الاكثر قراءةترجماتغير مصنف

الدعوة إلى تحالف أميركي – هندي

على واشنطن أن تعمل على توثيق شراكتها مع نيودلهي بدلاً من إقصائها

بقلم: كورت م. كامبل وجيك سوليفان

ترجمة: صفا مهدي عسكر

تحرير: د. عمار عباس الشاهين

مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية

 

يشهد مسار العلاقات الأميركية– الهندية في المرحلة الراهنة تراجعاً ملحوظاً نتيجة جملة من العوامل من أبرزها السياسات الجمركية وشراء النفط الروسي وتجدد التوترات مع باكستان، وقد انعكس هذا التراجع في مشهدٍ اتسم بالانتقادات العلنية وتبادل الاتهامات بما يهدد أحد أهم أطر الشراكة الدولية للولايات المتحدة خلال العقود الأخيرة، وفي هذا السياق يصبح من الضروري التذكير بالأسباب التي جعلت الهند تبرز خلال جيل كامل بوصفها شريكاً عالمياً محورياً لواشنطن فضلاً عن الحاجة الملحة لإعادة ترسيخ هذه العلاقة التي طالما شكلت إحدى نقاط الإجماع النادرة بين الحزبين في بيئة سياسية أميركية شديدة الانقسام.

لقد درج صانعو القرار في الولايات المتحدة على النظر إلى الهند باعتبارها تمثل وعداً ديمقراطياً كبيراً بوصفها أكبر ديمقراطية في العالم وباعتبارها أيضاً قوة صاعدة تتميز بديناميكية اقتصادية وتكنولوجية متسارعة فضلاً عن دورها المتنامي في قيادة النظام الدولي، كما أن التقاء المصالح بين الطرفين في الحفاظ على منطقة “الهندي– الهادئ” حرّة ومفتوحة أسهم في إيجاد مستوى من التوافق الاستراتيجي، حال دون تمادي المغامرات الصينية في الإقليم.

غير أن هذا التوافق لا ينبغي التعامل معه بوصفه معطىً ثابتاً، فقد شهدت العلاقات الثنائية مبادرات نوعية عززت فرص الشراكة مثل الاتفاق النووي المدني التاريخي بين الرئيس جورج بوش الابن ورئيس الوزراء مانموهان سينغ، وصولاً إلى التعاون الراهن بين الرئيس جو بايدن ورئيس الوزراء ناريندرا مودي في مجالات حيوية تشمل الذكاء الاصطناعي والتقنيات الحيوية وصناعات الفضاء، ومع ذلك ظلّت العلاقة عرضة للتصدع بسبب سوء الفهم المتبادل وتباين التوقعات الأمر الذي يعكس طبيعتها غير المألوفة قياساً بالأطر التقليدية التي اعتمدتها واشنطن في تحديد شراكاتها الكبرى.

ففي مرحلتي الحرب الباردة وما بعدها تميّزت السياسة الخارجية الأميركية بالفصل بين التحالفات القائمة على معاهدات دفاعية ملزمة وبين الشراكات الأقل رسمية التي شملت معظم الدول الأخرى وكانت الهند ضمن هذا التصنيف الأخير، غير أن التحولات الجيوسياسية الراهنة كشفت عن محدودية هذا النهج الذي ركز على الالتزامات الدفاعية المشتركة، فيما أغفل عمق الروابط الاقتصادية والتكنولوجية والاستراتيجية التي تزداد أهميتها في السياق الدولي المعاصر.

 

 

إن الاستمرار في المسار الحالي يهدد بإحداث شرخ يصعب تجاوزه بما يلحق ضرراً بالغاً بمصالح الطرفين، فالتقارب الرمزي الأخير بين مودي وكلٍّ من الرئيس الصيني شي جين بينغ والروسي فلاديمير بوتين يؤشر إلى إمكانية انزلاق الهند نحو فضاءات استراتيجية مناوئة للمصالح الأميركية، وفي المقابل قد تجد نيودلهي نفسها محاصرة بجار صيني متشدد على حدودها وبانكماش في علاقاتها مع الولايات المتحدة على صعيد التكنولوجيا والتعليم والدفاع. وعليه فإن إعادة إنتاج الوضع القائم بصورته السابقة لن يكون كافياً، المطلوب هو تأسيس قاعدة أكثر صلابة وطموحاً تقوم على تحالف استراتيجي جديد يتجاوز مفهوم الضمانات الدفاعية التقليدية، ويرتكز إلى التزامات متبادلة في مجالات التكنولوجيا والدفاع وسلاسل التوريد والاستخبارات ومعالجة القضايا العالمية. ورغم أن الظروف الراهنة قد تجعل تصور مثل هذا التحول أمراً عسيراً إلا أن البناء على الهياكل القائمة وتطويرها يمكن أن يفضي إلى إطار أكثر استدامة ومتانة للعلاقة، أما الإخفاق في ذلك فقد يعني إهدار فرصة استراتيجية نادرة وربما دفع الهند إلى مسارات تتعارض مع المصالح الاقتصادية والاستراتيجية للولايات المتحدة.

