الاكثر قراءةترجماتغير مصنف
هل يدفع ترامب بالمعاهدات نحو منطق العصور الوسطى؟
لقد استأثر البيت الأبيض بسلطة إبرام المعاهدات الخارجية محتفظًا بنصوصها في دائرة من السرّية

بقلم: غريغوري ه. فوكس
مدير برنامج الدراسات القانونية الدولية في جامعة وين ستيت
ودنكان ب. هوليس
محرّر الدليل الأكسفوردي للمعاهدات
ترجمة: صفا مهدي عسكر
تحرير: د. عمار عباس الشاهين
مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية
منذ مطلع ولايته الثانية عمل الرئيس الأميركي دونالد ترامب على تركيز السلطات الحكومية بيده على نحوٍ متزايد، وقد تناولت دراسات عديدة أسلوبه في الحكم الفردي عبر الأوامر التنفيذية وتعييناته المبنية على الولاء الشخصي إضافة إلى غضبه من القضاة الذين يتحدّون قراراته، غير أنّ ما يستدعي الانتباه والقلق بالقدر نفسه هو نهجه في “شخصنة” المعاهدات الدولية وإقصاء المؤسسات التشريعية من عملية صنعها.
في التقاليد الدستورية الأميركية تخضع المعاهدات الخارجية المهمة عادةً للتصديق إمّا عبر موافقة ثلثي أعضاء مجلس الشيوخ أو بأغلبية الأصوات في مجلسي الكونغرس معًا، أما حين ينفرد الرئيس بإبرامها فإن الأمر يقتصر تقليديًا على قضايا ثانوية تُعرف باسم “الاتفاقات التنفيذية المنفردة”، وقد استلزم تاريخيًا إبرام المعاهدات الكبرى – مثل تلك التي أسست الأمم المتحدة والبنك الدولي وحلف شمال الأطلسي أو تلك المتعلقة بخفض التعريفات الجمركية وحماية حقوق الإنسان وتسليم المجرمين الخطرين – درجة من موافقة الكونغرس، بل إنّ هذا الأخير رفض غير مرّة التصديق على معاهدات رآها غير مناسبة مثل معاهدة فرساي ومعاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية واتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة.
أما اليوم فيبدو أن هذا النظام المؤسسي برمّته ينهار، فترامب رغم انخراطه النشط في إبرام تفاهمات واتفاقيات مع دول أجنبية لم يعرض أيًا منها على الكونغرس للمصادقة، بل تصرّف كما لو أنّ المعاهدات امتياز حصري للسلطة التنفيذية محتكرًا دورًا شخصيًا بارزًا في إبرامها كما في الاتفاق المبرم مع أوكرانيا بشأن الموارد المعدنية الاستراتيجية.
ففي الأشهر الستة الأولى من ولايته أجاز أكثر من اثنتي عشرة اتفاقية دولية أبرزها ما وصفه بـ “الاتفاقات التجارية” وسعى إلى إبرام عشرات أخرى، بعض هذه التفاهمات غير ملزم بطبيعته كتفاهم التعاون النووي المدني مع السلفادور وهو أمر تقليدي لا يثير خلافًا كبيرًا، غير أنّ القسم الأكبر منها استند إلى تفسيرات قصوى لسلطات الرئيس بما يسمح بتصنيفها اتفاقات تنفيذية منفردة.
إنّ التاريخ الأميركي لم يعرف رئيسًا أقصى الكونغرس عن عملية صنع المعاهدات إلى هذه الدرجة، ومع ذلك ثمة سابقة لهذا النمط من السلوك السياسي لكن في زمن آخر عهد الملوك والأمراء في العصور الوسطى، فقد كان الحكّام حينذاك يبرمون “معاهدات شخصية” تنقضي بوفاتهم. وقد أوضح الفقيه السويسري إيمر دي فاتيل في مؤلفه قانون الأمم (1758) الذي كان له أثر بالغ على واضعي الدستور الأميركي – التمييز بين “المعاهدات الشخصية” التي تنتهي بانتهاء حياة الحاكم و”المعاهدات الحقيقية” المرتبطة بالدولة ككيان قانوني قائم، ومع بزوغ النظام القانوني الدولي الحديث في القرنين السادس عشر والسابع عشر حلت الدولة ذات السيادة محل الحاكم الفرد بوصفها الفاعل القانوني الرئيس وأصبح قادتها وبرلماناتها مجرّد وكلاء عنها شأنهم في ذلك شأن الرؤساء التنفيذيين الذين يوقّعون العقود نيابةً عن الشركات دون تحمّل مسؤولية شخصية عنها.
