الاكثر قراءةتحليلات و آراءغير مصنف
عندما سلمت الشعوب سلاحها .. ما الذي يقوله التأريخ للبنان والعراق وإيران اليوم؟

بقلم: الباحثة حنين محمد الوحيلي
مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية
في كثير من الأحيان يخطئ الرأي العام أو حتى بعض الحكومات في تفسير طبيعة الأزمات التي تواجهها، فيظن أن وجود السلاح المقاوم هو سبب المشكلات وأن التخلي عنه هو الطريق للسلام والرفاهية. الواقع التأريخي والعالمي يثبت العكس السلاح غالباً ما يظهر كردة فعل طبيعية على الاحتلال أو التهديد المباشر وليس مسبباً للأزمات. فالشعوب التي فقدت سلاحها لم تفقد مجرد أسلحة بل فقدت قدرتها على حماية أرضها وشعبها وكرامتها وانهارت مؤسساتها الأمنية والسيادية. هذه الحقيقة هي جوهر الدرس الذي يحمله التأريخ لكل من لبنان والعراق وإيران اليوم فالقدرة على الردع والمقاومة هي الضمان الحقيقي للاستقرار وليس التخلي عن القوة دفاعاً عن أوهام السلام المؤقت.
على مر التأريخ حاولت شعوب كثيرة البحث عن “الاستقرار والرفاهية” عبر التخلي عن سلاحها أو نزع أدوات مقاومتها، مطمئنة نفسها بالوعود المعلنة من المحتل أو القوى الأجنبية بحماية مؤقتة أو منح حقوق شكلية. كثير من هذه الشعوب في غياب الفهم التأريخي أو الإدراك الواقعي مارست نوعاً من العمى أو الوهم، واعتقدت أن الأزمات والمشكلات سببها وجود السلاح لا أن السلاح نفسه كان رداً طبيعياً على الاحتلال والعدوان. لكن التأريخ يروي قصصاً متكررة كل شعب سلم سلاحه فقد قدرته على الدفاع عن نفسه وانهارت سيادته وتحولت وعود الحماية إلى أوهام قاتلة. من الهند في عام 1857، مروراً بفلسطين 1948، ووصولاً إلى سوريا اليوم، تكرر المشهد نفسه فالتخلي عن السلاح لم يخلق الأمن أو الرخاء بل فتح الباب أمام الهيمنة والمجازر فضلاً عن فقدان الأرض والكرامة. هذه الدروس التأريخية ليست مجرد صفحات ماضية بل تحذيرات مباشرة لأي شعب يفكر أن الاستسلام أو التخلي عن قدرته على المقاومة هو طريق للخلاص.
بعد انهيار نظام “بشار الأسد” وتراجع الدعم الإيراني والروسي دخلت سوريا مرحلة جديدة من الفوضى. في ظل فراغ أمني كبير..
المحور الأول: دروس من التأريخ: كيف كان نزع السلاح بداية الانهيار؟
-
الهند (1857):
في منتصف القرن التاسع عشر كانت الهند تعيش حالة غليان تحت حكم شركة الهند الشرقية البريطانية. اندلعت “ثورة السيپوي” عام 1857 عندما تمرد الجنود الهنود على البريطانيين بسبب السياسات القمعية والانتهاكات الدينية والثقافية. وبعد سحق الثورة بعنف فرضت بريطانيا سياسة نزع سلاح القبائل والمقاتلين المحليين تحت ذريعة “منع الفوضى” وبوعود منح الحكم الذاتي والإصلاح الإداري. لكن هذه الوعود تحولت إلى سراب، فبمجرد تجريد الشعب من أدوات المقاومة، أحكم الاحتلال قبضته وتحولت الهند إلى “درة التاج البريطاني” عقوداً طويلة وعانت من مجاعات كارثية أودت بحياة الملايين بسبب استغلال الموارد لصالح لندن.