 

أظهرت نيودلهي التزاماً جديداً بمبادرات طموحة في البنية التحتية والصحة والتكنولوجيا تتماشى مع النهج الأميركي التقليدي في المحيط الهادئ على أن يتوسع هذا التعاون تدريجياً.

 

 

أركان القوة

 إن إقامة تحالف استراتيجي جديد بين الولايات المتحدة والهند يمكن أن يتم عبر معاهدة تخضع لمشورة وموافقة مجلس الشيوخ الأميركي، بحيث يقوم هذا التحالف على خمسة ركائز أساسية تهدف إلى تعزيز الأمن والازدهار والقيم المشتركة بين البلدين.

 اولاً: يتعيّن على الطرفين الاتفاق على خطة عمل تمتد لعشر سنوات في المجالات التكنولوجية التي ستحدد ملامح المستقبل مثل الذكاء الاصطناعي وأشباه الموصلات والتقنيات الحيوية والحوسبة الكمية والطاقة النظيفة والاتصالات وعلوم الفضاء، الهدف هو بناء منظومة تكنولوجية مشتركة مرتبطة بحلفاء آخرين تضمن ألا تتخلى الولايات المتحدة والديمقراطيات الأخرى عن ميزة الريادة الابتكارية لصالح منافسين كالصين، ويتطلب ذلك الجمع بين أجندة “التعزيز” (الاستثمارات العامة الجريئة والبحث والتطوير المشترك وتبادل الكفاءات) وأجندة “الحماية” (تنسيق ضوابط التصدير وتدابير الأمن السيبراني). في هذا السياق يُفترض تطوير مبادرة  TRUST الأميركية– الهندية المبنية على مبادرة بايدن للتقنيات الحرجة والناشئة من مجرد منتدى تشاوري إلى إطار مؤسسي أكثر رسمية، ومن الأمثلة الواعدة النقاشات المبكرة بشأن اتفاقية ثنائية في مجال الذكاء الاصطناعي قد تُشكل الأولى من نوعها لتكون أساساً للشراكات البحثية وتوجيه الاستثمارات الخاصة، كما ينبغي تكرار هذا النموذج عبر طيف واسع من التقنيات الناشئة، الى جانب ذلك ينبغي إقامة شراكة استراتيجية في مجال الكفاءات العلمية والتقنية عبر إزالة العوائق أمام العلماء والمهندسين ورواد الأعمال والخبراء للعمل في مجالات الأولوية بما يشمل تسهيل إجراءات التأشيرات وتخصيص صناديق تمويل مشتركة وإلغاء ضوابط تصدير قديمة تحد من التعاون.

 

 

 ثانياً: تتطلب المرحلة الراهنة صياغة اتفاق تجاري ثنائي يعكس الواقع الهيكلي للاقتصاد العالمي الحديث ويأخذ في الحسبان الاعتبارات السياسية في كل من واشنطن ونيودلهي، الخطوة الطبيعية الأولى تتمثل في إبرام اتفاقية حول سلاسل الإمداد والاستثمار من شأنها تقليص مواطن الضعف المتبادلة أمام الضغوط الخارجية وتعزيز القواعد الصناعية–التكنولوجية في البلدين، فكلاهما يدرك حجم اعتماده على الصين في سلاسل إمداد حيوية وفي بعض الحالات تتقاطع هذه الاعتمادية، فعلى سبيل المثال تزود الصين الهند بنسبة تتراوح بين 70 و80% من المكوّنات الدوائية الفعّالة وبما أن 40% من الأدوية الجنيسة في الولايات المتحدة تُصنع في الهند تصبح واشنطن معرّضة بشكل غير مباشر لاعتماد نيودلهي على الصين الأمر ذاته ينطبق على المعادن الحرجة.
إن اتفاقية لسلاسل الإمداد يمكن أن توفر آلية دائمة لتحديد المخاطر المحتملة والتعامل معها في القطاعات المرتبطة بالأمن القومي والقدرة التنافسية الاقتصادية من خلال الإنذار المبكر باضطرابات محتملة ووضع استراتيجيات استثمار طويلة الأمد تعزز القدرة على الصمود، كما يتعين على البلدين إرساء مبادئ عالية المستوى لتنظيم تدفق البيانات عبر الحدود وضمان أمنها إلى جانب اتفاقية استثمارية تقلل العقبات أمام الاستثمارات الأجنبية المباشرة، خصوصاً في القطاعات الاستراتيجية عبر إزالة العوائق غير الجمركية وتحديث القيود التنظيمية في مجالات مثل الطاقة النظيفة وتعزيز حماية الملكية الفكرية.

ثالثاً: ينبغي أن يشمل التحالف تطوير القدرات الدفاعية المشتركة وإنتاجها وتوسيع التعاون اللوجستي وتعزيز قابلية العمل المشترك، ولا يشترط ذلك وجود ضمان دفاعي مماثل للمادة الخامسة في حلف الناتو بل يكفي إنشاء آليات للتشاور ومنصات مشتركة للتكنولوجيا والكوادر ما يتيح تعزيز القدرات على التدريب والتمرين والعمليات المشتركة، ومن بين المبادرات ذات الصلة منظومة INDUS-X التي أُطلقت عام 2023 لتكون جسراً ابتكارياً يربط مكونات المنظومة الدفاعية في البلدين من وكالات حكومية وشركات كبرى وشركات ناشئة ومستثمرين ومراكز بحثية. وقد عكس اتفاق تصنيع محركات الطائرات  F-414 في الهند وهو نقل تكنولوجي غير مسبوق لشريك غير معاهَد الإمكانات الكبيرة لهذا المسار، والهدف لا يقتصر على نقل التكنولوجيا الأميركية إلى الهند بل تطوير قدرات جديدة وتشغيلها بشكل مشترك خاصة في مجالات مثل الأنظمة الجوية غير المأهولة والدفاع الجوي، كما ينبغي توسيع نطاق التعاون ليشمل الأنشطة البحرية والجوية المشتركة في المحيط الهندي بما في ذلك التعاون في الغواصات وعمليات الاستطلاع الجوي والتخطيط للطوارئ.

رابعاً: شهد التعاون الاستخباراتي زخماً ملحوظاً خلال إدارتَي ترامب وبايدن، ومن الأمثلة على ذلك “شراكة المحيطين الهندي والهادئ للوعي بالمجال البحري” عام 2022 التي جمعت أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة (الرباعية) للتصدي للصيد غير المشروع والتهريب والأنشطة البحرية غير المشروعة، والخطوة التالية تتمثل في بناء صورة استخباراتية مشتركة للمحيط الهندي من خلال هيكلية رسمية لتبادل المعلومات والتحليلات الاستخباراتية وتحديثها باستمرار.

واخيراً: يمكن للقدرات الفريدة لكل من الولايات المتحدة والهند أن توفر فرصاً مهمة للتعامل مع التحديات العالمية مثل أزمة المناخ والأمن الغذائي والصحة العامة إضافةً إلى توظيف التقنيات الناشئة لتقديم المنافع العامة على الصعيد الدولي، فالولايات المتحدة قادرة على تعبئة الموارد العامة والخاصة وخبراتها التنموية بينما تملك الهند خبرة عملية واسعة في التعامل مع هذه التحديات وعلاقات موثوقة في شرق أفريقيا ومنطقة المحيط الهادئ، ويمكن الانطلاق عبر مشروعات تجريبية مشتركة قابلة للتوسع في دول ثالثة مثل بابوا غينيا الجديدة وفيجي حيث أظهرت نيودلهي التزاماً جديداً بمبادرات طموحة في البنية التحتية والصحة والتكنولوجيا تتماشى مع النهج الأميركي التقليدي في المحيط الهادئ على أن يتوسع هذا التعاون تدريجياً.

 

الواقعية ضرورة

 قد يذهب البعض إلى القول إن استعادة زخم العلاقات الثنائية بعد التراجع الأخير أمر غير ممكن، لكن على الفاعلين في الكونغرس والأوساط الاقتصادية والاستراتيجية في الولايات المتحدة أن يوضحوا لنظرائهم الهنود أن استعراضات الرئيس الأميركي دونالد ترامب كثيراً ما تكون مقدمة لعقد الصفقات، ورغم ما يثيره هذا الأسلوب من استياء إلا أن القاعدة التي صاغها وزير الدفاع الأميركي الراحل دونالد رامسفيلد تبقى صالحة “عليك أن تمارس الدبلوماسية مع الولايات المتحدة كما هي لا كما تتمنى أن تكون”، صحيح أن تعميق العلاقة في ظل الإدارة الحالية قد يبدو صعباً لكن على أنصار التحالف الأميركي–الهندي مواصلة العمل على ترسيخ الأسس الاستراتيجية والفكرية والعملية للتحالف بعيد المدى.

يُثار أيضاً تساؤل حول ما إذا كان التراجع الديمقراطي في الهند يجعل مثل هذا التحالف غير قابل للاستمرار، فالهند تواجه تحديات جدّية تتعلق بالتعددية والحقوق المدنية وسيادة القانون، غير أن العلاقة بين البلدين يجب أن تكون ناضجة بما يكفي لفتح حوار صريح مع الحكومة الهندية والمجتمع المدني، وفي المقابل يتعين على الولايات المتحدة أن تتحلى بقدر من التواضع وتعترف بمشكلاتها الداخلية الخاصة بالديمقراطية وسيادة القانون فهي أيضاً تعيش داخل “بيت زجاجي واسع”. وتبرز كذلك معضلة العلاقة مع روسيا التي تجلت بوضوح في اللقاء الأخير بين مودي وبوتين، إذ يتعين على نيودلهي اتخاذ خيار استراتيجي طويل الأمد للتخلص من اعتمادها على موسكو في مجالي الدفاع والطاقة وهو خيار ينبغي أن يصدر عن مصلحة وطنية لا عن مجاملة لواشنطن، وقد برزت بالفعل مؤشرات خلال السنوات الأخيرة على إعادة تموضع الهند تدريجياً نحو الولايات المتحدة وأوروبا. كما يجب على واشنطن أن تتجنب اختزال سياستها تجاه الهند في إطار “هندي–باكستاني”، فالدبلوماسية الأميركية اتجهت بوضوح نحو نيودلهي لأسباب استراتيجية جوهرية، صحيح أن لواشنطن مصالح مستمرة مع إسلام آباد كالتصدي للإرهاب أو الحد من انتشار الأسلحة النووية إلا أن هذه المصالح تبقى محدودة إذا ما قورنت بالمصالح متعددة الأبعاد مع الهند.

أما في الجانب الهندي فستُطرح تساؤلات– خاصة في ظل تصاعد النزعات القومية– بشأن ما إذا كان التحالف مع الولايات المتحدة سيقيد “الاستقلالية الاستراتيجية”، وهذا تصور مفهوم لدى من ورثوا إرث حركة عدم الانحياز التي قادتها الهند في الحرب الباردة، غير أن التحالف الاستراتيجي لا يتناقض بالضرورة مع الاستقلالية فالهند والولايات المتحدة دولتان مستقلتان وفخورتان بسيادتهما، فالتحالفات تقوم على التوافق والغاية المشتركة لا على التنازل عن السيادة.

 

حقبة جديدة وتحالف جديد

 يبقى التحدي العملي متمثلاً في قدرة الحكومتين وبيروقراطيتهما على تحريك آليات الدولة لبناء تحالف فعّال، ويتطلب ذلك قيادة عليا في كلا البلدين ورؤية ملهمة لا تقتصر على الحكومات، بل تشمل القطاع الخاص والمجتمع التكنولوجي والأكاديمي والرأي العام. والجدير بالذكر أن التحالفات الأميركية الكبرى لم تخلُ من أزمات وانتكاسات، فقد واجه التحالف الأميركي– الياباني خلافات اقتصادية وضغوطاً سياسية في الثمانينيات وتساؤلات حادة في تسعينيات ما بعد الحرب الباردة، كما ظل حلف الناتو يعاني من إشكالية تقاسم الأعباء. أما التحالف مع كوريا الجنوبية فشهد نزاعات حول كيفية التعامل مع التهديد الكوري الشمالي، إلى جانب احتجاجات شعبية متكررة على حوادث مأساوية مرتبطة بالوجود العسكري الأميركي هناك، ومع ذلك تجاوزت الولايات المتحدة وحلفاؤها هذه الأزمات ويمكن لواشنطن ونيودلهي أن يفعلا الأمر نفسه.

قد يكون من غير الممكن تحقيق ذلك في ظل القيادة الأميركية الحالية لكن الهدف الاستراتيجي ينبغي أن يبقى واضحاً، فحقائق المرحلة الجديدة تعزز من أهمية الترتيبات الأمنية المشتركة وقد أصبحت الهند أحد أبرز الشركاء الاستراتيجيين للولايات المتحدة، إن بناء علاقة راسخة مع الهند أمر بالغ الصعوبة لكن غيابها سيكون أكثر كلفة، ومن ثم على واشنطن ونيودلهي أن تباشرا العمل بعيداً عن الأوهام.

* Kurt M. Campbell and Jake Sullivan, The Case for a U.S. Alliance With India Washington Should Draw New Delhi Closer, Not Push It Away, FOREIGN AFFAIRS, September 4, 2025.

 

Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?

Reload Reload document
| Open Open in new tab

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى