الاكثر قراءةترجماتغير مصنف
أسباب ارتفاع حصيلة الضحايا من الصحفيين في حرب “إسرائيل” على غزة
منظمات حقوقية تؤكد الاستهداف المباشر للعاملين في الإعلام

بقلم: جون هالتيونغر
كاتب في مجلة فورين بوليسي
ترجمة: صفا مهدي عسكر
تحرير: د. عمار عباس الشاهين
مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية
قُتل ما لا يقل عن خمسة صحفيين في غارات (إسرائيلية)* استهدفت مستشفى ناصر بمدينة خان يونس جنوبي قطاع غزة يوم الاثنين الماضي في حادثة تعكس تصاعد المخاطر التي تواجه الإعلاميين في هذه الحرب الدامية، وقد نُفِّذ الهجوم عبر ضربات متتالية سريعة تُعرف عسكرياً بـ”الضربة المزدوجة” حيث يُستهدف المسعفون والعاملون الطبيون والصحفيون عقب الضربة الأولى مباشرة، وهو تكتيك يُصنَّف على نطاق واسع كجريمة حرب متعمدة. ووفقاً للتقارير فقد شمل الضحايا الصحفيين مريم أبو دقة، محمد سلامة، أحمد أبو عزيز، حسام المصري، ومعاذ أبو طه، الذين كانوا يعملون أو يتعاونون مع مؤسسات إعلامية دولية بارزة مثل وكالة أسوشيتد برس ورويترز وقناة الجزيرة.
(إسرائيل) قدّمت روايات متضاربة بشأن الغارة التي أسفرت أيضاً عن مقتل ما لا يقل عن 22 شخصاً، فقد وصفتها مرة بأنها “حادث مأساوي” ومرة أخرى بأنها استهدفت “كاميرا تابعة لحماس” لمراقبة القوات (الإسرائيلية) من دون تقديم أدلة، في المقابل أشارت مصادر إعلامية إلى أن الموقع المستهدف كان يُستخدم بانتظام من قبل وسائل الإعلام لبث وتصوير الأحداث.
هذه الحادثة تأتي ضمن سياق أوسع إذ تُعد الحرب على غزة الأكثر دموية ضد الصحفيين في التاريخ الحديث، وفي هذا السياق أوضحت جودي غينسبرغ المديرة التنفيذية للجنة حماية الصحفيين (CPJ)، أن هناك سببين رئيسيين وراء ارتفاع حصيلة الضحايا في صفوف الإعلاميين حجم الحرب غير المسبوق، والاستهداف المباشر للصحفيين بصفتهم صحفيين. وأضافت غينسبرغ أن “منظمات حقوق الإنسان تصف ما يجري بأنه إبادة جماعية” مشيرة إلى أن عدد القتلى في غزة تجاوز 63 ألف شخص بينهم عشرات الصحفيين، وأكدت أن اللجنة تحقق في 26 حالة على الأقل يُرجَّح أن (إسرائيل) استهدفت فيها الصحفيين بشكل متعمد واصفة هذا الرقم بأنه غير مسبوق، ووفق بيانات اللجنة فقد قُتل 197 صحفياً وعاملاً إعلامياً منذ 7 تشرين الأول 2023. وفي خطوة نادرة، بعثت وكالتا أسوشيتد برس ورويترز برسالة عاجلة إلى السلطات (الإسرائيلية) بشأن الهجوم على مستشفى ناصر، وجاء في الرسالة:
“إن قوات الدفاع (الإسرائيلية) تتحمل بموجب القانون الدولي واجب حماية الصحفيين والمدنيين واتخاذ جميع التدابير الممكنة لتفادي إلحاق الأذى بهم، إن استهداف مستشفى يعقبه هجوم ثانٍ أثناء وجود الصحفيين والمسعفين، يثير تساؤلات جدية حول مدى التزام (إسرائيل) بهذه الواجبات”.
