الاكثر قراءةترجماتغير مصنف
آسيا تصبح غير متوازنة بشكل خطير

بقلم: الباحث ستيفن إم. والت، وأستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفارد
مراجعة: أ.م.د هديل حربي ذاري
جامعة النهرين / كلية العلوم السياسية
شهدت منطقة آسيا في العقود الأخيرة تحولات استراتيجية كبرى، أبرزها الصعود السريع للصين كقوة عظمى تسعى إلى إعادة تشكيل النظام الإقليمي، مما أثار قلق الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة، في هذا السياق، يستعرض الكاتب الأمريكي المتخصص في العلاقات الدولية، ستيفن إم. والت، في مقاله المنشور بمجلة Foreign Policy في نيسان 2025، بعنوان ” آسيا تصبح غير متوازنة بشكل خطير”، تداعيات هذا التحول على توازن القوى في آسيا ومستقبل التحالفات الأمريكية هناك.
ينطلق الكاتب من مقاربة واقعية تقليدية تركز على توازن القوى كآلية رئيسة لضبط السلوك الدولي، غير أنه يُحذر في الوقت ذاته من التغيرات الجارية التي قد تقوّض فعالية هذه الآلية، مشيراً إلى تحديات داخلية وخارجية تواجه الحلفاء الآسيويين للولايات المتحدة، إلى جانب السياسات المتذبذبة لإدارة الرئيس ترامب. ويطرح المقال تساؤلات حيوية حول قدرة واشنطن على الحفاظ على نفوذها في آسيا، في ظل غياب رؤية اقتصادية موحدة، وتراجع في ثقة الحلفاء، وتقدم ملحوظ في القدرات التكنولوجية الصينية.
تهدف هذه المراجعة إلى تقديم قراءة نقدية تحليلية لمحتوى المقال، من خلال تلخيص كل فقرة وتقييم حجج الكاتب ومدى ترابطها وعمقها، مع التركيز على نقاط القوة والضعف في الطرح الذي يقدمه بداية الامر يستعرض الكاتب حالة الفوضى في السياسة الخارجية الأمريكية، مسلطاً الضوء على قضايا آنية مثل “سيغنال غيت”، و المشاكل التي تتعرض لها في ظل تدهور المفاوضات بين روسيا وأوكرانيا، والعداء المتزايد الذي تكنّه إدارة ترامب لأوروبا، وحرب تجارية وشيكة، وتدهور العلاقة بين الولايات المتحدة وكندا، والاعتداء المنهجي على المؤسسات الديمقراطية داخل الولايات المتحدة، إذا تواجه صعوبة كبيرة في مواكبة كل الفوضى الناجمة عن هذه الازمات. ثم ينتقل الكاتب الى التركيز على القضية الاكبر التي سيكون لها تداعيات بعيدة المدى، والمتمثلة بمستقبل التحالفات الأمريكية في آسيا.
من خلال مراجعتنا نجد ان الافتتاحية فعالة في جذب القارئ من خلال الربط بين الأحداث الجارية والموضوع الرئيس، غير أن الربط بين كل هذه الأحداث في فقرة واحدة قد يشتت الفكرة المحورية. لذا كان من الأفضل الانتقال تدريجياً من الفوضى العامة إلى التهديدات البنيوية في آسيا، اذ بالاستناد إلى نظرية توازن القوى/التهديد الواقعية، ستبدأ الصين بالنهوض المذهل من الفقر والتخلف التكنولوجي والضعف العسكري، إلى موقعها الحالي كثاني أقوى دولة في العالم، إلى جانب سعيها المستمر لبسط سيطرتها الإقليمية في بحر الصين الجنوبي، وتعديل الوضع القائم إقليمياً ودولياً، هذه التطورات إثارة قلق الولايات المتحدة ومعظم جيران الصين. نتيجة لذلك، بدأت تتشكل تحالفات موازنة بدأت بالحلفاء الآسيويين التقليديين لأمريكا، وامتدت تدريجياً لتشمل دولاً أخرى، هدفها الرئيس منع الصين من الهيمنة على المنطقة. شملت هذه الجهود:
-
نقل المزيد من القوات الأمريكية إلى المنطقة
-
اتفاقية أوكوس بين أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة
-
اتفاقية كامب ديفيد لتعزيز التعاون الأمني مع كوريا الجنوبية واليابان
-
إقناع الفلبين بتعزيز علاقاتها مع واشنطن وزيادة الوجود العسكري الأمريكي فيها
-
توسيع التعاون الأمني مع الهند
-
استمرار عمل المجموعة الرباعية (الولايات المتحدة، الهند، اليابان، وأستراليا)
-
دعم إقليمي متزايد لتايوان (مثل تصريح وزير الدفاع الياباني في 2021 أن “سلام واستقرار تايوان مرتبطان مباشرة باليابان”).