-
إيرلندا (1921):
في بداية القرن العشرين كان الجيش الجمهوري الإيرلندي يخوض حرب عصابات شرسة ضد الاحتلال البريطاني محققاً مكاسب ميدانية مؤثرة. لكن ضغوطاً دبلوماسية مكثفة ووعوداً بإنهاء العنف عبر اتفاق سياسي دفعت بعض القيادات للموافقة على “معاهدة الاستقلال” عام 1921. تضمنت المعاهدة وقف القتال وتسليم السلاح مقابل قيام دولة إيرلندية حرة. ما لم يدركه كثيرون آنذاك هو أن بريطانيا احتفظت بالسيطرة على “ألستر” في الشمال وأن هذا التقسيم سيصبح جرحاً مفتوحاً لعقود. وبالفعل اندلعت حرب أهلية بين مؤيدي المعاهدة ومعارضيها واستمر الاحتلال البريطاني للشمال حتى يومنا هذا، مع استمرار العنف الطائفي لعقود طويلة.
-
فلسطين (1948):
قبل النكبة كانت هناك تشكيلات مسلحة فلسطينية تدافع عن القرى والمدن أمام التمدد الصهيوني. ومع تصاعد الأحداث مارست جامعة الدول العربية ضغوطاً كبيرة على الفصائل الفلسطينية لتسليم أسلحتها للجيوش العربية بدعوى أن “الحرب مسؤولية الجيوش النظامية”. وثق الفلسطينيون بتلك الوعود لكن ما حدث كان كارثياً الجيوش العربية دخلت بشكل محدود، ووقفت عاجزة أمام التفوق العسكري الصهيوني المدعوم غربياً. خلال أشهر سقطت المدن الفلسطينية الواحدة تلو الأخرى، وتحول مئات الآلاف إلى لاجئين وبدأت مأساة مستمرة حتى اليوم.
-
ليبيا (2003):
بعد سنوات من العقوبات الدولية والعزلة السياسية قرر “معمر القذافي” تسليم برنامجه النووي بالكامل للغرب في صفقة أعلن عنها كخطوة تأريخية نحو “إعادة دمج ليبيا في المجتمع الدولي”. مقابل ذلك رفعت العقوبات وبدأت بعض الاستثمارات الغربية تتدفق. لكن ما لم يتوقعه “القذافي” هو أن التخلي عن ورقة القوة الاستراتيجية سيجعله بلا أي رادع أمام الأطماع الدولية. في 2011 عندما اندلعت الانتفاضة الداخلية، تدخل حلف الناتو عسكرياً وأسقط النظام وانزلقت ليبيا إلى فوضى وانقسام لا تزال تعانيه حتى اليوم.
-
السودان (2005):
تحت ضغوط أمريكية وإفريقية وقعت الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان اتفاقية “نيفاشا”، التي نصت على وقف الحرب الأهلية ونزع سلاح المقاتلين مقابل وعود بالتنمية وتقاسم السلطة. لكن خلال سنوات قليلة استغل الجنوب فترة الهدنة لينظم استفتاء الانفصال، لتولد دولة جنوب السودان في 2011. لم تتوقف المآسي عند الانقسام فقد استمرت الحروب في دارفور وجبال النوبة، وتحول السودان إلى ساحة صراعات داخلية وإقليمية وسط ضعف واضح للحكومة المركزية التي فقدت أوراق القوة.
-
إيتا الباسكية (2018):
منذ الستينيات خاضت منظمة “إيتا” الباسكية صراعاً مسلحاً ضد الحكومة الإسبانية للمطالبة باستقلال إقليم الباسك. بعد عقود من العمليات تعرضت لضغوط سياسية وأمنية أوروبية، مع وعود صريحة بالحكم الذاتي الموسع وإطلاق المعتقلين إذا توقفت العمليات. في 2018 أعلنت المنظمة حل نفسها وتسليم السلاح بالكامل. لكن ما حدث بعدها كان مختلفاً عن التوقعات مدريد أغلقت باب التفاوض تماماً ورفضت أي خطوة إضافية نحو الحكم الذاتي واستمر الاعتقال والملاحقة لكثير من النشطاء. عملياً تلاشت أوراق الضغط الباسكية بمجرد زوال السلاح من المعادلة.
-
سوريا (2025):
بعد انهيار نظام “بشار الأسد” وتراجع الدعم الإيراني والروسي دخلت سوريا مرحلة جديدة من الفوضى. في ظل فراغ أمني كبير جردت المجتمعات المحلية وخاصة في الساحل والمناطق الغربية من السلاح، ما جعلها عاجزة عن الدفاع عن نفسها أمام مجازر ارتكبتها فصائل متطرفة بينها قوات “الجولاني” الذي أصبح حاكم الأمر الواقع في دمشق. بالتوازي شنت (إسرائيل) سلسلة ضربات جوية استهدفت ما تبقى من الأسلحة الثقيلة والطائرات العسكرية ومراكز الأبحاث الاستراتيجية، لتعيد القدرات العسكرية السورية عشرات السنين إلى الوراء. ورغم كل هذا لم تنل سوريا أي حرية أو امتياز سياسي بل على العكس ازداد الانقسام الداخلي وتعمقت التبعية للخارج، فيما استمرت موجات النزوح والتهجير القسري ضد الأقليات كالدروز والمسيحيين والعلويين وسط غياب كامل لأي قوة ردع وطنية.