وأكدت الوكالتان أن الصحفيين الذين قُتلوا كانوا يمارسون عملهم المهني في تغطية الأحداث، معتبرتين أن وجودهم كان “ضرورياً لنقل الحقائق”، خصوصاً في ظل استمرار الحظر (الإسرائيلي) المفروض منذ نحو عامين على دخول الصحفيين الأجانب إلى غزة. وبينما أعلنت (إسرائيل) فتح تحقيق في الحادثة طالبت الوكالتان بـ”مساءلة عاجلة وشفافة” معربة عن أملهما بأن يكون التحقيق “سريعاً وشاملاً ويقدّم إجابات واضحة”، غير أن فرص المحاسبة تبدو محدودة في ضوء سجل (إسرائيل) في التعامل مع قضايا استهداف الصحفيين، وما يرافق ذلك من اتهامات دولية متكررة لها بارتكاب انتهاكات جسيمة للقانون الدولي في غزة والضفة الغربية المحتلة دون رادع.

وختمت الوكالتان رسالتهما بالتشكيك في جدوى التحقيقات (الإسرائيلية) السابقة، معتبرتين أن “استعداد وقدرة الجيش (الإسرائيلي) على التحقيق الذاتي نادراً ما أسفرا عن نتائج واضحة أو إجراءات ملموسة”، ومشيرةً إلى وجود “مخاوف جدية من أن (إسرائيل) قد تستهدف عمداً البثوث الحية بهدف تقويض تدفق المعلومات”.
عبّرت جودي غينسبرغ المديرة التنفيذية للجنة حماية الصحفيين (CPJ)، عن عدم ثقتها في أن تتم محاسبة المسؤولين عن مقتل الصحفيين في غزة مشيرةً إلى تقرير أصدرته اللجنة عام 2023 تناول جميع حالات قتل الصحفيين على يد الجيش (الإسرائيلي) خلال أكثر من عقدين، وأكدت “لم يُحاسَب أحد في أي حالة، التحقيقات ليست شفافة ولا مستقلة، ولم تُفضِ إلى أي شكل من أشكال المساءلة”.
ولم يمضِ سوى أسابيع قليلة على حادثة بارزة أخرى قُتل فيها صحفيون بغارة (إسرائيلية) على غزة إذ استهدفت (إسرائيل) في 10 آب خيمة صحفية في غزة وأوقعت عدة قتلى بينهم أنس الشريف، المراسل البالغ من العمر 28 عاماً والحائز على جائزة بوليتزر من قناة الجزيرة، وقد زعمت (إسرائيل) أن الشريف يقود خلية تابعة لحماس لكنها لم تقدّم أي أدلة ملموسة تدعم هذا الادعاء.
وقبل اغتياله بأسابيع، ناشدت اللجنة المجتمع الدولي توفير الحماية للشريف بعد أن أعرب عن قلقه من أن (إسرائيل) تشوّه سمعته بصفته “إرهابياً” تمهيداً لتصفيته، وقال في تصريح للجنة في أواخر تموز “كل هذا يحدث لأن تغطيتي لجرائم الاحتلال (الإسرائيلي) في غزة تضرهم وتشوّه صورتهم في العالم، يتهمونني بالإرهاب لأن الاحتلال يريد اغتيالي معنويا”.
ما جرى للشريف يعكس توجهاً أوسع إذ غالباً ما تتأرجح الرواية (الإسرائيلية) عند مقتل صحفيين بين اتهامات غير موثقة بالإرهاب وبين وصف الحادثة بأنها “أضرار جانبية مؤسفة”، غير أن منظمات حقوقية وجهات رقابية تحذّر من أن (إسرائيل) تستهدف الصحفيين في غزة عمداً في ظل إنكار حكومي رسمي ودون أي تبعات الأمر الذي يرسّخ سابقة خطيرة على مستوى العالم، وكما تقول غينسبرغ “إذا لم تكن هناك عواقب، وإذا لم يُحترم القانون الإنساني الدولي، فلماذا ينبغي أن يُحترم في أي مكان آخر؟ إن التداعيات ستتجاوز المنطقة لتؤثر على أجيال قادمة”.