إذا من خلال ما تقدم اعلاه يشرح الكاتب، ومن منظور توازن القوى، صعود الصين من جهة، وتشكّل تحالف موازن بقيادة أمريكا يهدف لاحتوائها من جهة اخرى، عبر اتفاقيات مثل AUKUS، والتقارب مع الفلبين والهند. لذا استخدام الكاتب لنظرية توازن القوى يعطي المقال إطارًا نظريًا قوياً، لكن تجاهل الديناميات الداخلية للدول الآسيوية، كالأزمات السياسية أو الاقتصادية، يجعل التحليل ناقصًا، كما لم يذكر محدودية فعالية التحالفات في غياب إستراتيجية أمريكية اقتصادية متماسكة.
ثم يرى الباحث من خلال استرساله في المقال ان لدى الولايات المتحدة وشركائها الآسيويين أسباب قوية وواضحة للحفاظ على تحالفاتهم وتعزيزها، بغض النظر عن الادارة في البيت الأبيض، اذ ان توازن القوى سيمنع الصين من الهيمنة، مع ذلك يؤكد الكاتب أن هناك أسباباً متزايدة للتشكيك في هذه ذلك، اهمها:
أولاً: الصين لم تكن مكتوفة الأيدي:
بل تتكيف مع هذه الظروف الجديدة، وتنجح أحياناً، اذ ان إطلاق نموذج الذكاء الاصطناعي لشركة Deep Seek، أظهر قدرة الصين على الابتكار رغم العقوبات الأمريكية. فالصين تواصل الاستثمار الضخم في تصنيع الرقائق والحوسبة الكمومية، وتسيطر بالفعل على العديد من التقنيات الخضراء (مثل السيارات الكهربائية) التي تنأى عنها الولايات المتحدة. كما ان الجامعات الصينية تزداد تطوراً، في وقت تستهدف فيه إدارة ترامب الجامعات الأمريكية، مما يعرقل التعاون العلمي ويقلص تمويل البحث والتطوير.
وحسب وجهة نظرنا ومن خلال مراجعتنا، نجد ان السبب مهم ويشير الى الجانب التكنولوجي كميدان تنافس رئيس، لكن هناك مبالغة في رسم مشهد الانحدار الأمريكي، اذ لم يقدم الكاتب أرقامًا أو مقارنات كمية لدعم مزاعمه. كما تجاهل الصراعات الداخلية الصينية (مثل الرقابة والقيود الفكرية) التي قد تحد من هذا التقدم.
ثانياً: أحد أهم حلفاء أمريكا في آسيا– كوريا الجنوبية– يعاني من أزمة سياسية:
بعد محاولة الرئيس المعزول يون سوك يول فرض الأحكام العرفية في كانون الأول 2024، وبالرغم من تجاوز الأزمة واعادة الاستقرار، فإن المجتمع الكوري سيبقى منقسماً بشدة، وهناك احتمال أن يفوز المعارض لي جاي ميونغ بالرئاسة، وهو معروف بموقفه المتشكك من التحالف مع أمريكا، وبتوجهه التوافقي تجاه الصين وكوريا الشمالية.
من خلال مراجعتنا نجد ان الفقرة تسلط الضوء على عدم الاستقرار السياسي في كوريا الجنوبية بعد محاولة الرئيس المعزول يون فرض الأحكام العرفية، وتطرح احتمال وصول رئيس معارض أكثر ميلاً للصين. اذ نجد ان هناك تشخيص جيد لأثر التغيرات السياسية على التحالفات، لكن ما يؤخذ عليه هو اغفال التقاليد المؤسسية القوية في كوريا. كما أن الحجة تعتمد على سيناريو مستقبلي غير مؤكد (وصول لي جاي ميونغ للرئاسة)، ما يقلل من قوة الاستدلال.
ثالثاً: الصين تعاني من مشاكل ديموغرافية، لكن اليابان وكوريا الجنوبية تعانيان أكثر:
متوسط العمر في تايوان 44 عاماً، في كوريا الجنوبية 45، وفي اليابان يقارب 50، بينما في أمريكا 38، وفي الصين 40. بالمقابل، السكان في الهند وإندونيسيا والفلبين أصغر سناً بكثير. هذا التقدم في العمر سيُضعف قدرات تلك الدول العسكرية. إذا تستعرض الفقرة كيف أن الشيخوخة السكانية في دول مثل اليابان وتايوان قد تقيد قدراتها العسكرية، بخلاف دول مثل الهند والفلبين ذات المجتمع الفتي، لكنها تفتقر إلى ربط مباشر بين التركيبة السكانية والسياسات الأمنية. كما أن الكاتب لا يناقش كيف يمكن لهذه الدول التكيّف عبر التكنولوجيا أو الاعتماد على الحلفاء.
كما يشير الكاتب ان ثم هناك مشكلة “العمل الجماعي”. حتى عندما تواجه الدول تهديداً مشتركاً، فهي تميل لترك العبء على الآخرين. وهذا التحدي يتطلب قيادة تحالفات قوية ودبلوماسية مستمرة، وهذان عنصران لا يُتوقع توافرهما بوفرة في المستقبل القريب.
نجد من خلال مراجعتنا ان هذه نقطة صحيحة وجوهرية، لكن المقال لا يقدم أمثلة واقعية من آسيا لتدعيمها. مثلاً، لم يذكر التباينات داخل “الرباعية” أو تحفظات الهند تجاه أي تحالف صريح ضد الصين.
إدارة ترامب وتناقضاتها:
ثم يتناول الباحث ومن خلال مقاله، أن الصين منافس اقتصادي وعسكري، وهناك صقور صينيون بارزون في إدارته. ومن النادر وجود توافق حزبي بهذا الحجم حول مواجهة الصين، لكن من ناحية أخرى، يؤكد بأن لا يريد رجال الأعمال الأمريكيون (خصوصاً مثل إيلون ماسك) صداماً يهدد مصالحهم مع بكين. كما أعرب ترامب سابقاً عن شكوكه تجاه الدفاع عن تايوان، وكانت إحدى أولى خطواته هي الضغط على شركة TSMC التايوانية لاستثمار 100 مليار دولار في الولايات المتحدة.
إذا مما ورد يوضح الكاتب التناقض بين نبرة ترامب العدائية تجاه الصين ومصالحه التجارية، وشكه في الدفاع عن تايوان، ومحاولاته لتصفية صفقة مع شي جين بينغ، هو تحليل ممتاز يربط بين السياسات الخارجية والداخلية للرئيس. ومع ذلك، يبقى الحكم على نوايا ترامب افتراضيًا أكثر من كونه مدعومًا بوثائق أو تصريحات دقيقة، مما يضعف قوة الاستنتاج.
فضلا عن ذلك، أحدث تناقض بين هدف التصدي للصين ونهج ترامب الحمائي تجاه الحلفاء والخصوم. فمنذ أن ألغى ترامب اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ في ولايته الأولى، لم تضع أمريكا استراتيجية اقتصادية حقيقية تجاه آسيا، ولا حتى إدارة بايدن. أما الرسوم الجمركية التي أعلنت عنها ادارة ترامب على السيارات وقطع الغيار الأجنبية، فستضر كوريا الجنوبية واليابان، وهذا لا يساعد في تعزيز التضامن الاستراتيجي. من جهتها، استغلت بكين الفرصة سريعاً، حيث أكّد وزير خارجيتها وانغ يي في اجتماع مع مسؤولين يابانيين وكوريين جنوبيين أن “الجيران القريبين خير من الأقارب البعيدين”. وبهذا يتناول الكاتب غياب سياسة اقتصادية أمريكية متماسكة تجاه آسيا منذ إلغاء الشراكة عبر المحيط الهادئ، وتأثير الرسوم الجمركية على العلاقات مع اليابان وكوريا الجنوبية، لذا نجده طرح مهم يُظهر قصور واشنطن في بناء أدوات غير عسكرية لمواجهة الصين. لكن يغيب هنا تحليل لبدائل محتملة، أو دور الصين المتزايد في ملء هذا الفراغ عبر RCEP ومبادرة الحزام والطريق.
