الاكثر قراءةتحليلات و آراءغير مصنف
منطقة ترامب الإقتصادية في الجنوب اللبناني: مشروع لاحتواء المقاومة وتقويض السيادة

بقلم: د. محمد حسن سعد
رئيس معهد وورلد فيو للعلاقات الدولية والدبلوماسية
يحتل الجنوب اللبناني موقعاً إستراتيجياً متقدّماً في معادلات الصراع العربي (الإسرائيلي)، إذ ظلّ منذ عام 1948 ساحة مفتوحة للاجتياحات والاعتداءات (الإسرائيلية)، فمنذ إحتلال فلسطين وتشريد شعبها، أصبح الجنوب اللبناني الحدّ المباشر مع كيان الإحتلال (الإسرائيلي)، ما جعله خط التماس الأول مع كل المواجهات اللاحقة. وكانت بداية هذه المواجهات مع عملية الليطاني عام 1978، حين اجتاحت قوات الإحتلال (الإسرائيلية) الجنوب وصولاً إلى نهر الليطاني بحجة ضرب قواعد المقاومة الفلسطينية. وقد أدّت تلك الحرب إلى صدور قرار مجلس الأمن الدولي رقم 425 الذي طالب كيان الإحتلال (الإسرائيلي) بالانسحاب الفوري من الأراضي اللبنانية المحتلة ودعا إلى احترام سيادة لبنان، كما أنشأ قوات الأمم المتحدة المؤقتة (اليونيفيل) لمراقبة وقف إطلاق النار.
غير أنّ كيان الإحتلال (الإسرائيلي) تجاهل القرار، فتابع تدخلاته واعتداءاته حتى شن الاجتياح الكبير عام 1982 الذي وصل إلى بيروت، وأسفر عن احتلال أجزاء واسعة من لبنان دام حتى عام 2000. خلال تلك الفترة، نشطت المقاومة اللبنانية كحركة تحرر وطني ضد الإحتلال، وتمكّنت عبر عملياتها المتصاعدة من فرض معادلة استنزاف أجبرت كيان الإحتلال (الإسرائيلي) على الانسحاب من معظم الأراضي اللبنانية عام 2000، في أول انسحاب (إسرائيلي) يُنتزع بقوة المقاومة المسلحة لا عبر التفاوض.
لكن المواجهة لم تنتهِ هنا، ففي حرب تموز 2006، سعى كيان الإحتلال (الإسرائيلي) إلى تحطيم قدرات المقاومة، إلا أن النتائج جاءت عكسية، إذ تحوّل الجنوب إلى رمز للنصر اللبناني- العربي، حيث فشل كيان الإحتلال (الإسرائيلي) في تحقيق أهدافه العسكرية والسياسية. وهكذا، أصبح الجنوب اللبناني أكثر من مجرد جغرافيا حدودية، بل رمزاً للسيادة الوطنية ورفض الإملاءات الخارجية، وتجسيداً لفكرة أن التنمية والسيادة لا ينفصلان عن قوة الردع الضرورية والأساسية لدرء الأخطار الخارجية وفي طليعتها الإحتلال (الإسرائيلي).
في هذا السياق التاريخي، يكتسب أي مشروع يسعى إلى إعادة صياغة موقع الجنوب خطورته، خصوصاً إذا كان مشروعاً أميركياً جديداً يغطي أهدافه الإستراتيجية بشعارات “السلام” و”الازدهار”، وفي هذا السياق سرّب موقع أكسيوس (Axios) تفاصيل خطة أعدتها الإدارة الأميركية برئاسة دونالد ترامب، تحت مسمّى “منطقة ترامب الإقتصادية”، تقوم على إنشاء منطقة “تنموية” في الجنوب اللبناني بتمويل خليجي (سعودي ـــ قطري) وبإشراف أميركي مباشر. الهدف المُعلن هو تحويل الجنوب من ساحة مواجهة عسكرية إلى فضاء إستثماري يعزّز الاستقرار، أمّا الهدف الضمني، فهو إعادة صياغة موازين القوى الداخلية والإقليمية عبر تحييد المقاومة اللبنانية، وإعادة تعريف الدور الإستراتيجي للجنوب بما يخدم الأمن (الإسرائيلي) والمصالح الأميركية.
ورغم أن المشروع وفق موقع أكسيوس (Axios) يقدَّم بصفته مبادرة تنموية لتعزيز الاستقرار والازدهار، إلا أنه يحمل أبعاداً إستراتيجيةـــ سياسية وقانونية لا يمكن فصلها عن البيئة الإقليمية، وعن مفهوم السيادة وحقوق الشعوب في تقرير مصيرها، ويكمن إيجاز هذه الابعاد بما يلي:
أولاً: البعد السياسي والإستراتيجي
المشروع الأميركي المسمّى “منطقة ترامب الإقتصادية” لا يمكن فهمه بوصفه مبادرة إقتصادية بحتة، بل هو جزء من رؤية إستراتيجية مركبة تتجاوز البعد الإنمائي لتطال جوهر الصراع حول موقع الجنوب اللبناني ودوره في المعادلة الإقليمية. هذه الرؤية يمكن اجمالها على الشكل التالي:
-
يسعى المشروع إلى إعادة صياغة هوية الجنوب اللبناني وتحويله من جبهة مقاومة مفتوحة ضد كيان الإحتلال (الإسرائيلي) إلى منطقة إستثمارية تنموية مشروطة بالهدوء الأمني، هذه النقلة ليست تقنية أو إقتصادية فحسب، بل تعكس محاولة لإضعاف “الشرعية القتالية” التي راكمتها المقاومة على مدى عقود، من خلال طرح بديل “مغرٍ” يقوم على التنمية مقابل نزع سلاح المقاومة أو تحييدها.
-
يندرج المشروع ضمن المنظور الأميركي الأوسع لإدارة الأزمات في (الشرق الأوسط) عبر أدوات مالية وإقتصادية، بدلاً من التدخلات العسكرية المباشرة المكلفة، فبعد إخفاقات واشنطن في العراق وأفغانستان، تبدو “الوصاية الإقتصادية” أداة أكثر مرونة وفاعلية لإعادة هندسة الواقع السياسي للدول، من دون الغرق في مستنقعات الإحتلال العسكري المباشر.
-
على المستوى (الإسرائيلي)، يشكّل المشروع مكسباً إستراتيجياً مزدوجاً من جهة، إذ يحقق لكيان الإحتلال (الإسرائيلي) هدوءاً طويل الأمد على جبهته الشمالية من دون الحاجة إلى خوض حرب شاملة، ويدخل لبنان في نفق “السلام”، من جهة أخرى، يكرّس صيغة “التطبيع الإقتصادي” الذي يعفيها من أي التزامات جوهرية في الملفات العالقة مثل قضية اللاجئين الفلسطينيين، الأسرى اللبنانيين، أو الاعتداءات المتكررة على السيادة اللبنانية. والتي تزايدت بشكل غير مسبوق بعد الحرب الأخيرة على لبنان.
-
التمويل الخليجي المقترح (سعودي- قطري) ليس تفصيلاً ثانوياً، بل هو جزء من مشروع إقليمي أكبر لدمج لبنان قسرياً في منظومة ما يسمى “السلام الإبراهيمي”، فالمساعدات ليست مجانية، بل مشروطة بإعادة توجيه البنية الإقتصادية اللبنانية نحو الاندماج في سوق إقليمي تتحكم فيه الولايات المتحدة وكيان الإحتلال (الإسرائيلي)، مع إضعاف أي مقومات للإقتصاد المقاوم أو المستقل.
-
داخلياً، يضع المشروع الدولة اللبنانية أمام معادلة صعبة إما القبول بتنمية مشروطة تفكك وحدة السيادة الوطنية وتضرب التوازنات السياسية الداخلية، أو رفض المشروع وتحمل تبعات إقتصادية وضغوط سياسية من أطراف عربية ودولية نافذة. وهذا ما يجعل المشروع في جوهره “قنبلة سياسيةــ إستراتيجية موقوتة” أكثر منه خطة إنمائية بريئة.