كان الانتقال من المعاهدات الشخصية إلى السيادية تحولًا جوهريًا إذ ربط أهلية الدولة في التصديق على المعاهدات بآلياتها الدستورية الداخلية، فإذا كان الدستور الوطني يتطلب موافقة تشريعية تعيّن على حتى الدول الملكية الالتزام بذلك، ويجيز القانون الدولي الحديث إبطال أي معاهدة إذا جرى التصديق عليها في خرقٍ واضح للقانون الداخلي للدولة.
من هنا فإن استبعاد الكونغرس من عملية إبرام المعاهدات يتعارض مع الأعراف الراسخة في القانون الدولي ويتيح من الناحية القانونية الطعن في مشروعية الاتفاقيات التي يوقّعها ترامب فضلًا عن كونه ممارسة غير دستورية ومنافية لمبادئ الديمقراطية، وإلى جانب ذلك ينطوي هذا السلوك على مخاطر أخرى في مقدمتها غياب الشفافية، فقد دعا الرئيس وودرو ويلسون إلى إنهاء المعاهدات السرية وهو مبدأ ترسّخ لاحقًا في القانون الدولي. ويشهد التاريخ على كوارث نتجت عن انتهاك هذا المبدأ مثل البروتوكول السري الملحق بمعاهدة عام 1939 بين ألمانيا النازية والاتحاد السوفيتي الذي قسّم أوروبا الشرقية وكان الشرارة المباشرة لاندلاع الحرب العالمية الثانية، واليوم يكتنف الغموض “اتفاقات ترامب التجارية” التي لم تُنشر نصوصها فيما أنكرت دول مثل اليابان وكوريا الجنوبية توصيف الإدارة الأميركية لها أو حتى وجود صيغ نهائية منها، وبهذا يظل الشعب الأميركي في جهل تام بالالتزامات التي قطعها رئيسه باسمه.
إنّ مثل هذه التفاهمات الغامضة قد تفرض التزامات مالية على الدولة وهو اختصاص حصري لمجلس النواب الأميركي، والأسوأ أنّ قمم ترامب مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين توحي بإمكان إبرام اتفاقيات أشد خطورة كأن تتعهد الولايات المتحدة بضمان معاهدة سلام بين روسيا وأوكرانيا تقرّ بالسيطرة الروسية على أراضٍ أوكرانية، مثل هذا الاتفاق سيكون على الأرجح منتهكًا للقانون الدولي بما يمنح أوكرانيا الحق في التنصل منه في أي وقت.
يثير هذا النهج إشكالات دستورية بالغة الخطورة، فلو افترضنا أنّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أبلغ ترامب بأن أوكرانيا انتهكت اتفاق السلام – بغض النظر عن مدى صحة ذلك الادعاء – فهل ستكون الولايات المتحدة ملزَمة حينها بمساندة روسيا عسكريًا؟ إن مثل هذا الالتزام يُفضي إلى ممارسة صلاحيات الحرب وهي صلاحيات يشارك الرئيس في اتخاذها مع الكونغرس دستوريًا وليست حكرًا على السلطة التنفيذية.
فضلًا عن ذلك قد تتعارض اتفاقيات ترامب الشخصية مع معاهدات سبق أن صادق عليها الكونغرس، إذ يتفاوض البيت الأبيض حاليًا على اتفاقيات تجارية مع كندا والمكسيك وكوريا الجنوبية وهي ثلاث دول من أصل عشرين دولة ترتبط مع الولايات المتحدة باتفاقيات تجارة حرّة أقرّها الكونغرس بالفعل، إن إبرام “اتفاقات تنفيذية منفردة” جديدة قد يطيح عمليًا بهذه الاتفاقيات السابقة وهو أمر تكتنفه شبهات عدم الدستورية.