وأخيراً، يثير الباحث تساؤل مهم، ما إذا كان الطابع الأساسي للحكم الأمريكي يتغير بطريقة تُضعف الروابط التي جمعت تحالفاته الآسيوية. رغم أن هذه التحالفات لم تقم دائماً على القيم المشتركة، إلا أن الطابع الديمقراطي المشترك في العقود الأخيرة ساعد على توطيد العلاقات. وإذا كانت أمريكا تتجه نحو الحكم الاستبدادي، فإن هذا الرابط إلى جانب التمييز الواضح بين النموذجين الأمريكي والصيني– سيتلاشى ؟
يجيب الباحث على هذا التساؤل ومن جانب واقعي، بأن الدول في ظل نظام فوضوي تميل إلى التحسس الحاد من التهديدات، وصعود الصين الطموح يمنح الولايات المتحدة وحلفاءها أسباباً كافية للعمل معاً للحد من نفوذ بكين. ويعتقد الباحث أن التحالفات الأمريكية في آسيا ستبقى لأن الولايات المتحدة لا تريد للصين أن تصبح قوة مهيمنة، ولن تستطيع منع ذلك دون شركاء في المنطقة، وهؤلاء لا يرغبون في العيش ضمن دائرة النفوذ الصيني.
في الختام، يشير الكاتب إلى أن تحالفات الولايات المتحدة في آسيا ستظل قائمة على الأرجح، لأن الصين لا تزال تُعتبر تهديدًا مشتركًا، لكن الثقة في هذا السيناريو لم تعد كما كانت سابقًا، في ظل التغيرات البنيوية داخل كل من الصين والولايات المتحدة.
الاستنتاجات
-
التحالفات الآسيوية ليست محصّنة، اذ على الرغم من أن التحالفات الأمنية الأمريكية في آسيا تبدو قوية من الناحية المؤسسية، إلا أنها تواجه تحديات متزايدة ناجمة عن السياسات الأمريكية المتقلبة، والتحولات السياسية الداخلية في دول الحلفاء، وتنامي القدرة الصينية على الاستجابة والتكيّف.
-
نموذج توازن القوى التقليدي بات مهددًا، يوضح الكاتب أن النظرية الواقعية الكلاسيكية في السياسة الدولية لم تعد قادرة على تفسير أو ضمان استقرار التحالفات في مواجهة صعود الصين، بسبب تغير الظروف التقنية والديموغرافية والسياسية.
-
الضعف المؤسسي الأمريكي يُقلق الحلفاء، اذ تؤدي النزعة الحمائية، وتفكك المؤسسات، واستبدال الكفاءات بالولاءات داخل الإدارة الأمريكية، إلى تقويض ثقة الحلفاء الآسيويين بالولايات المتحدة، وتغذية المخاوف من الاعتماد على واشنطن في حالات الطوارئ.
-
الصين قادرة على المناورة وتجاوز القيود الغربية، أثبتت الصين قدرتها على التطور التكنولوجي رغم العقوبات الأمريكية، ما يشير إلى أن أدوات الضغط التقليدية لم تعد كافية لاحتوائها أو الحد من طموحها الإقليمي.
-
تغير البيئة السكانية والسياسية في آسيا يُضعف التحالفات، اذ تعاني العديد من دول آسيا الحليفة لأمريكا من شيخوخة سكانية وأزمات سياسية داخلية، مما قد يحدّ من قدرتها على الالتزام بمسؤوليات التحالف، ويفتح المجال لتقاربها مع الصين كخيار أكثر مرونة.
-
غياب إستراتيجية اقتصادية أمريكية في آسيا يُضعف الردع، اذ ركّزت السياسة الأمريكية تجاه آسيا في السنوات الأخيرة على الشقّ العسكري، متجاهلة البعد الاقتصادي الذي تعده الدول الآسيوية أساسيًا، وهو ما منح الصين مجالاً أوسع لملء هذا الفراغ من خلال المبادرات الاقتصادية الإقليمية.
-
احتمال تغير هوية النظام السياسي الأمريكي قد يؤثر على استقرار التحالفات، يشير الكاتب إلى أن تحول الولايات المتحدة نحو السلطوية قد يُضعف جاذبيتها كشريك ديمقراطي، ويزيل عنصر القيم المشتركة الذي لطالما عزّز علاقاتها الآسيوية
-
ان مستقبل التحالفات الأمريكية في آسيا مرهون بثلاثة عوامل:
-
الحفاظ على التماسك الداخلي الأمريكي ومؤسساته.
-
وضوح الإستراتيجية تجاه الصين، لاسيما على المستوى الاقتصادي.
-
قدرة الحلفاء الآسيويين على الثبات والتماسك في وجه الضغوط الداخلية والخارجية.
* مقال منشور في مجلة Foreign Policy، منشور في نيسان 2025، متاح على الرابط: https://foreignpolicy.com/2025/04/01/asia-trump-china-xi-hegseth-japan-south-korea-balance/