ثانياً: البعد القانوني
من الناحية القانونية، يثير مشروع “منطقة ترامب الإقتصادية” في الجنوب اللبناني مجموعة من الإشكاليات الجوهرية التي تتجاوز البعد المحلي لتلامس أسس القانون الدولي العام:
1- السيادة الوطنية غير القابلة للتجزئة
تنص المادة الثانية الفقرة الأولى من ميثاق الأمم المتحدة بوضوح على مبدأ المساواة في السيادة بين الدول الأعضاء، وبالتالي فان أي صيغة لإنشاء منطقة إقتصادية تحت إشراف خارجي أو بتمويل مشروط، وخاصة إذا ارتبطت بترتيبات أمنية مع طرف معادٍ ككيان الإحتلال (الإسرائيلي)، تُعتبر انتهاكاً مباشراً لهذا المبدأ، وفي هذا الاطار نشير إلى محكمة العدل الدولية في رأيها الإستشاري حول ناميبيا (1971) التي أكدت أن أي شكل من أشكال السيطرة غير الطوعية على إقليم دولة عضو يتعارض مع القانون الدولي.
2 ـــ التنمية كحق سيادي مستقل
يُعدّ الحق في التنمية من الحقوق السيادية الأصيلة التي كرّسها القانون الدولي العام، وهو ما أكدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في قرارها رقم 3281 لعام 1974 (الميثاق الدولي للحقوق الاقتصادية للشعوب)، حيث اعتُبر أن التنمية تمثّل “حقاً غير قابل للتصرّف”، وأن ممارستها يجب أن تتم “بحرية كاملة ودون أي تدخل خارجي”. هذا التوصيف لا يقتصر على الإطار الأممي فحسب، بل ينسجم مع المبادئ الدستورية العامة التي تضع التنمية في قلب الممارسة السيادية للدولة باعتبارها امتداداً لحق تقرير المصير. وعليه، فإن محاولة ربط التنمية في الجنوب اللبناني بأي شرط أمني أو سياسي، سواء عبر فرض نزع سلاح المقاومة أو تحييدها، تُعتبر إخلالاً بالقاعدة الآمرة التي تضمن للشعوب سيادتها على مسارها التنموي، وانتهاكاً لمبدأ دستوري- قانوني مستقر في المنظومة الدولية.
3 ـــ خطر “الانتداب الإقتصادي“
إن المشروع المطروح يُثير إشكاليات قانونية وسياسية عميقة، إذ يحمل في جوهره سمات وصاية مقنّعة تقترب من أنماط الاستعمار الجديد (Neo-colonialism)، حيث تُمارَس السيطرة عبر الأدوات الاقتصادية والمالية بدلاً من الاحتلال العسكري المباشر. هذا النمط، وإن بدا “ناعماً، إلا أنه أكثر خطورة من الهيمنة التقليدية لأنه يغلّف التدخل الخارجي بشعارات التنمية والازدهار والاستقرار، وهو ما قد يفضي عملياً إلى تحويل الجنوب إلى نموذج انتداب اقتصادي جديد تُدار شؤونه من قبل قوى خارجية تحت غطاء تنموي.
4 ـــ مخالفة مبدأ تقرير المصير
إن حق الشعوب في تقرير المصير مكرّس بصورة صريحة في المادة الأولى المشتركة من كلٍّ من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والإجتماعية والثقافية لعام 1966، وقد أوضحت لجنة حقوق الإنسان في التعليق العام رقم 12 (1984) أن هذا الحق لا يقتصر على البعد السياسي المتمثل بالإستقلال أو إنشاء الدول، بل يمتد ليشمل البعد الإقتصادي والاجتماعي، أي حق الشعوب في السعي بحرية وراء تنميتها الإقتصادية والإجتماعية والثقافية دون تدخل خارجي. ومن هذا المنطلق، فإن مشروع “منطقة ترامب الإقتصادية” يضع المجتمع في الجنوب اللبناني أمام معادلة قسرية: إما القبول بتنمية مشروطة خاضعة لوصاية خارجية، أو مواجهة عزلة إقتصادية ممنهجة. إن هذا التوجه لا يعكس نزعة إنفصالية بأي حال، بل يتعارض مباشرة مع جوهر مبدأ تقرير المصير كما عرّفه القانون الدولي، أي حرية الشعوب في إدارة مواردها ومسارها التنموي ضمن سيادة الدولة اللبنانية ووحدتها الإقليمية.