كما أن سرية هذه الاتفاقيات الشخصية تجعل من العسير على المحاكم ممارسة دورها الدستوري خصوصًا في حماية الحقوق الفردية، فالاتفاق الذي أبرمته الإدارة مع السلفادور في آذار ونُقل بموجبه مئات الأجانب إلى سجن سيكوت سيئ السمعة ظل طي الكتمان حتى أواخر أيار، وقد طالب أعضاء في الكونغرس ومحامو المرحَّلين بالاطلاع عليه لكن الإدارة رفضت، وحينها وجدت المحاكم الأميركية نفسها عاجزة عن تحديد الأساس القانوني الذي يمنح الولايات المتحدة حق المطالبة بعودة المرحَّل كيلمار أبريغو غارسيا، وفي نهاية المطاف تبيّن أن ترامب لم يُبرم سوى التزام سياسي غير ملزم لا يمنح أي سلطة قانونية لمثل هذا الطلب ما دفع المحكمة العليا إلى إصدار أمر للإدارة بـ “تسهيل” عودته.
وبصورة مشابهة رحّلت الإدارة الأميركية بعض المهاجرين إلى غانا التي تولّت بدورها ترحيلهم إلى دول ثالثة، وعندما سُئل محامي وزارة العدل الأميركية أمام القضاء عن وجود اتفاق مع غانا لتنظيم هذه الترحيلات نفى ذلك فيما صرّح وزير خارجية غانا في خطاب علني بأن هناك اتفاقًا مصادقًا عليه من مجلس الوزراء والمدعي العام في بلاده، ومع امتناع الإدارة الأميركية عن عرض المعاهدات على الكونغرس وتأخير نشر نصوصها افتقد القضاة الوسائل المستقلة للتحقق من صحتها.
لقد أوضح ألكسندر هاملتون في أحد مقالات الأوراق الفدرالية عام 1788 أنّ الدستور الأميركي لم يمنح سلطة المعاهدات كاملة للرئيس أو للمشرّع وحده بل وزّعها بينهما في قطيعة واعية مع النموذج الملكي المطلق، وكتب قائلا “مهما كان الأمر مناسبًا أو آمنًا في الحكومات التي يكون فيها الحاكم التنفيذي ملكًا وراثيًا فإنّه سيكون غير آمن وغير ملائم البتة أن نأتمن على حاكم منتخب لمدة أربع سنوات سلطة إبرام المعاهدات كاملة”، وبعبارة أخرى إن القطيعة مع الملكية البريطانية قادت إلى تثبيت مبدأ الشراكة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية في صنع المعاهدات لا إلى حصرها في شخص واحد ولا توريثها لخلفائه.
من الناحية المثالية ينبغي للكونغرس أن يستحضر تحذير هاملتون وأن يستعيد دوره الدستوري في عملية صنع المعاهدات، صحيح أنّ من المستبعد أن يتحدى الكونغرس الحالي الرئيس في سياسته المعاهداتية الا أنّ من الواجب على الأميركيين رفض إخضاع السلطة التشريعية – أو تعطيلها في هذا المقام – لحركة سياسية قائمة على شخصنة السلطة، ويمكن للنواب الذين يهمّهم الحفاظ على نزاهة السياسة الخارجية الأميركية أن يبدؤوا بالمطالبة بنشر النصوص الكاملة لجميع المعاهدات والالتزامات السياسية المهمة التي وقّعتها الإدارة، وبناءً على ما تكشفه تلك النصوص يمكنهم الدفع نحو فرض قيود على التمويل المخصص لأي اتفاقية لم تُعرض على الكونغرس للمصادقة وبخاصة تلك التي تتعارض مع معاهدات أقرّتها الولايات المتحدة سابقًا. إن تقاعس الكونغرس عن إعادة تثبيت صلاحياته الدستورية في هذا المجال قد يقود البلاد إلى تصور “ملكي” للمعاهدات، بحيث تُفرض الالتزامات الدولية وفق أهواء الرئيس وحده، بعيدًا عن أي رقابة أو توازن مؤسسي.
* Gregory H. Fox and Duncan B. Hollis, Is Trump Taking Treaties Back to the Middle Ages? The White House has usurped the power to make foreign treaties and keeps their texts secret, FOREIGN POLICY, September 23, 2025.



