعادة توزيع الأدوار في الإقليم عبر:
-
دمج (إسرائيل) في شبكة تحالفات عربية–(إسرائيلية) جديدة.
-
تحجيم الدور الإيراني عبر فصل القضية الفلسطينية عن محور المقاومة.
-
إعادة تعريف الدور العربي من وساطة إلى شراكة وظيفية في إدارة الأمن الإقليمي.
وفي ضوء ماسبق فإن الموقف الباكستاني من خطة ترامب لغزة لا يمكن اختزاله في مجرد حياد أو رفض صريح، بل هو موقف تشكيكي مضموني يُمارس عبر إدارة الصراع والرفض الدبلوماسي.
هذا الموقف يعكس قراءة استراتيجية دقيقة: أن باكستان تسعى للحفاظ على مسافة مناورة بين الولايات المتحدة والعالم الإسلامي، وأنها تعتمد على الحياد الظاهري كأداة للتشكيك في جوهر المبادرة الأميركية، في سياق تحولات إقليمية معقدة تتطلب موازنة بين المصلحة والسيادة الرمزية. كما يرتبط ذلك في الصراع الإيراني–(الإسرائيلي) الذي يعد عاملًا محوريًا في إعادة تشكيل توازنات (الشرق الأوسط)، اذ تتحرك باكستان ضمن سياسة “حياد نشط” تمزج بين المبادئ والمصالح. فإسلام آباد، رغم دعمها التاريخي للقضية الفلسطينية، تتجنب الانحياز الحاد، مدفوعة باعتبارات جيوسياسية تشمل موقعها الاستراتيجي، علاقاتها المتوازنة مع السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية، وحرصها على أمنها النووي. ومع تحول المعادلات الإقليمية بعد 2023، اختارت باكستان التمسك بدور “دولة توازن” تسعى إلى إدارة التناقضات الإقليمية عبر الردع غير المباشر، والحفاظ على مرونتها الدبلوماسية والاقتصادية، بما يحفظ مصالحها الاستراتيجية ويجنبها الانجرار إلى مواجهة مفتوحة.