5 ـــ تجاوز حدود الشرعية الدولية
من منظور قانوني أوسع، يُعيد المشروع إنتاج نماذج مشابهة لما جرى في الأراضي الفلسطينية المحتلة، حيث استُخدم مفهوم “السلام الإقتصادي” كغطاء لتكريس السيطرة (الإسرائيلية). فبدل معالجة جذر الإحتلال، جرى الترويج لمشاريع تنموية وإستثمارية بإشراف خارجي مباشر، هدفها امتصاص التوتر الإجتماعي وإبقاء السكان في حالة تبعية إقتصادية، دون منحهم أي قدرة فعلية على تقرير أولوياتهم التنموية أو ممارسة سيادتهم على مواردهم. النتيجة أن التنمية، بدل أن تكون أداة للتحرر، تحولت إلى وسيلة لإدامة السيطرة.
وبهذا المعنى، فإن مشروع “منطقة ترامب الإقتصادية” لا يمثل مجرد مبادرة للتنمية، بل يُخشى أن يشكل آلية جديدة للوصاية غير المباشرة. فهو يربط التنمية بشروط سياسية وأمنية خارجية، ويحوّل الجنوب إلى نموذج “انتداب إقتصادي ناعم”، تديره قوى خارجية بواجهة تنموية. إن هذا النمط لا يتعارض فقط مع مفهوم السيادة والتنمية المستقلة، بل يُعرّض مبدأ الشرعية الدولية نفسه للتقويض، إذ يُستخدم القانون الدولي كأداة لتبرير الهيمنة بدل أن يكون ضمانة لحماية حقوق الشعوب.
ثالثاً: السياق الإقليمي
لا يمكن قراءة مشروع “منطقة ترامب الإقتصادية” في الجنوب اللبناني بمعزل عن البيئة الإقليمية التي قد يتبلور داخلها، وهي بيئة معقدة تتسم بالتحولات المتسارعة على أكثر من جبهة، ويمكن ابرازها بما يلي:
-
الحرب على غزة وتداعياتها
الحرب الدائرة في غزة أعادت تثبيت معادلة مركزية: كيان الإحتلال (الإسرائيلي) عاجز عن فرض استقرار بالقوة العسكرية وحدها، ورغم التفوق العسكري النوعي، أثبتت المواجهة أن المقاومة ما زالت قادرة على إعاقة المشاريع (الإسرائيلية). في ضوء ذلك، يتجه كيان الإحتلال (الإسرائيلي) وحلفاؤه إلى البحث عن “مخارج إقتصادية” تتيح شراء الاستقرار من خلال مشاريع مثل “منطقة ترامب الإقتصادية”، بما يحوّل أدوات التنمية إلى بديل عن الحسم العسكري المستحيل.
-
إتفاقيات أبراهام والتطبيع الإقتصادي
مشروع “منطقة ترامب الإقتصادية” في الجنوب اللبناني هو امتداد مباشر لمسار التطبيع الذي دشّنته “إتفاقيات أبراهام” عام 2020 بين كيان الإحتلال (الإسرائيلي) وعدد من الدول العربية، فهذه الاتفاقيات لم تكن مجرد ترتيبات دبلوماسية، بل تضمنت مشاريع تعاون إقتصادي ـــ أمني عابرة للحدود. مشروع “منطقة ترامب الاقتصادية” يمثل محاولة لجرّ لبنان ولو بشكل جزئي إلى هذا المسار عبر بوابة التنمية المشروطة بالاستقرار الأمني.
-
تجارب “السلام الإقتصادي” السابقة
فكرة “منطقة ترامب الاقتصادية” ليست جديدة، إذ سبقتها تجارب مشابهة في العراق وأفغانستان، حيث فُرضت مشاريع إعادة إعمار ومناطق اقتصادية تحت إشراف خارجي مباشر. في العراق بعد عام 2003، أُعيدت صياغة البنية الإقتصادية عبر عقود الشركات متعددة الجنسيات والمؤسسات المالية الدولية، فتحولت التنمية إلى أداة لإدامة التبعية الإقتصادية بدل أن تكون وسيلة لاستعادة السيادة. وفي أفغانستان، جرى ربط التنمية بشروط أمنية وعسكرية فرضها الإحتلال الأميركي، ما جعل المشاريع التنموية جزءاً من إستراتيجية السيطرة، وليست مدخلًا لتمكين المجتمع المحلي.
إن هذا النمط من التدخلات يندرج، في الأدبيات القانونية، تحت ما يُعرف بـ “الوصاية الاقتصادية المقنّعة” (Economic Trusteeship)، حيث يُمارَس نفوذ خارجي مباشر على القطاعات الإقتصادية والمالية للدولة، لكن بغطاء مؤسسي أو تنموي يوحي بالشراكة. والنتيجة أن السيادة الإقتصادية تُفرغ من مضمونها، ويُعاد تشكيل القرار الوطني ضمن أطر تُحدَّد من الخارج.
وعليه، فإن المشروع المقترح في الجنوب اللبناني لا يُقرأ كتجربة تنموية طبيعية، بل كجزء من هذا النموذج العالمي للوصاية الإقتصادية، الذي يُغلّف الهيمنة بشعارات الازدهار والاستقرار، فيما جوهره إعادة هندسة المجال الإقتصادي لخدمة أولويات القوى الخارجية.
-
التوازنات الإقليمية في سوريا والعراق
لا يمكن فصل المشروع عن المشهدين السوري والعراقي، فكيان الإحتلال (الإسرائيلي) يسعى إلى تطويق محور المقاومة عبر أدوات متشابكة: “ممر داوود” في الجنوب السوري بعد سقوط النظام السوري، والضغط على خطوط الإمداد عبر العراق، وها هي اليوم تسعى إلى تحييد الجنوب اللبناني إقتصادياً. هذا الربط بين الجبهات الثلاث يوضح أن “منطقة ترامب الإقتصادية” ليست مجرد ملف لبناني، بل جزء من مشروع إقليمي متكامل لإعادة رسم الخريطة بما يضمن أمن كيان الإحتلال (الإسرائيلي).
-
عودة ترامب ونهج الصفقات
عودة الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض حملت معها عودة “نهج المقايضات” بدل المفاوضات المتعددة الأطراف، مشروع “منطقة ترامب الإقتصادية” في الجنوب اللبناني يندرج في هذا الإطار صفقة إقتصادية ـــ أمنية مقترحة، لا عبر الأمم المتحدة ولا عبر إطار تفاوضي جماعي، بل عبر مبادرة أميركية ثنائية تُفرض على لبنان تحت ضغط الواقع الإقليمي والدولي.
ختاماً:
إن مشروع “منطقة ترامب الإقتصادية” في الجنوب اللبناني لا يمكن النظر إليه كمبادرة تنموية معزولة، بل كجزء من مقاربة سياسيةـــ قانونية تهدف إلى إعادة صياغة موقع الجنوب ضمن منظومة الأمن (الإسرائيلي). ورغم تغليفه بخطاب الاستقرار والازدهار، فإن جوهره يقوم على المقايضة بين التنمية والسيادة، أي تحويل الحق السيادي للبنان في إدارة أراضيه إلى ورقة تفاوضية بيد واشنطن وتل أبيب.
من زاوية القانون الدولي، يضع المشروع لبنان أمام معادلة غير متوازنة: إما القبول بتنمية مشروطة تخضع لوصاية خارجية، أو رفضها وما يستتبع ذلك من ضغوط سياسية وإقتصادية، أما من الزاوية الإستراتيجية، فهو محاولة جديدة لإعادة رسم الجغرافيا اللبنانية بما يخدم مشروع “السلام الإقتصادي” الذي جُرّب في فلسطين، والذي أثبت أنه لا يُفضي إلى إستقرار دائم، بل إلى ترسيخ التبعية وإضعاف المجتمعات تمهيداً لتهجيرها.
إن التحدي الحقيقي يكمن في أن المشروع لا يستهدف الجنوب وحده، بل الهوية الوطنية اللبنانية بكاملها، عبر إعادة تعريف مفهوم التنمية، وتحويلها من حق سيادي إلى أداة ابتزاز. من هنا، فإن لبنان أمام مفترق طرق: إما الدفاع عن سيادته واختيار مسار تنموي مستقل ينسجم مع الشرعية الدولية وحق تقرير المصير، أو القبول بالانخراط في مشروع يُعيد إنتاج أشكال الوصاية والانتداب الإقتصادي بواجهة عصرية.
وبين هذين الخيارين، ستتحدد ملامح مستقبل لبنان، ليس فقط كدولة، بل كجزء من الخريطة السياسية (للشرق الأوسط) الجديد الذي يُرسم على نار حامية.