في الوقت ذاته تواصل (إسرائيل) فرض حظر شبه كامل على دخول الصحفيين الأجانب إلى غزة ما يجعل المسؤولية الكبرى لتغطية الحرب تقع على عاتق الصحفيين الفلسطينيين، الذين يعيشون الظروف ذاتها من قصف متواصل وفقدان للأحبة وجوع وتشريد متكرر، وتقول غينسبرغ “من الصعب للغاية وصف حجم الضغط النفسي المترتب على العيش في أتون حرب وفي الوقت نفسه توثيقها، إن قدرة الصحفيين في غزة على مواصلة العمل أمر مدهش رغم أنهم لا يغطّون فقط مقتل أحبائهم، بل يضطرون بشكل متزايد لتغطية مقتل زملائهم أيضاً”.
وإلى جانب المخاطر المباشرة تواجه الصحافة الفلسطينية محاولات (إسرائيلية) منظمة للتشكيك في مصداقيتها عبر الطعن في انتماءات الصحفيين، ويرى منتقدون أن ذلك جزء من استراتيجية أشمل تهدف إلى التحكم في السردية الإعلامية، وتوضح غينسبرغ أن النهج (الإسرائيلي) يقوم على “استراتيجية متعمدة للسيطرة على الرواية وحجب المعلومات” من خلال استهداف الصحفيين والمنشآت الإعلامية وحظر وسائل الإعلام ومنع دخول المراسلين الأجانب وتقييد الإعلام (الإسرائيلي)، ومعاقبة المؤسسات التي لا تلتزم بالخط الرسمي مثل صحيفة هآرتس التي فُرضت عليها عقوبات حكومية أواخر العام الماضي بسبب تغطيتها الناقدة للحرب.
وتشير غينسبرغ إلى أن التشكيك في نزاهة الصحفيين الفلسطينيين أمر “مناسب جداً ” (لإسرائيل) خصوصاً مع منع الصحافة الأجنبية من دخول غزة مما يصعّب مهمة التحقق المستقل، وأضافت “لا أحد يشكك في قدرة الصحفيين الأميركيين على تغطية السياسة الأميركية، أو البريطانيين على تغطية السياسة البريطانية، فلماذا نشكك فقط في الصحفيين الغزيين عندما يغطون ما يجري في بيوتهم”؟
(إسرائيل) برّرت الحظر شبه الكامل على دخول المراسلين الأجانب إلى غزة بدواعي “السلامة”، لكن غينسبرغ تؤكد أن الصحفيين اعتادوا على تغطية الحروب في مختلف مناطق النزاع حول العالم، وأن حجم التقييد المفروض على غزة استثنائي وغير مسبوق.
وترى غينسبرغ أن المجتمع الدولي ولا سيما الدول الغربية، لم يُبدِ حتى الآن مواقف أو خطوات عملية كفيلة بتغيير النهج (الإسرائيلي) بما في ذلك فيما يتعلق بالتجارة وتزويد (إسرائيل) بالسلاح، وقالت “من السهل القول إنكم تدعمون حقوق الفلسطينيين، لكن ذلك لا معنى له إذا استمر تدفق الأسلحة التي تُستخدم في إبادتهم”.
ووجّهت رسالة مباشرة إلى وسائل الإعلام الغربية التي تغطي الحرب في غزة، ” قوموا بعملكم كما يجب انقلوا ما يحدث فعلاً، ما نشهده في الغالب هو نقل لما يقوله الآخرون عن الأحداث، لا نقل الأحداث ذاتها، على الصحفي أن يسأل وألا يكتفي بترديد الإجابات”.
* John Haltiwanger, Why Israel’s War in Gaza Has Been So Deadly for Journalists Israel is directly targeting media workers, rights groups warn, Foreign Policy, August 29, 2025.
** لمقتضيات الأمانة العلمية، وضرورات الترجمة الدقيقة، تم الإبقاء على كلمة (إسرائيل)، وهو لا يعني اعتراف المركز بها، وما هو مكتوب يمثل راي وأفكار المؤلف.