المحور الثاني: إيران ولبنان والعراق: الواقع الراهن ومعركة سلاح الردع
-
لبنان
يشكل سلاح حزب الله في لبنان خط الدفاع الأهم عن السيادة الوطنية وحماية الشعب والكرامة الوطنية. هذا السلاح لم يظهر عبثاً، بل جاء كرد فعل طبيعي على تأريخ طويل من العدوان (الإسرائيلي) ومحاولات الهيمنة المتكررة على الدولة اللبنانية. على الرغم من ذلك تروج بعض الأطراف الداخلية والخارجية لفكرة أن الأزمات الاقتصادية والسياسية سببها وجود السلاح، متجاهلين أن التخلي عنه سيزيد من هشاشة الدولة ويجعلها فريسة سهلة للضغط والاحتلال الخارجي.
اليوم يواجه لبنان ضغوطاً غير مسبوقة من الولايات المتحدة والسعودية، اللتين تمارسان تأثيراً مباشراً على الحكومة اللبنانية لدفعها نحو حصر سلاح المقاومة وفق ما تضمنته ورقة المبعوث الأمريكي الأخيرة، والتي أقرتها الحكومة كخطوة أولية نحو فرض قيود على القدرات العسكرية للمقاومة. ورغم تقديم هذه الخطوات على أنها طريق نحو الاستقرار إلا أن الواقع يشير إلى العكس، فالتجارب التأريخية من الهند وفلسطين وليبيا والسودان تؤكد أن التخلي عن السلاح يؤدي إلى فقدان الدولة لقدرتها على الدفاع عن شعبها وفتح المجال للهيمنة الخارجية والانقسامات الداخلية، مع تعرض الأقليات والمجتمعات الضعيفة للمجازر والتهجير.
على صعيد موقف الحكومة والشارع يظهر الانقسام بوضوح، فالحكومة ممزقة بين الالتزام بالضغوط الدولية والحفاظ على حد أدنى من السيادة الوطنية، بينما يرى الشارع اللبناني في سلاح المقاومة الضمان الحقيقي لحماية لبنان ورفضه لأي خطوة نحو نزع السلاح يعكس وعياً عميقاً بالدروس التأريخية وخطورة فقدان أدوات الردع.
الجغرافيا اللبنانية المتنوعة والطبيعة الحدودية مع (إسرائيل) تجعل القوة الدفاعية للمقاومة أمراً استراتيجياً لا يمكن التفريط به، خاصة في ظل محدودية الموارد الوطنية والبنية التحتية الهشة التي تزيد من أهمية وجود قوة ردع تحمي الدولة من الانهيار الكامل وتضمن بقاء حد أدنى من الاستقرار النسبي.
لم يأت الحشد الشعبي وفصائل المقاومة من فراغ بل كان استجابة لواقع الاحتلال الأمريكي بعد عام 2003 وما تبعه من فوضى..
-
العراق
في العراق لم يأت الحشد الشعبي وفصائل المقاومة من فراغ بل كان استجابة لواقع الاحتلال الأمريكي بعد عام 2003 وما تبعه من فوضى وانهيار مؤسسات الدولة وصعود “الإرهاب”، ثم تعزز دوره بفتوى الجهاد الكفائي لمواجهة تنظيم داعش حين كان يهدد بغداد والمدن العراقية الكبرى. هذا التأريخ يجعل سلاح الحشد الشعبي أداة دفاع وجودية لا مجرد ورقة سياسية.
اليوم يواجه الحشد الشعبي حملة ضغوط أمريكية متواصلة تتخذ أشكالاً متعددة، منع تمرير قوانين تثبت وضعه القانوني، التركيز الإعلامي على مصطلح “السلاح المنفلت”، الضغط على الحكومة لاتخاذ مواقف تصعيدية ضد قادة الحشد وقادة فصائل المقاومة، بل ومحاولات تشويه صورته أمام الرأي العام العراقي بهدف صناعة رفض شعبي داخلي لمشروع المقاومة. هذه السياسة تستهدف إضعاف قدرة العراق على امتلاك قوة ردع مستقلة وتحويله إلى ساحة مفتوحة أمام النفوذ الخارجي.
يزداد الموقف حساسية اليوم مع تطورات خطيرة على الحدود السورية – العراقية، بعد سقوط حكومة “الأسد” وتسلم “الجولاني” الحكم، حيث باتت مجموعات متورطة بجرائم إرهابية في العراق جزءاً من السلطة في سوريا. ومع الفوضى المتسارعة في (الشرق الأوسط) والتوسع الصهيوني العلني وخطط إعادة رسم الخرائط، يصبح تعزيز المقاومة وسلاحها ضرورة استراتيجية ملحة. دمج الحشد أو حصر سلاحه في هذا الظرف ليس إصلاحاً بل تهديد مباشر لأمن العراق وسيادته.
الإصرار الإيراني على التسلح وتطوير قدراتها الردعية انعكس بشكل مباشر على توازن القوى في المنطقة،..
-
إيران
منذ سنوات والمجتمع الدولي يسعى بكل أدواته الدبلوماسية والاقتصادية لتقويض قوة الجمهورية الاسلامية في إيران ومنعها من امتلاك عناصر الردع الاستراتيجي، عبر محاولات متكررة لإيقاف برنامجها النووي وضرب بنيتها الدفاعية الصاروخية إدراكاً منه أن أي تقدم في قدرات طهران سواء على صعيد التخصيب أو دقة الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة، سيغير موازين القوى في المنطقة ويضع حداً لتفرد القوى الغربية في صياغة قواعد اللعبة الإقليمية. ولهذا تتوالى العقوبات وتتصاعد محاولات العزل ويتم التلويح بإعادة الجمهورية الاسلامية في إيران إلى بنود أممية صارمة، لكن طهران تنظر إلى هذه الضغوط على أنها معركة وجود وليست مجرد خلافات سياسية.
لقد أثبتت تجارب العقود الماضية أن أي تنازل في ملف الردع أو توقف عن تطوير القدرات العسكرية سيجعل النظام عرضة لمحاولات إسقاط سريعة وزعزعة داخلية مبرمجة وهو ما تدركه إيران بعمق. ولهذا ترفض عمليات التفتيش التي تمس سيادتها وتصر على المضي في تطوير برنامجها النووي والصاروخي، رغم التهديدات بالعقوبات الدولية وعزلها اقتصادياً لأنها تعلم أن قوتها هي الضامن الوحيد لبقاء نظامها واستقلال قرارها السياسي.
كما أن هذا الإصرار الإيراني على التسلح وتطوير قدراتها الردعية انعكس بشكل مباشر على توازن القوى في المنطقة، إذ أوجد حالة من الردع الفعلي حدت من اندفاعات خصومها الإقليميين والدوليين، وأسهمت في تعزيز جبهات المقاومة من لبنان إلى العراق واليمن، ما جعل أي مشروع لتصفية قوى المقاومة أو حصر سلاحها مشروعاً محفوفاً بالمخاطر وغير مضمون النتائج.
إن قراءة التأريخ تكشف أن كل مشروع لتجريد الشعوب من وسائل ردعها كان بداية لانكسارها واستباحة قرارها. واليوم ومع تصاعد الضغوط على لبنان والعراق والجمهورية الاسلامية في إيران لحصر سلاح المقاومة أو إيقاف برامج الردع، علينا أن ندرك أن جوهر المعركة ليس السلاح فقط بل كسر إرادة الشعوب وإعادتها إلى العجز الذي يريده المحتل وحلفاؤه.
المطلوب ليس دولة قوية بل دولة عاجزة لا تحمي حدودها ولا تدافع عن شعبها. لذا تبقى المعركة الحقيقية معركة وعي قبل أن تكون معركة سلاح، فالتنازل عن سلاح المقاومة يعني القبول بالعودة إلى مربع التبعية والاستباحة. وما دامت مشاريع الاحتلال قائمة يبقى الحفاظ على السلاح وتعزيز قدراته واجباً استراتيجياً يضمن ألا يعاد تأريخ الهزائم من جديد.



