الاكثر قراءةتحليلات و آراءغير مصنف
من ذاكرة الحرب إلى صناعة المستقبل: الدلالات الجيوسياسية للاستعراض العسكري الصيني وتداعياته في التنافس الدولي

بقلم: الباحثة نور نبيه جميل
مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية
المقدمة: رسالة القوة والشرعية
يمثل الاستعراض العسكري الصيني لحظة سياسية واستراتيجية تتجاوز فكرة العرض الاحتفالي للقوة العسكرية، إذ ينهض بدور مركب يجمع بين استدعاء الماضي واستشراف المستقبل. فمن خلال استعراض الأسلحة والتقنيات الحديثة، وما يرافقها من خطاب سياسي محمّل بالإشارات الرمزية، تعيد بكين صياغة روايتها القومية التي تستند إلى “ذاكرة الحرب”، ولا سيما تلك المرتبطة بالغزو الياباني وما يُعرف بمرحلة “قرن الإذلال”. هذا الاستدعاء للماضي ليس مجرد ممارسة خطابية، بل هو أداة شرعنة سياسية للحزب الشيوعي الذي يربط بين التضحيات التي قدّمها الشعب الصيني في مواجهة الاستعمار والحروب الإمبريالية، وبين المشروع المعاصر لبناء “الصين العظمى”.
في المقابل، فإن الاستعراض يحمل أبعادًا مستقبلية بقدر ما يرتكز على الماضي. فهو يعكس رؤية الصين لمكانتها في النظام الدولي المعاصر باعتبارها قوة صاعدة لا تكتفي بالدفاع عن حدودها، بل تسعى إلى تثبيت حضورها كقطب مركزي في النظام العالمي. إن ما يُعرض من صواريخ عابرة للقارات، وطائرات شبحية، وقدرات فضائية وتقنيات مرتبطة بالذكاء الاصطناعي، ليس موجهًا فقط للخصوم التقليديين مثل الولايات المتحدة وحلفائها، بل هو أيضًا رسالة موجهة إلى الداخل تؤكد أن الدولة ماضية في مشروعها الاستراتيجي الذي يربط التنمية الاقتصادية بالقوة العسكرية، في إطار مفهوم “الاندماج المدني – العسكري”
في ضوء ذلك فقد نظمت الصين في 3 ايلول 2025، أكبر استعراض عسكري في تاريخها الحديث في ساحة تيان آن من ببكين، بمناسبة الذكرى الثمانين لانتصارها في الحرب العالمية الثانية. هذا الحدث لم يكن مجرد احتفال تاريخي، بل كان بمثابة رسالة استراتيجية متعددة الأبعاد، تهدف إلى إعادة تعريف موقع الصين في النظام الدولي المعاصر، وتأكيد قوتها العسكرية المتزايدة، وتعزيز تحالفاتها الإقليمية والدولية. وفق ماسبق سنقسم المقال إلى الاتي:-
اولاً: الاستعراض العسكري كأداة للهيبة الوطنية والشرعية السياسية
شهد العرض مشاركة أكثر من 12,000 جندي، وعرض أحدث الأسلحة والتقنيات العسكرية، بما في ذلك الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، والطائرات المسيرة، والغواصات النووية. كما حضر الحدث قادة دوليين بارزين مثل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون، ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، مما يعكس تحالفًا متناميًا بين الصين وروسيا وكوريا الشمالية والهند. هذا التواجد الدولي يعزز من صورة الصين كقوة محورية في إعادة تشكيل النظام الدولي بعيدًا عن الهيمنة الغربية.

ثانيا : التحولات الجيوسياسية وتداعياتها على التوازن الإقليمي والدولي
العرض العسكري لم يكن مجرد استعراض للقوة، بل كان أيضًا إعلانًا عن تحول في موازين القوى العالمية. لقد أظهرت الصين من خلال هذا الحدث قدرتها على تطوير وتوظيف تقنيات عسكرية متقدمة، مما يضع تحديات أمام القوى الغربية، خاصة الولايات المتحدة، في مجالات مثل الردع النووي، والحروب السيبرانية، والفضاء. هذا التحول يعكس سعي الصين لتحول الى نظام دولي متعدد الأقطاب، يتجاوز الهيمنة الأمريكية.
