الاكثر قراءةتقدير موقفغير مصنف

الرهانات الكبرى: الحرب على إيران بين فكرة إسقاط النظام وحدود الممكن

بقلم: حنين محمد الوحيلي

باحثة في مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية

 

ليست الحرب القادمة ـ إن وقعت، صداماً بين جيوشٍ وموازين، بل بين تصورين للوجود ذاته، أحدهما يرى في إيران عقدةً يجب تفكيكها كي يستقيم النظام الدولي، والآخر يرى في الصمود الإيراني شرطاً أخلاقياً لبقاء الشرق حراً من الهندسة الإمبراطورية. في خلفية هذا الاشتباك تتقدم فكرة الحرب لا كأداة تنفيذية بل كمشروع ذهني يتخطى حدود الميدان إلى أسئلة الوجود والشرعية والمعنى. فـ “إسقاط النظام” لم يعد مجرد هدفٍ سياسيٍّ محصورٍ في حدود الحسابات بل تحول إلى ميثولوجيا استراتيجية تبرر للنار فعلها وتمنح الفشل شرعية الاستمرار.

الرهان على النار كما يبدو في عقول صانعيها ـ ليس وعداً بحسمٍ قريب بل اختبارٌ للزمن نفسه، إلى أي مدى يمكن أن يعاد تشكيل الواقع من دون أن يتداعى المعنى؟ هنا تتجسد المعضلة الغربية في أوضح صورها: فكل محاولة لإعادة تعريف إيران من خارجها تعيد تعريف الغرب من داخل أزمته، وكلّ سعيٍ إلى كسر النظام يواجه نظاماً أكثر عمقاً من مؤسساته وأكثر رسوخاً من شعاراته. لقد أصبحت الحرب المحتملة مرآةً فلسفية تعكس هشاشة العقل الذي يدعي إدارتها، بقدر ما تكشف عن صلابة البنية التي يسعى إلى إزالتها.

وفي المسافة بين الرغبة في إسقاط النظام واستحالة فعل ذلك من دون سقوط المفهوم نفسه، يقف العالم أمام سؤالٍ معلق هل يمكن للنار أن تخلق نظاماً جديداً أم أن الأنظمة العتيقة وحدها تجيد فن العبور من ألسنة اللهب إلى حدود البقاء؟

المشهد اليومي لا يمنحنا يقيناً بل يمنحنا تراكماً من إشاراتٍ متقاربة تشير إلى احتمالٍ راجح تهيؤ لإجراءٍ عسكري محدود موجات ضربات دقيقة أكثر من كونه قراراً لحرب شاملة. في المقابل تبقى مقاصد الفاعلين متعددة الأوجه من تعطيل إلى إضعاف إلى إعادة تشكيل، وبين كل غاية وحدود الأداء فرقٌ أسي، لا تُسدُّ بمدفع واحد ولا تحل بترديد شعارات.

في هذا الإطار يمكن رسم خطوط أربعة تتيح لنا مقاربة الحدث من زواياه الأهم: درجة القرب من الحرب، طبيعة الأهداف المرجوة، إمكان تحقيقها الواقعي، وأخطاء التقدير التي قد تحول الإنجاز إلى مأزق.

 

  1. قرب الحرب: دلائل ومقاييس على الطريق إلى الضربة

  • تراكم لوجستي عسكري (حاملة طائرات، ناقلات تزويد، قاذفات): مؤشر عملي قوي ترجمة لنية تشغيلية لا مجرد تدريبات.

التقييم: قوي جداً كدليل استعداد.

  • نشاط استخباري مكثف (مسيرات استقصاء عالية التحمل قرب السواحل، نظم ISR متزايدة) يشي بمرحلة بناء بنك أهداف محدث.

التقييم: قوي مؤشر على قرب اتخاذ قرار تكتيكي.

  • شرعية دبلوماسية مهيأة (سناب-باك، بيانات أوروبية مشددة، تغطية سياسية من زيارات رفيعة) تمنح غطاءً أخلاقياً وسياسياً للخطوة، وتخفض كلفة العزلة الدولية للفاعلين.

التقييم: متوسط- قوي مهم سياسياً لكنه ليس عامل تنفيذ.

  • ارتدادات مدنية داخل (إسرائيل) (تهيؤ ملاجئ، تخزين) إشارة داخلية إلى توقع آثار رد إيراني وتظهر أن القيادة تعد الجمهور للاحتمال.

التقييم: قوي داخليّاً يعكس رفعاً في مستوى التأهب.

  • دعم لوجستي خارجي لطهران (هبوط متكرر لطائرات شحن روسية) يكسر فرضية عزلة إيرانية مطلقة ويخفض من احتمال كسرها سريعاً.

التقييم: متوسط- قوي يخلق عاملاً موازناً في الميدان.

  • سلوك شركات الطيران وتعطل الحركة المدنية: مؤشر اعتباري اقتصادي ونفسي يرفع كلفة التحرك ويظهر تأثيراً اجتماعياً مبكراً.

التقييم: متوسط يعكس ضغطاً غير عسكري.

الاستنتاج الجزئي: التراكم يجعل السيناريو القريب أكثر احتمالاً لعمليات جوية/ بحرية موجهة ومحدودة زمنياً ومكانيةً الاحتمال الأعلى هو «حرب بين الحروب» لا فتح جبهات شاملة متزامنة على كل المحور.

 

  1. ما الذي يمكن إنجازه حقاً؟ قراءة في حدود القوة وفاعلية الأثر

  • تعطيل/تأخير البرنامج النووي

الغاية: إرجاء نافذة الاختراق وتدمير قدرات محدّدة.

إمكانية النجاح: مرتفعة- متوسطة لنتائج تكتيكية (تأخير أسابيع–أشهر، تعطيل منشآت محدودة).

الحدود: لن يقضي على المعرفة البشرية والبنى الموزعة ما يحقق نتائج دائمة يتطلب حملة متسلسلة ومستدامة ومرحلة ما بعد الضربة لإجهاض الإنعاش.

 

  • إضعاف القدرة الصاروخية/ المسيراتية

الغاية: تقليص قدرة الرد البعيد والدقة العالية.

إمكانية النجاح: متوسط، إصابات موضعية ممكنة لكن القدرة على الإنتاج المحلي والتشتت تقلص أثر الضربة على المدى المتوسط.

 

  • تهميش الدور الإقليمي والقدرة على التحالفات بالوكالة

الغاية: قطع قنوات النفوذ والقدرات عبر الأذرع الإقليمية.

إمكانية النجاح: ضعيف-متوسط الضرب الخارجي يقلل مؤقتاً من بعض القدرات لكن بنى النفوذ الاجتماعي والسياسي والعقائدي لإيران ليست سهلة القطع بضربات إقليمية محدودة.

 

  • الضغط السياسي لفرض شروط تفاوضية (إجبار طهران على تنازلات)

الغاية: جر إيران إلى طاولة تفاوض بشروط أقسى.

إمكانية النجاح: متوسط-مرتفعة إذا توفق الضاغطون في مزج الضربات مع حصار اقتصادي وسياسي محكم لكن تظل النتائج رهينة بقدرة إيران على الصمود وإظهار تكاليف مرتفعة على الخصم.

 

  • إسقاط النظام أو تحييده كهدف (أوسع، سياسي- وجودي)

الغاية: تغيير بنيوي في الحكم (سقوط النظام أو إضعافه لدرجة تغيير سياساته).

إمكانية النجاح: ضعيف-ضئيل في الأمد القريب (0–12 شهراً) صعب في المتوسط (1–3 سنوات) ما لم يحدث انقسام عميق داخل نخبة السلطة أو انهيار اقتصادي مستدام، ممكن نظرياً على مدار أطول شرط تحقق سلسلة عوامل داخلية متزامنة.

معظم الأهداف التكتيكية قابلة للتحقق جزئياً، الأهداف التحويلية (إعادة تشكيل النظام) تبقى خارج قدرة عملية عسكرية محدودة وما لم تؤطر بإستراتيجية طويلة ومتعددة المحاور ستبقى رهانات سياسية أكثر منها نتائج قابلة للقياس.

 

  1. حين يخطئ الحساب: ثلاث مغالطات تقود إلى الفشل الاستراتيجي

  • الأول مغالطة الفراغ السياسي: توقع أن تخلق الضربة فراغاً يمكن ملؤه بسهولة بدعم خارجي، التاريخ يعلم أن الفراغ غالباً ما يتحول إلى فوضى لا تنظم بسرعة.

  • الثاني حسابات الرد المضاد: إغفال قدرة إيران على استخدام أدوات غير تقليدية (حرب ناقلات، هجمات إلكترونية، تفجير تحالفات إقليمية) قد يوسع الكلفة السياسية والاقتصادية للمهاجم.

  • الثالث الثمن الدبلوماسي والاقتصادي: محاولة إعادة تشكيل إيران بالعنف قد تضعف الشبكات الدولية وتغير موازين الطاقة بصورة لا يمكن السيطرة عليها.

 

(الشرق الأوسط) يقف على حافة اختبارٍ جديد لا لأن الحرب وشيكة بالضرورة بل لأن فكرة الحرب صارت أداة لتثبيت ميزان عالمي مضطرب. إيران في هذه المعادلة ليست خصماً عسكرياً بقدر ما هي عقدة فلسفية في بنية القوة الغربية، سقوطها أو بقاؤها سيحدد شكل النظام الدولي القادم. لذلك فإن ما يصاغ اليوم في الغرف المغلقة لن يقاس بنتائج الضربة، بل بما سيبقى قائماً بعد أن يهدأ الدخان، من الذي سيبقى ممسكاً بمعنى القوة ومن الذي سيكتشف أنه أطلق النار على نفسه؟

 

Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?

Reload Reload document
| Open Open in new tab

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى