الاكثر قراءةترجماتغير مصنف
أزمة إنسانية تتكشف في قطاع غزة .. إنجازات بايدن وأسباب الفشل

بقلم: جاكوب ج. لو وديفيد ساترفيلد
سفير الولايات المتحدة السابق في (اسرائيل)
ترجمة: صفا مهدي عسكر
تحرير: د. عمار عباس الشاهين
مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية
تشهد غزة أزمة إنسانية متفاقمة منذ انهيار وقف إطلاق النار بين (إسرائيل)* وحماس في اذار 2025، تدهورت الظروف بشكل حاد وأصبح احتمال انتشار المجاعة واسعاً وواقعياً، آلاف الحاويات التي تحتوي على مواد غذائية وإمدادات طبية ومواد للإيواء لا تزال عالقة عند المعابر الحدودية على كلا الجانبين بانتظار موافقة (إسرائيل) لدخول القطاع وضمان مرور آمن دون مصادرة من قبل المدنيين الغزاويين اليائسين أو سلطة حماس أو العصابات المسلحة داخل القطاع، ويجب إدخال مئات الشاحنات من المساعدات الغذائية يومياً لتجنب وقوع كارثة أوسع.
وبما أن مقاتلي حماس يعيشون ويحاربون في مناطق مدنية وفي أنفاق تحتها فقد قامت (إسرائيل) بالرد بطريقة تعرض ملايين الأشخاص للخطر، وقد عانى المدنيون في غزة من صعوبات وموت على نطاق لا يمكن تصوره منذ بداية الحرب فيما تكافح المنظمات الخارجية لتقديم المساعدات الإنسانية في ظل القتال المكثف والفوضى في بيئة حضرية مكتظة.
منذ البداية كان الرئيس الأميركي جو بايدن ثابتاً في دعم حق (إسرائيل) في الدفاع عن نفسها في غزة وهزيمة حماس كتهديد عسكري، ومع ذلك أوضحت إدارته التي خدمنا فيها أن على (إسرائيل) الالتزام بالحرص لتقليل الأذى المدني وضمان الوصول إلى الغذاء والرعاية الطبية والمأوى، وكنا نحن جاكوب لو كسفير للولايات المتحدة لدى (إسرائيل) وديفيد ساترفيلد كمبعوث خاص لقضايا الإنسانية في (الشرق الأوسط) نعمل على إيصال هذه المواقف الثنائية يومياً إلى القادة (الإسرائيليين) على جميع المستويات، كما ضغطنا على جميع الأطراف للتنسيق لضمان وصول ما يكفي من الإمدادات الحيوية إلى غزة وإن كان ذلك بشكل متقطع.
ظل النقص وعدم الاستقرار قائماً وبالأشهر التي تلت تشرين الاول 2023، وصف بعض المعلقين الوضع في غزة بأنه مجاعة، ومع أن نتائج جهودنا لم ترقَ إلى مستوى توقعاتنا أو توقعات منتقدينا فإن جهودنا في إدارة بايدن للحفاظ على وصول المساعدات الإنسانية إلى غزة منعت المجاعة، فخلال العام والنصف الأول من الحرب العنيفة لم يواجه الغزاويون مجاعة جماعية بفضل استمرار وصول المساعدات. أرسلت الولايات المتحدة خلال فترة عملنا مسؤوليين من وكالات متعددة لديهم الأدوات والقدرة على التأثير والإرادة لتحسين الوضع، والتزمنا بذلك رغم الظروف المعاكسة غالباً، ومع انهيار وقف إطلاق النار في اذار تغيّر كل شيء. بموجب شروط وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه في الأيام الأخيرة من إدارة بايدن في كانون الثاني 2025 سمحت (إسرائيل) بدخول كميات متزايدة من الإمدادات إلى غزة، لكن مع انهيار الهدنة أغلقت (إسرائيل) جميع قنوات الوصول الإنساني في محاولة للضغط على حماس للاتفاق على صفقة تبادل الرهائن وكانت هذه المرة الأولى التي تمنع فيها كل المساعدات منذ أواخر تشرين الاول 2023، واستمر الحصار الكامل لمدة 11 أسبوعاً وخلال هذه الفترة الحرجة اكتفت إدارة ترامب بالمراقبة بينما تقلصت الإمدادات الغذائية وزادت المعاناة، حتى أصبح واضحاً للرئيس أن الأزمة تجاوزت حدود المقبول سياسياً وأثارت غضباً حتى في قاعدة مؤيدي MAGA.
وعندما سمحت (إسرائيل) أخيراً بدخول كمية محدودة من المساعدات غيّرت نموذج توزيع الغذاء الأساسي متجاوزة غالباً الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية المعروفة لصالح عملية جديدة تسمى مؤسسة غزة الإنسانية، ومع استمرار عمل الأمم المتحدة واجهت صعوبات تشغيلية كبيرة وقيوداً متعددة، وكانت كمية الغذاء الشهرية التي وصلت من اذار إلى تموز نحو 20 ألف طن أي حوالي ثلث ما اعتبره برنامج الغذاء العالمي ضرورياً وتظهر المشاهد الأخيرة من غزة التي تتسم بالجوع الحاد وإمكانية المجاعة تدهوراً مقلقاً وسريعاً.
حتى عندما كانت المساعدات تصل قبل انهيار وقف إطلاق النار لم يكن ذلك حدثاً عشوائياً، فقد كان يتم تمريرها شاحنة تلو الأخرى وعبر كل معبر حدودي مع التغلب على التحديات السياسية والقتالية في كل خطوة، ومع مراقبة العالم للأزمة الحالية والمطالبة بحلول من المهم استخلاص الدروس من ما نجح وما فشل وتذكّر أن مسؤولية الحل تقع على جميع الأطراف، فالمخاطر عالية جداً بحيث لا يمكن السماح لأي ديناميات سياسية (إسرائيلية) أو عرقلة من قبل حماس أو العصابات المسلحة أو صراعات بين مزوّدي المساعدات أن تعرقل وصول المساعدات الحيوية، ويجب على واشنطن أن تتذكر أنها الوحيدة التي تمتلك الأدوات والقدرة على منع تصعيد الكارثة.
تحت الضغط
بعد هجمات 7 تشرين الاول كان الشعب (الإسرائيلي) في صدمة متأثراً بوحشية حماس وبفشل حكومته في حماية المواطنين، ورداً على الهجمات فرضت (إسرائيل) حصاراً كاملاً على غزة منع دخول أي مساعدات إنسانية عبر الطرق البرية، وقررت الحكومة (الإسرائيلية) أن يكون التواصل التجاري والمدني بين (إسرائيل) وغزة منعدمًا كسياسة رسمية، في تلك الأيام الأولى، كان من الشائع سماع (الإسرائيليين) يقولون “لن يذهب قطرة ماء ولا قطرة حليب ولا قطرة وقود من (إسرائيل) إلى غزة” وفي خضم الصدمة العاطفية كان هذا الشعور مفهومًا لكنه غير مستدام مع تزايد الاحتياجات الإنسانية. منذ البداية أوضح المسؤولون الأميركيون (لإسرائيل) ضرورة إيجاد طريقة لوصول الإمدادات المنقذة للحياة إلى القطاع مؤكدين أن ذلك واجب أخلاقي لا جدال فيه وأنه ضرورة استراتيجية تمنح (إسرائيل) الوقت لتحقيق مهمتها العسكرية في القضاء على تهديد حماس مع الحفاظ على الدعم الدولي وخصوصاً من الولايات المتحدة.
في 18 تشرين الاول 2023 زار بايدن (إسرائيل) لإظهار التضامن الأميركي بعد الهجمات ولإقناع الحكومة بالسماح للشاحنات بالدخول إلى مدينة رفح من مصر، وأكد لنتنياهو ومجلس الأمن القومي (الإسرائيلي) بشكل خاص وللرأي العام (الإسرائيلي) علنًا أن الولايات المتحدة تدعم (إسرائيل) وأن على (إسرائيل) ليس فقط الحق بل أيضاً الالتزام بضمان ألا تستطيع حماس تكرار هجماتها في 7 تشرين الأول، لكنه شدد أيضاً على أن الحملة العسكرية ضد حماس ستكون معقدة وحذر أن قدرة الولايات المتحدة على دعم العملية تعتمد على إطلاق حملة إنسانية فعّالة من قبل (إسرائيل) إذ بدونها لن تتوافر (لإسرائيل) الوقت أو المساحة اللازمة لتحقيق أهدافها العسكرية.
في تلك الفترة كانت الجروح (الإسرائيلية) ما تزال نازفة وكان التركيز على الدفاع ضد هجمات أخرى وكان على الحكومة العمل لتلبية الاحتياجات الإنسانية في غزة بينما تحتجز حماس رهائن وتستمر في إطلاق الصواريخ على (إسرائيل)، وكان شرح هذا الواقع للجمهور مهمة صعبة خاصة في ظل الديناميات السياسية داخل ائتلاف نتنياهو الذي يضم أحزابًا يمينية متطرفة كانت تحمل آراء هامشية في ذلك الوقت تتجاوز أهدافها مجرد هزيمة حماس لتشمل إعادة استيطان غزة بعد انسحاب ايلول 2005، وهو موقف لم يكن ممثلاً في الحكومة الرسمية لكن هذه الأحزاب كانت تهدد بإسقاط الائتلاف إذا اتخذت الحكومة قرارات تخالف مصالحها بما في ذلك فتح ممرات المساعدات الإنسانية.
في الوقت الذي عارض فيه بعض اليمينيين المساعدات الإنسانية شعر آخرون في الحكومة (الإسرائيلية) بالانزعاج عندما ذكّرناهم في الإدارة الأميركية بحق (إسرائيل) في الدفاع عن نفسها وواجبها الاستراتيجي لضمان وصول المساعدات إلى الغزاويين، وقد تطلب الوضع السياسي المعقد داخل الحكومة الأميركية متابعة نشطة ومستدامة لإدارة الديناميات الداخلية (الإسرائيلية) وضمان تدفق المساعدات بشكل كافٍ، وكانت رسالتنا للقيادات (الإسرائيلية) جوهرها “إذا كان الضغط السياسي صعبًا فلتلق اللوم على الولايات المتحدة”، وقد كان السماح لنتنياهو بالإشارة إلى ضرورة الاستجابة لمطالب أميركا أمراً حيوياً حينها ولا يزال كذلك اليوم إذ إن التزام بايدن بالدفاع عن (إسرائيل) أتاح لنا مساحة للضغط على الحكومة لتلبية الاحتياجات الإنسانية المتزايدة.
على الفور بعد زيارة بايدن وافقت (إسرائيل) على فتح معبر رفح لتسليم المساعدات من مصر، وفي البداية دخلت 20 شاحنة يوميًا فقط إلى غزة وهو ما كان بعيدًا عن تلبية الاحتياجات الإنسانية، وكانت بعض الصعوبات ناتجة عن أن معبر رفح صُمم للمشاة والسيارات الصغيرة وليس لقوافل الشاحنات الكبيرة مما زاد من التعقيدات اللوجستية. كما وضعت (إسرائيل) قيودًا على نوعية البضائع وعدد الشاحنات المسموح لها بالمرور (حوالي 75 شاحنة يومياً)، وللالتزام بقرار الحكومة بعدم السماح بأي حركة مباشرة للمساعدات من (إسرائيل) إلى غزة، كان يجب تفتيش الشاحنات عند المعبر الحدودي (الإسرائيلي)- المصري قبل التوجه إلى رفح مما تسبب في تأخيرات كبيرة.
فتح الممرات
رصدنا الحاجة إلى إيجاد طرق لزيادة حجم المساعدات وكان كبار المسؤولين الأميركيين يزورون (إسرائيل) بشكل متكرر للتشاور حول العمليات العسكرية الجارية وتكرار الرسالة بضرورة زيادة حجم المساعدات الإنسانية، في تشرين الثاني 2023 استغرقت محادثة فردية بين وزير الخارجية أنتوني بلينكن ونتنياهو أكثر من ساعة رغم أنها كانت مخصصة لبضع دقائق فقط بينما انتظر باقي أعضاء الوفد الأميركي ومجلس الحرب (الإسرائيلي) انتهاء الاجتماع، وخلال ذلك بدأنا مناقشات غير رسمية بما في ذلك مع يوآف غالانت وزير الدفاع آنذاك الذي أعلن بعد هجمات 7 تشرين الاول أن أي مساعدات لن تمر من (إسرائيل) إلى غزة لكنه بحلول ذلك الوقت أدرك ضرورة السماح بمزيد من المساعدات الإنسانية، وكان لديه تصور عن كيفية تنفيذ ذلك.
شرح غالانت لنا تعقيدات الحدود الجنوبية بين (إسرائيل) وغزة عند كرم شالوم موضحًا أنه يمكن تفريغ الشاحنات في غزة دون عبور الحدود فعليًا وأن الأبراج (الإسرائيلية) توفر مراقبة كاملة لضمان سلامة العملية، ورغم أن الخطة كانت غير واضحة بعض الشيء فإنها قدمت خارطة طريق لزيادة نقاط الدخول إلى جانب رفح، وتقليل الحظر الشامل على حركة المساعدات مباشرة من (إسرائيل) إلى غزة. في أوائل كانون الاول ومع تراجع الدعم الدولي (لإسرائيل) بعد احداث تشرين الاول رأينا فرصة لتطبيق الخطة، وكان الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش مستعدًا لاستخدام السلطة النادرة في المادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة لدفع مجلس الأمن للتصويت على قرار لوقف إطلاق النار فورًا، وكان على واشنطن أن تُظهر للمجتمع الدولي أن (إسرائيل) تتخذ خطوات لتلبية الاحتياجات الإنسانية وقد طلبنا عدة أيام للعمل مع وزارة الدفاع (الإسرائيلية) قبل أن تتخذ أي خطوات رسمية.
وكان مسؤولو وزارة الدفاع هم الأكثر إدراكًا لأهمية خطوط الإمداد الأميركية وقدرتها الاستراتيجية والدفاعية لدعم جهود (إسرائيل) في الحرب، وكما أبلغنا غالانت قبل أسابيع كان مستعدًا للدفاع عن موقف فتح كرم شالوم كمتوافق مع سياسة عدم التواصل المدني المباشر مع غزة، لكنه شخصيًا كان يدرك الحاجة الإنسانية الملحة وأهمية الحفاظ على الدعم الدولي (لإسرائيل) لا سيما من الولايات المتحدة. وفي مكالمة هاتفية منتصف الليل قلت له مباشرة “أنت تعرف أن هذا هو القرار الصحيح وخلال أيام قليلة ستكون الولايات المتحدة الدولة الوحيدة القادرة على استخدام الفيتو لمنع قرار مجلس الأمن الذي يضر (بإسرائيل)، عليك أن تساعدنا وتتصرف الآن لفتح كرم شالوم”، وأكد أنه سيطرح هذا الموقف.
في 8 كانون الاول استخدمت الولايات المتحدة الفيتو ضد قرار مجلس الأمن الذي لم يدن هجمات 7 تشرين الاول واعتبرت أن وقف إطلاق النار الفوري سيتيح لحماس الاحتفاظ بقدراتها العسكرية ويزرع بذور الحرب المقبلة وفي 15 كانون الاول أعلنت (إسرائيل) فتح معبر كرم شالوم، خلال الأشهر التالية أدى التواصل الأميركي المستمر غالبًا بمشاركة غالانت بشكل محوري إلى إقناع (إسرائيل) بفتح سلسلة من المعابر الإضافية إلى غزة بما في ذلك البوابة 96 في اذار ومعابر إيريز وزيكيم (إيريز غرب) في نيسان وايار ومعبر كيسوفيم في تشرين الثاني 2024. وكانت كل خطوة تتطلب دبلوماسية شاقة بما في ذلك توجيه رسائل صارمة جدًا من بايدن لنتنياهو بعد هجوم (إسرائيلي) على العاملين في المنظمات الإنسانية، فضلاً عن مواجهة مقاومة المتشددين في (إسرائيل) واحتواء أعمال عنف محتملة من الجماعات اليمينية المتطرفة والتغلب على صعوبات لوجستية وبيروقراطية، وعلى الجانب الآخر من كل معبر كان هناك المدنيون اليائسون والعصابات الإجرامية وحماس المستمرة.
ماذا تغيّر؟
بين الانتخابات الرئاسية الأميركية في تشرين الثاني 2024 ومرحلة الانتقال إلى إدارة جديدة في كانون الثاني 2025 عملت فرق بايدن وترامب بشكل متعاون للتوصل إلى اتفاق تهدئة وإطلاق سراح الرهائن، عند إتمام الصفقة تم الإفراج عن 33 رهينة وبدأت أكثر من 600 شاحنة يوميًا بالدخول إلى غزة ومع تراكم احتياطيات الغذاء بدا أن الوضع الإنساني يشهد تحسنًا ملحوظًا، وعلى عكس المخاوف من أن (إسرائيل) قد تمنع سكان غزة من العودة إلى منازلهم عاد مئات الآلاف إلى الجزء الشمالي من القطاع وكانت هذه العودة أحد شروط حماس الأساسية للإفراج عن الرهائن.
كان من المفترض أن يتدرج تنفيذ اتفاق التهدئة على مراحل بحيث تبدأ المفاوضات اللاحقة لإطلاق سراح جميع الرهائن مقابل تهدئة دائمة أثناء تنفيذ المرحلة الأولى، لكن تلك المفاوضات النهائية لم تكتمل وفي غضون ذلك تولت إدارة جديدة في واشنطن التي كانت أقل مشاركة في تفاصيل تسليم المساعدات، وبدأت أيضًا في تفكيك هيكلية المساعدات الأميركية العالمية. في شباط أطلق الرئيس دونالد ترامب تصريحًا مفاجئًا، اقترح فيه إعادة توطين جميع سكان غزة بينما تقوم الولايات المتحدة بإعادة إعمار القطاع، وقال خلال مؤتمر صحفي مشترك مع نتنياهو “ستتولى الولايات المتحدة قطاع غزة” وقدم رؤيته لما وصفه ب”ريفييرا (الشرق الأوسط)”.
بالطبع لم يُسأل سكان غزة عن رغبتهم في الرحيل ولا الدول الأخرى عما إذا كانت مستعدة لاستقبال مليوني لاجئ، في المؤتمر الصحفي بدا نتنياهو متفاجئًا بتصريحات ترامب ولم يتبنَّ الهدف تمامًا لكنه أشاد بـ”الرؤية الجريئة” للرئيس الأميركي بشأن غزة، وسرعان ما اتضح أن تصريح ترامب أسعد اليمينيين المتطرفين في (إسرائيل) ومنحهم شرعية سياسية ونفوذًا أكبر داخل الحكومة أكثر مما توقعوا، وفي دقائق تم تبرير الفكرة الهامشية لإعادة التوطين الجماعي القسري- وهي فكرة عمليًا غير قابلة للتنفيذ وأخلاقيًا مرفوضة وقانونيًا غير مقبولة من قِبل سلطة أميركية عليا ألا وهي الرئيس الأميركي نفسه.
في الأسبوع الأول من اذار بعد انهيار مفاوضات التهدئة أوقفت (إسرائيل) دخول كل المساعدات الإنسانية إلى غزة، وأعلن رئيس الوزراء للحكومة وللشعب (الإسرائيلي) أن “لا مساعدة ستذهب إلى حماس”، كان هذا القرار محوريًا إذ انعكس قلق حقيقي من تحويل المساعدات من قِبل حماس رغم أن حجم هذا التحويل لم يكن مثبتًا وأيضًا قائمًا على الفرضية القائلة إن حرمان غزة من الغذاء سيضغط على حماس لإطلاق سراح الرهائن المتبقين وتسليم أسلحتها، ومع نفاد مخزونات الغذاء نتج عن ذلك أزمة إنسانية غير مسبوقة، إذ بدأت علامات سوء التغذية تظهر على نطاق واسع لأول مرة. تحت الضغط ومع انتشار الصور التي أظهرت الوضع لا سيما من قبل ترامب والقوات (الإسرائيلية) اضطرت الحكومة (الإسرائيلية) للتحرك، وفي محاولة للتوفيق بين إعلان “عدم السماح بأي مساعدة” وبين الحاجة لاستئناف الإغاثة الإنسانية تخلت (إسرائيل) عن نظام تقديم المساعدات الذي كان قائمًا قبل انهيار التهدئة، وبدلاً من ذلك في ايار لجأت إلى مؤسسة غزة الإنسانية (GHF)، وهي منظمة غير حكومية جديدة مقرها الولايات المتحدة وسويسرا بدعم من (إسرائيل) والولايات المتحدة.
في تصورها الأصلي الذي جاء ضمن مفاوضات بين (إسرائيل) والإمارات العربية المتحدة كانت مؤسسة غزة الإنسانية تهدف للعمل في غزة ما بعد الحرب حيث تحافظ قوات دولية على الأمن وتدير إدارة انتقالية تضم الفلسطينيين والدوليين مع توزيع المساعدات مباشرة على المدنيين في مناطق آمنة، لكن عمليًا بدأ عمل المؤسسة في ظروف حرب مختلفة تمامًا، أقامت نقاط توزيع في عدد محدود من مناطق القطاع التي تسيطر عليها قوات الدفاع (الإسرائيلية) في الجنوب والوسط مما منحها وفق اعترافها- قدرة على توزيع حوالي 20% فقط من إجمالي الاحتياجات الغذائية لسكان القطاع. مع تصاعد اليأس بين المدنيين وتقارير عن وقوع إصابات ووفيات خلال السيطرة على الحشود من قبل وحدات الجيش (الإسرائيلي) المحيطة (وكذلك المقاولين العسكريين الخاصين المساعدين في التوزيع) واجه إطلاق المؤسسة العديد من المشكلات، حيث قُتل وأُصيب العديد من المدنيين أثناء محاولتهم الحصول على المساعدات سواء بسبب التدافع أو إطلاق النار من قوى مختلفة تشمل الجيش (الإسرائيلي) والعصابات الإجرامية.