بمعنى إن قراءة الاستعراض العسكري الصيني تكشف عن دلالات جيوسياسية متعددة. فعلى المستوى الإقليمي، تسعى بكين إلى إرسال رسائل ردع واضحة لليابان وكوريا الجنوبية، وتأكيد سيطرتها في بحر الصين الجنوبي، حيث تتركز التوترات مع واشنطن وشركائها في الإندو- باسيفيك. وعلى المستوى الدولي، يشكل الاستعراض تأكيدًا على التحول في ميزان القوى، بما يعزز خطاب التعددية القطبية في مواجهة النزعة الأحادية التي ارتبطت بالهيمنة الأميركية بعد الحرب الباردة. وهنا تتضح أبعاد النظرية الواقعية في العلاقات الدولية، حيث يمثل الاستعراض جزءًا من عملية “توازن القوى” عبر إظهار القدرة الصينية على مقارعة الولايات المتحدة، بينما في البعد البنائي يتجلى البعد الرمزي للاستعراض بوصفه أداة لإعادة تعريف الهوية القومية الصينية وربطها بسردية النهضة.
ثالثاً: الأبعاد الرمزية والتاريخية في الخطاب السياسي الصيني
من الناحية الاقتصادية والتكنولوجية، يرتبط الاستعراض بمشروع أشمل يسعى إلى إبراز الصين كقوة ابتكار قادرة على منافسة الغرب. فالتقنيات التي تُعرض ليست موجهة للاستخدام العسكري فحسب، بل إنها مرتبطة أيضًا بقطاعات مدنية كالفضاء والاتصالات والطاقة المتجددة، بما يعكس الترابط بين القوة الصلبة والقوة الناعمة. وهو ما يمنح الاستعراض قيمة مزدوجة: فهو أداة ردع في الوقت ذاته الذي يُقدم فيه الصين كقوة مسؤولة أمام دول الجنوب العالمي، التي ترى في بكين نموذجًا بديلاً للهيمنة الغربية.
كما أن الاستعراضات العسكرية تمثل جزءًا من الاستراتيجية الكبرى للصين. فهي تؤدي وظيفة الردع الاستراتيجي في مواجهة محاولات تطويقها عسكريًا من قبل الولايات المتحدة، لكنها أيضًا تُستخدم لتعزيز صورة الصين كقوة مستقرة وموثوقة أكثر من غيرها من القوى المنافسة، بما في ذلك روسيا التي وإن بدت شريكًا استراتيجيًا، إلا أن بكين تحرص على تقديم نفسها بوصفها النموذج الأكثر قدرة على قيادة العالم غير الغربي
ففي خطابه خلال العرض، أكد الرئيس شي جين بينغ على أن “الاختيار بين السلام والحرب، والحوار والمواجهة، هو خيار الإنسانية اليوم”. هذا التصريح يعكس رؤية الصين كداعم للسلام، في حين أنها في الواقع تسعى إلى تعزيز قوتها العسكرية والاقتصادية لتأمين مصالحها الاستراتيجية. كما أن التركيز على الذكرى الثمانين للحرب العالمية الثانية يعكس رغبة الصين في تقديم نفسها كقوة مناهضة للفاشية، مما يساهم في تعزيز مشاعر الوطنية والشرعية السياسية داخليًا.
الاستعراض العسكري الصيني يجسد ممارسة جيوسياسية مركبة، فهو يستدعي الماضي بما يحمله من “ذاكرة حرب”، ويعيد توظيفه في مشروع “صناعة المستقبل”.
