الاكثر قراءةترجماتغير مصنف

 الصين في موقع الهجوم استراتيجيات بكين لاستثمار التراجع الأميركي

بقلم: جيفري بريسكت وجوليان غيويرتز

ترجمة: صفا مهدي عسكر

تحرير: د. عمار عباس الشاهين

مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية

 

السؤال الجوهري الذي شغل المراقبين خلال الولاية الثانية للرئيس ترامب تمثل في كيفية انعكاس رفضه الصريح للنظام الدولي القائم على الاستراتيجية العالمية للصين، فقد وصف وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو هذا النظام بأنه “بالي” و”سلاح يُستخدم ضد الولايات المتحدة” فيما شنّ ترامب في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 23 أيلول، هجوماً على المؤسسات “العالمية” متهماً إياها بـ”خلق مشكلات جديدة لنا لحلّها”.

في الأشهر الأولى من العام الجاري اتسمت استجابة بكين لهذه الهجمات الأميركية بالحذر والاتزان، فاكتفت بفرض رسوم جمركية مضادّة رداً على الإجراءات الأميركية بينما فضّلت الاستفادة من عزلة واشنطن وتراجع حضورها في المؤسسات الدولية دون الانخراط في مواجهة مباشرة، غير أنّ هذه المرحلة من التحفظ انتهت إذ اختارت الصين مساراً أكثر طموحاً عبّرت عنه بوضوح في قمة منظمة شنغهاي للتعاون التي انعقدت في أيلول. فقد جمع الرئيس شي جين بينغ على منصة واحدة كلاً من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي إلى جانب 18 زعيماً من مختلف أنحاء أوراسيا، وبعد أيام قليلة ظهر شي محاطاً ببوتين والزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون خلال عرض عسكري ضخم في بكين استعرضت فيه الصين قدراتها العسكرية المتنامية، تعليق ترامب على المشهد بقوله “كانوا يأملون أنني أشاهد وكنت أشاهد” عكس من غير قصد الموقع الجديد الذي أرادت الصين أن تضع فيه الولايات المتحدة رئيس أميركي، طالما كان فاعلاً محورياً في السياسة الدولية تحوّل إلى مجرّد متفرج على عالم يتغير من حوله.

يسعى شي جين بينغ إلى ترسيخ مكانة الصين كمحور رئيسي في عالم متعدد الأقطاب آخذ في التشكل من خلال انتهاج دبلوماسية أكثر نشاطاً واندفاعاً لتحقيق هذا الهدف، فبدلاً من محاولة إقصاء الولايات المتحدة من موقعها القيادي في النظام الدولي أو نسف بنيته تستثمر بكين تخلي واشنطن الطوعي والسريع عن دورها المركزي وتعمل على تعزيز قوتها ومكانتها داخل المؤسسات الدولية القائمة في مسعى لإعادة توجيه مراكز الثقل نحو بكين بصورة يصعب التراجع عنها، وإذا ما نجحت هذه الاستراتيجية فإنها ستعيد تشكيل النظام الدولي من الداخل واضعة الصين في موقع الصدارة فيما ستواجه الولايات المتحدة تراجعاً في نفوذها قد يصعب على الإدارات الأميركية المقبلة معالجته أو عكس مساره.

 

بناء النظام العالمي

حتى وقت قريب كان المحللون في الشؤون الدولية يتعاملون بلا مبالاة مع الطابع الاستعراضي لقمة الصين معتبرين اجتماعات منظمة شنغهاي للتعاون أقرب إلى عروض رمزية تفتقر إلى مضمون فعلي، فخلافات الأعضاء الرئيسيين ــ مثل النزاع الحدودي المستمر بين الصين والهند ــ كانت في الغالب تفوق مساحات التوافق بينهم، بل إن بعض المعلقين والمسؤولين الأميركيين وصفوا الفعاليات الأخيرة التي استضافتها بكين بأنها مجرد “عرض شكلي” أو “فرصة لالتقاط الصور”.

لكن بعد ثمانية أشهر من ولاية ترامب الثانية بدا هذا التوصيف متفائلاً أكثر مما ينبغي إذ تجاهل حجم التحولات التي أحدثتها سياسات ترامب في إعادة تشكيل النظام العالمي، فالنظام الدولي الذي شيدته الولايات المتحدة وأدارته لعقود يقترب من نهايته وما سيأتي بعده لا يزال مفتوحاً للتنافس، باتت قوى عدة تتسابق على النفوذ حيث تحل الصفقات قصيرة المدى محل الشراكات الاستراتيجية الطويلة الأمد في مشهد وصفه أحد الباحثين في فورين أفيرز بـ “التعددية القطبية المرتزقة”، ولا تزال الولايات المتحدة والصين القوتين الأكثر تأثيراً لكن لاعبين آخرين ــ مثل الهند وروسيا والاتحاد الأوروبي ــ يطرحون أجنداتهم الخاصة فيما يتعزز التعاون بين خصوم واشنطن على نحو متزايد مع تراجع تحالفاتها.

