الاكثر قراءةتحليلات و آراءغير مصنف
غزة في زمن الإبادة: شهادة على العجز الدولي وصمود الإنسان

بقلم: الباحث البشير عبيد / تونس
غزة اليوم ليست مجرد جغرافيا محاصرة على شريط ضيق من البحر، بل هي مرآة دامية لزمن عربي وعالمي مضطرب، تختلط فيه صورة الضحية بمشهديّة العجز الدولي وانكشاف القيم الإنسانية. على مدى شهور متواصلة من حرب الإبادة، تحولت المدينة إلى مسرح مكثّف لمعنى الصمود الإنساني في مواجهة آلة الموت، فكانت البيوت المهدّمة والشوارع الموحلة بالدماء بمثابة النص المفتوح الذي يفضح أكاذيب الديمقراطيات الغربية وخطابها عن العدالة. لم تعد غزة عنواناً لمعاناة الفلسطينيين وحدهم، بل صارت شاهداً على حدود القانون الدولي، وعلى انهيار المنظومة الأخلاقية التي طالما تغنّى بها العالم. في قلب هذا الركام، ما يزال الإنسان الغزّي يحرس ذاكرة الحياة بوجه الموت، ويؤكد أن الهوية العربية لا تُختزل في بيانات الشجب ولا في مشاهد العزاء العابر، بل في لحظة التمسك بالوجود رغم كل أشكال المحو. هكذا، تصبح غزة اليوم امتحاناً إنسانياً للأمة والعالم معاً، وصرخةً تتجاوز حدود الجغرافيا نحو الضمير الإنساني الكوني.
الإبادة كاستراتيجية: حين يتحول القتل إلى سياسة معلنة
منذ بدايات الهجوم على غزة، لم يعد الهدف العسكري التقليدي هو ما يحكم حركة العدوان، بل اتخذت الإبادة نفسها شكل استراتيجية متكاملة، تتجاوز ميدان الحرب لتطال معنى الوجود الإنساني ذاته. لم يكن القصف عشوائياً، بل كان مقصوداً أن يستهدف المستشفيات والمدارس والمخابز، وأن يحيل البنية التحتية إلى ركام، ليُفرغ المكان من شروط الحياة. إن استهداف الأحياء المكتظة بالسكان، وفرض الحصار على الغذاء والدواء والماء، هو إعلان واضح بأن المطلوب ليس فقط هزيمة عسكرية لفصيل مقاوم، بل سحق مجتمع كامل، وتحويله إلى أرض خالية من البشر.
بهذا المعنى، لم تعد غزة ساحة معركة تقليدية، بل مختبراً حديثاً لعقيدة الإبادة. لقد حاولت آلة الاحتلال أن تجعل من كل بيت مدفون تحت الردم، وكل جثمان ممدد على قارعة الطريق، جزءاً من خطاب القوة الذي يطمح إلى بث الرعب في نفوس الفلسطينيين والعرب معاً. لكن المفارقة أن هذا القتل الجماعي لم يؤدِّ إلى استسلام الضحية، بل زاد منسوب التمسك بالحياة، وحوّل الدم إلى ذاكرة جماعية لا تنطفئ بسهولة.
ولعل ما يكشف عمق هذه الاستراتيجية هو تكرارها عبر التاريخ. فمنذ حرب 2008، ثم حرب 2014، وصولاً إلى العدوان الحالي، كان الهدف واحداً: جعل غزة مكاناً غير قابل للحياة. لكن كل حرب، بدل أن تطفئ جذوة الروح، كانت تعيد تشكيلها أكثر صلابة، حتى صار القطاع رمزاً عالمياً للصمود في وجه سياسات الإبادة المنظمة.
عجز المنظومة الدولية وازدواجية المعايير
حين نتأمل المشهد الدولي، نكتشف أن غزة لم تكشف وحشية الاحتلال وحده، بل عرّت أيضاً المنظومة الدولية التي طالما تغنّت بحقوق الإنسان والقانون الدولي. قرارات مجلس الأمن بقيت حبراً على ورق، وبيانات الأمم المتحدة بدت كأنها محاولة بائسة لمجاراة غضب الرأي العام العالمي من دون أي أثر عملي. أما المحاكم الدولية، فقد بدت مقيدة بموازين القوى أكثر مما هي ملتزمة بروح العدالة.
لقد أكدت حرب غزة أن العالم يعيش ازدواجية فادحة: فحين يتعرض المدنيون في أوروبا لأي اعتداء، تنهال التصريحات المنددة وتتحرك التحالفات بسرعة غير مسبوقة، بينما حين تُباد آلاف العائلات في غزة، يتذرع الغرب بـ”حق الدفاع عن النفس” ليغطي أفظع المجازر. هذه الازدواجية لم تعد خافية على أحد، وهي اليوم تغذي غضب الشعوب حتى داخل المجتمعات الغربية نفسها، حيث خرجت مظاهرات عارمة ترفض دعم حكوماتها لحرب الإبادة.
ولعل الصورة الأكثر فداحة هي تلك التي تتكرر يومياً: أمهات يبحثن بين الركام عن أطفالهن، أطباء يجرون العمليات على ضوء الهواتف المحمولة، عجائز يخرجون من بين الأنقاض وهم يتمسكون بمفاتيح بيوت دُمّرت، بينما العالم يتابع المشهد عبر شاشاته كما لو كان فيلماً طويلاً بلا نهاية. هذا الانكشاف لم يعد يترك مجالاً للالتباس: إن العجز الدولي أمام مأساة غزة يشي بأن القانون الدولي ليس سوى أداة بيد الأقوياء، وأن العدالة المزعومة محكومة بمنطق المصلحة لا بمبادئ حقوق الإنسان.
لكن في المقابل، وفّرت هذه اللحظة فرصة نادرة لإعادة بناء خطاب عالمي بديل، يستند إلى أصوات الشعوب وحركات التضامن العابر للقارات، التي صارت ترى في غزة رمزاً لمعركة الكرامة الإنسانية على اختلاف الألوان والأعراق. من شوارع نيويورك إلى جامعات لندن، ومن شوارع الرباط إلى أحياء جوهانسبرغ، ارتفعت شعارات الحرية لفلسطين، لتؤكد أن غزة لم تعد معزولة، بل صارت محوراً لحركة عالمية جديدة ضد الاستعمار والإبادة.
في غزة، يتحول فعل البقاء ذاته إلى فعل مقاومة، ويصبح التشبث بالذاكرة، والحفاظ على العلاقات الاجتماعية، وإعادة بناء الحياة من تحت الردم، صيغة عملية لمواجهة محاولات المحو.
الصمود الإنساني وصياغة معنى جديد للهوية
رغم الخراب والمجازر، فإن ما يثير الدهشة هو قدرة الغزيين على صياغة صمود يومي يتجاوز فكرة المقاومة العسكرية ليصل إلى أفق أعمق: مقاومة الحياة في وجه الموت. مشهد الأطفال الذين يواصلون الدراسة تحت الخيام، والأطباء الذين يجرون العمليات الجراحية بلا أدوات كافية، والنساء اللواتي يحرسن ذاكرة البيوت المهدمة بالحكايات، كلها تفاصيل صغيرة لكنها تصوغ معنى هائلاً للهوية.
في غزة، يتحول فعل البقاء ذاته إلى فعل مقاومة، ويصبح التشبث بالذاكرة، والحفاظ على العلاقات الاجتماعية، وإعادة بناء الحياة من تحت الردم، صيغة عملية لمواجهة محاولات المحو. إن الهوية هنا لم تعد خطاباً نظرياً يكتب في الكتب، بل ممارسة يومية تتجلى في قدرة الناس على تحويل الألم إلى وعي، والخسارة إلى فعل إصرار على الاستمرار.
لقد أعادت غزة تعريف معنى الانتماء، ليس بوصفه مجرد شعور وجداني، بل كقدرة على الفعل، على أن يتحول الفرد إلى حامل لرسالة جماعية أكبر منه. هكذا يتسع معنى المقاومة ليشمل كل مظاهر الحياة اليومية، من توزيع الخبز في طوابير طويلة، إلى إقامة صلاة جماعية وسط الركام، إلى تربية الأجيال على أن الذاكرة لا تُمحى بالقصف.
وهذا ما يجعل من غزة مدرسة إنسانية للعالم كله: أنها أثبتت أن الصمود ليس حالة رومانسية، بل ممارسة يومية تُحوّل المحنة إلى مشروع حياة، وتجعل الهوية ذاتها سلاحاً في وجه الإبادة. ومن هنا، فإن غزة لا تكتب تاريخها وحدها، بل تكتب تاريخ أمة بأكملها، وتجبر العالم على إعادة تعريف معاييره الأخلاقية والإنسانية.

غزة كنداء للضمير الكوني
غزة اليوم شهادة دامغة على زمن تختلط فيه الوحشية بالادعاءات الأخلاقية، وتتكشف فيه هشاشة المنظومة الدولية وعجزها. لكنها في الوقت ذاته، درس عميق في معنى الإنسانية حين تواجه المحو، وفي كيفية تحويل الركام إلى ذاكرة، والدم إلى خطاب للمستقبل. ما يجري في غزة ليس مأساة فلسطينية فقط، بل لحظة كونية تضع الضمير الإنساني على المحك، وتؤكد أن المقاومة في أعمق معانيها هي الدفاع عن الحق في الوجود، مهما كانت موازين القوة مختلة.
إنها تذكير دائم بأن المذبحة ليست قدراً، وأن السكوت ليس حياداً، بل مشاركة في الجريمة. وفي مقابل هذا الانهيار الأخلاقي العالمي، ينهض الغزيون كحراس للكرامة، يكتبون بدمائهم ما قد يعجز العالم عن تدوينه بالحبر. في هذا الامتحان العسير، لا يقتصر دور غزة على كونها ضحية، بل تتحول إلى معلم إنساني، وإلى نداء مفتوح لضمير البشرية كي يختار: إما أن يبقى شريكاً في جريمة الإبادة، أو أن يستعيد إنسانيته عبر التضامن الفعلي مع حق الفلسطينيين في الحياة والحرية.