رابعاً: الاستعراض العسكري الصيني بين التطور التاريخي والرسائل الاستراتيجية المتقدمة
-
المقارنة التاريخية
مقارنة الاستعراض الحالي مع استعراضات الصين السابقة، واستعراضات روسيا والولايات المتحدة، يظهر تطوّرًا ملحوظًا في حجم القوات، التقنيات المعروضة، وتعقيد التشكيلات العسكرية. هذا التطور يرسل رسالة واضحة للنظام الدولي: الصين لم تعد قوة صاعدة فقط، بل قوة متقدمة تقنيًا واستراتيجيًا.
-
البعد الاقتصادي والصناعي
الاعتماد على تقنيات محلية وابتكار داخلي في تصنيع الأسلحة يعكس قدرة الصين على الاستقلال العسكري والصناعي، ويقلل من التبعية لأي قوة خارجية. الرسالة المضمرة هي ان الصين تمتلك القدرة على استدامة قوتها العسكرية على المدى الطويل دون قيود خارجية.
-
البعد السيبراني والفضائي
إلى جانب المعدات التقليدية، أبرز الاستعراض قدرات الصين في الفضاء والحرب السيبرانية، بما في ذلك الأقمار الصناعية العسكرية وأنظمة المراقبة عالية التقنية.
هذا الجانب يُظهر أن القوة الصينية لا تقتصر على الأرض فقط، بل تشمل أبعادًا جديدة للحرب الحديثة، وتوجه رسالة ردع قوية للقوى الغربية.
-
البعد الإقليمي المباشر
يشكل الاستعراض رسالة قوية لتايوان وجيران الصين في بحر الصين الجنوبي، مفادها أن الصين جاهزة لتأكيد سيادتها الإقليمية والدفاع عن مصالحها الحيوية. هذا يعكس استراتيجية ردع محددة، تهدف إلى خفض احتمالات أي مواجهة مباشرة ضدها في المنطقة.
-
البعد النفسي والدبلوماسي
حضور قادة دوليين ومشاهدة العالم للاستعراض يعطي الصين مصداقية سياسية ودبلوماسية. الرسالة الموجهة للقوى الغربية: “الصين مستعدة للسلام، لكنها لن تتنازل عن مصالحها الاستراتيجية”.
الخاتمة: إعادة تشكيل النظام الدولي
الاستعراض العسكري الصيني في الذكرى الثمانين لانتصارها في الحرب العالمية الثانية يمثل خطوة استراتيجية هامة في تعزيز مكانتها كقوة عظمى على الساحة الدولية. من خلال هذا الحدث، أظهرت الصين قدرتها على دمج القوة العسكرية مع الدبلوماسية السياسية، مما يضع تحديات أمام النظام الدولي القائم. إن هذا التحول في موازين القوى يتطلب من الدول الأخرى إعادة تقييم استراتيجياتها السياسية والعسكرية لمواكبة هذا التغير في النظام الدولي. اذ إن انعكاسات هذه الاستعراضات على التنافس الدولي بالغة العمق. فهي تثير سباق تسلح جديد مع الولايات المتحدة في مجالات الفضاء والبحرية والذكاء الاصطناعي، وتؤثر في بنية النظام الدولي عبر دفعه تدريجيًا نحو تعددية قطبية. وفي هذا الإطار، تصبح العروض العسكرية الصينية جزءًا من أدوات الدبلوماسية الصلبة، لكنها مشحونة أيضًا برسائل ناعمة موجهة إلى الداخل والخارج في آن واحد.
وعليه يمكن القول إن الاستعراض العسكري الصيني يجسد ممارسة جيوسياسية مركبة، فهو يستدعي الماضي بما يحمله من “ذاكرة حرب”، ويعيد توظيفه في مشروع “صناعة المستقبل”. هذا التداخل بين الرمزية التاريخية والتطلع الاستراتيجي يؤكد أن الصين لا تنظر إلى قوتها العسكرية باعتبارها مجرد وسيلة للدفاع عن الذات، بل باعتبارها جزءًا من مشروع حضاري شامل يرمي إلى إعادة تشكيل التوازنات الإقليمية والدولية، وصياغة معادلة أمنية جديدة للعالم، تكون بكين في مركزها.