في هذا السياق يرى الرئيس شي جين بينغ فرصة سانحة لصياغة نظام عالمي تتمحور فيه الصين دون الدخول في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة عبر استغلال الفراغات التي خلّفها شعار “أميركا أولاً”، فالمشروع الصيني يتجاوز مجرد استضافة القمم وعروض القوة، فبينما كان ترامب يتنازع مع قادة البرازيل والهند ألقى شي كلمة في قمة البريكس الافتراضية التي استضافتها برازيليا حول “مقاومة الحمائية” كما استقبل رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي في بكين لتعزيز العلاقات الثنائية. وفي حين يفرض ترامب الرسوم الجمركية ويقلّص المساعدات الخارجية أعلنت الصين تخفيض الرسوم على الواردات الإفريقية وتعهدت بدعم إصلاح منظمة التجارة العالمية بما يخدم نمو اقتصادات الدول النامية، وبينما اعتمدت إدارة ترامب مقاربة قومية صرفة في مجال التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي نظمت بكين مؤتمرها العالمي للذكاء الاصطناعي تحت شعار “التضامن العالمي في عصر الذكاء الاصطناعي” وأطلقت مبادرة جديدة لحوكمة الذكاء الاصطناعي، أما في ملف المناخ حيث وصف ترامب التغير المناخي بأنه “أكبر خدعة في التاريخ” وتغيب عن قمة الأمم المتحدة المخصصة له فقد حددت الصين هدفاً لخفض الانبعاثات ورغم تواضعه لقي ترحيباً في بعض الأوساط.

الأكثر إثارة للقلق بالنسبة لواشنطن أن تحركات شي أوضحت أن النظام العالمي الجديد الذي تسعى بكين إلى صياغته يكافئ من يقاوم الولايات المتحدة، وأبرز رموز ذلك كان الحفاوة الخاصة التي حظي بها الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون خلال العرض العسكري في بكين رغم العقوبات القاسية المفروضة على بلاده ومشاركته في دعم روسيا في حربها ضد أوكرانيا، الأمر ذاته انطبق على قادة آخرين تحدوا واشنطن بشكل أو بآخر مثل بوتين ومودي والرئيس الإيراني مسعود بزشكيان الذين استقبلوا بحفاوة مماثلة.

تركّز الصين اليوم على ترسيخ صورتها كمدافع عن النظام الدولي بدلاً من كونها قوة مهددة له، فبينما كانت استراتيجيتها سابقاً تقتصر على انتقاد السياسات الأميركية غير الشعبية والانخراط في مجالات محدودة التأثير مثل التنمية والثقافة وحفظ السلام باتت الآن تسعى إلى موقع أكثر مركزية داخل المؤسسات القائمة، ومع خطاب ترامب التصادمي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة وجدت بكين جمهوراً دولياً أكثر استعداداً للإصغاء إلى مبادراتها. ففي ايلول أعلن شي عن “مبادرة الحوكمة العالمية” التي تهدف إلى ترك بصمة صينية داخل منظومة الأمم المتحدة مستندة إلى مطلب عدد من الدول بإرساء نظام دولي “أكثر عدلاً وإنصافاً”، غير أنّ هذه المبادرة تضع الصين نفسها – لا أي جهة أخرى – كحَكم لما يجب أن يكون عليه هذا النظام مروّجة لمبادئ تخدم مصالحها مثل السيادة المطلقة الانتقائية ومتجاهلة قيماً ترى فيها تهديداً مثل حقوق الإنسان العالمية، وعلى الرغم من غياب التفاصيل حول كيفية إصلاح المؤسسات الدولية أو تسوية النزاعات داخلها تسعى بكين للاستفادة من تجاهل إدارة ترامب للأمم المتحدة من أجل دفع دول أخرى إلى الاصطفاف خلفها.

وتماماً كما حدث مع منظمة شنغهاي للتعاون قد ينظر بعض المحللين إلى “مبادرة الحوكمة العالمية” باعتبارها شعارات فارغة، لكنها تمثل جزءاً من مجموعة مشاريع أوسع – منها “مبادرة التنمية العالمية” و”مبادرة الحضارة العالمية” و”مبادرة الأمن العالمي”- التي تعمل بكين بجدية على تحويلها إلى واقع، فقد أظهرت دراسة حديثة للباحثين شينا تشستنَت غرايتنز وآيزاك كاردون وكاميرون والتز أنّ الأجهزة الأمنية الصينية عززت بشكل كبير شراكاتها الأمنية غير العسكرية وتعاونها الشرطي الدولي تحت مظلة “مبادرة الأمن العالمي” لا سيما في جنوب شرق آسيا وآسيا الوسطى وجزر المحيط الهادئ وكذلك في إفريقيا وأميركا اللاتينية، ومع تراجع الحضور الأميركي تعمل الصين على نسج طبقات جديدة من الشراكات فوق شبكة علاقاتها التجارية الواسعة بهدف ترسيخ انطباع متزايد لدى العديد من الدول بأن بكين – لا واشنطن – هي الشريك الأكثر أهمية في علاقاتها الدولية.

 

عقبات في الطريق

 من غير الواقعي الافتراض أن إدارة ترامب ستغيّر نهجها في الدبلوماسية والتعددية بشكل مفاجئ أو أن تدرك أهمية تعزيز التحالفات الدولية ومنافسة الصين على النفوذ داخل الأمم المتحدة، فرغم أن مثل هذه الخطوات تحظى بتأييد غالبية الأميركيين الذين يرون أن التحالفات تصبّ في مصلحة الولايات المتحدة وأن للأمم المتحدة دوراً ضرورياً – وإن لم يكن مثالياً – في النظام العالمي إلا أن هذه السياسات تتعارض جذرياً مع عقيدة “أميركا أولاً” ما يجعل من الصعب تبنيها، وبذلك يُرجّح أن تظل الساحة الدولية في المؤسسات متعددة الأطراف مفتوحة أمام الصين في السنوات القليلة المقبلة.

وتزداد فرص بكين مع أسلوب ترامب في إدارة علاقته معها، فمع اقتراب زيارته المقررة إلى الصين عام 2026 يركّز الرئيس الأميركي على مظهر علاقته الشخصية مع شي جين بينغ وعلى التوصل إلى صفقة ثنائية قد تُقيَّم عالمياً- استناداً إلى تجارب سابقة – على أنها تصبّ في مصلحة الصين حتى وإن قدّمها ترامب داخلياً بوصفها إنجازاً، ومثل هذه الاتفاقيات إذا ما بدت وكأنها تكافئ مقاومة الصين للمطالب الأميركية ستكرّس الانطباع المتنامي بأن بكين تعزز موقعها على حساب واشنطن.

مع ذلك فإن نجاح الصين ليس أمراً مضموناً، فترجمة طموحاتها الكبرى إلى إعادة اصطفاف عالمي حقيقي قد تواجه عراقيل عديدة، فكثير من الدول تدرك أن نظاماً عالمياً تتمحور حوله الصين سيكون مشروطاً بمصالحها كما أن بكين قد لا تستطيع كبح نزعتها إلى تصعيد نزاعاتها الحدودية في آسيا أو استعراض أدواتها القسرية. وعلى مدى العقد الماضي أدت سياساتها من الإجراءات الاقتصادية العقابية ضد شركاء تجاريين رئيسيين إلى المضايقات البحرية لمنافسيها في بحر الصين الجنوبي، إلى إثارة ردود فعل رافضة من دول حريصة على استقلالية قرارها ومثل هذه الدول قد تميل الآن إلى تقليص اعتمادها على كلٍّ من بكين وواشنطن، ما قد يفضي إلى عالم أكثر تفككاً وفوضوية وهو سيناريو لا يضمن للصين الهيمنة فيه.

وبالتالي فإن أي أخطاء ترتكبها بكين أو مقاومة تبديها الدول الأخرى قد تعرقل مشروع شي جين بينغ لإعادة تشكيل النظام الدولي، أما بالنسبة للولايات المتحدة فإن مثل هذه الانتكاسات قد تمنحها هامشاً زمنياً بانتظار قيادة جديدة تحمل رؤية مستقبلية أوسع من حدود المصالح الضيقة والأنانية.

 

 * Jeffrey Prescott and Julian Gewirtz, China Goes on Offense Beijing’s Plans to Exploit American Retreat, FOREIGN AFFAIRIS, September 29, 2025.

 

Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?

Reload Reload document
| Open Open in new tab

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى