الاكثر قراءةتقدير موقفغير مصنف
دبلوماسية الأطراف البعيدة: كيف توظف (إسرائيل) اتفاق إسحاق لتعزيز موقعها في (الشرق الأوسط)؟

بقلم: نور نبيه جميل
باحثة في مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية
يتزامن (اتفاق إسحاق)، الذي أطلقه الرئيس الأرجنتيني خافيير ميلي في آب 2025 لتعزيز العلاقات بين (إسرائيل) وعدد من دول أمريكا اللاتينية، مع مرحلة تشهد تحولات جيوسياسية عميقة في النظام الدولي، وتحولات في خريطة التحالفات الإقليمية والدولية. فالمبادرة، التي استوحت اسمها من (اتفاقات أبراهام) الموقعة بين (إسرائيل) وعدة دول عربية عام 2020، تمثل نموذجًا لدبلوماسية “الأطراف البعيدة” اذ تسعى (إسرائيل) إلى مد جسور التعاون والترابط مع مناطق جغرافية تقع خارج نطاقها الإقليمي المباشر بما يخدم مصالحها، وأهدافها الاستراتيجية في (الشرق الأوسط). وتكمن أهمية هذه الخطوة في كونها تأتي وسط تزايد الضغوط الدولية وانتقادات الرأي العام العالمي تجاه سياسات (إسرائيل)، ولا سيما في سياق الحرب على غزة، ما يجعل الانفتاح على أمريكا اللاتينية أداة لتعزيز الشرعية الدولية وكسب التأييد في المحافل الأممية وإضفاء الطابع السياسي غير المباشر.
المحور الأول: الأهداف المعلنة وغير المعلنة
أولًا: الأهداف المعلنة
إرساء منصة تعاون عبر-إقليمية؛ اذ يسعى الاتفاق «إسحاق» إلى بناء إطار مؤسسي منتظم لتعزيز العلاقات بين (إسرائيل) ودول مختارة في أمريكا اللاتينية، بدأتها بالأوروغواي وبنما وكوستاريكا، مع نية توسيع النطاق خلال عام 2026 ليشمل البرازيل وكولومبيا وتشيلي وربما السلفادور. الفكرة المعلنة هي استعارة منطق «اتفاقات أبراهام» وتطبيقه خارج )الشرق الأوسط( لخلق قنوات دبلوماسية واقتصادية وثقافية أكثر عمقًا مع كتلةٍ لاتينية مما يوفر شركاء لهم أوسع على النطاق العالمي.
في ضوء ذلك يعزز توظيف تمويل مُخصص وبناء أدوات تنفيذيةاذ تؤسَّس المبادرة بتمويل أولي قدره مليون دولار من «جائزة جينيسِس» التي مُنحت للرئيس الأرجنتيني خافيير ميلي في القدس خلال حزيران 2025، على أن تُستخدم هذه الموارد لإطلاق برامج تبادل، ومذكرات تفاهم، وأنشطة تعريفية (Public Diplomacy) تُحفّز مشاريع تطوير الابتكار/التعليم وربط أعمال هذا التمويل يعطي للمبادرة رافعة تشغيلية مبكرة بدل الاكتفاء بالتصريحات، ويتيح مأسسة منصّة «أصدقاء اتفاقات إسحاق» كذراعٍ داعم.
كما يعمل الاتفاق لدعم البيئة السياسية والدبلوماسية( لإسرائيل) بمعنى ان المقصد المعلن يضمّ تحسين صورة (إسرائيل) وحشد شركاءٍ يُوازنون موجة الانتقادات الدولية، عبر توسيع قاعدة العلاقات خارج محيط الشرق الأوسط، خصوصًا مع حكومات تميل إلى التعاون الاقتصادي والتقني. يبرز هنا البعد الاتصالي من حملات رسائل، وفود، مؤتمرات لتحسين «المناخ التصويتي» في المؤسسات الدولية لا سيما في ظل الاعمال الاجرامية ضد الانسانية في غزة.
ثانيًا: الأهداف غير المعلنة
تتضمن الأهداف غير المعلنة، هندسة كتلة تصويتية في المنظمات الدولية اذ يُرجَّح أن أحد المقاصد الضمنية هو تشكيل كتلةٍ لاتينيةٍ أصغر لكن منسّقة تُخفّف حدّة القرارات المنتقدة (لإسرائيل) في الجمعية العامة ومجلس حقوق الإنسان، أو تُخفّف كلفتها الرمزية، عبر الامتناع المنسّق أو التصويت التحالفي. هذا هدف «تكتيكي–معياري» يرفد شرعية (إسرائيل) دوليًا حين يتراجع التأييد في قاعاتٍ أخرى.
كما يعمل على توسيع هوامش المناورة في (الشرق الأوسط) عبر دعم خارجي عبر تحسين التموضع الدولي خارج الإقليم ينعكس على توازنات (الشرق الأوسط) بطريق غير مباشر: كلّما تعزّزت شبكة الشركاء والاعتمادية المتبادلة في أسواقٍ وتقنياتٍ وتمويلاتٍ جديدة، زاد هامش الحركة السياسي والأمني (لإسرائيل) في ملفات الإقليم (التطبيع، الردع، إدارة الأزمات)، وتراجعت كلفة العزلة الدبلوماسية عليها.
وصولاً الى تأمين منافذ اقتصادية– تقنية وسلاسل قيمة استراتيجية بواسطة الانفتاح على اقتصاداتٍ لاتينية اذ يُتيح صفقات في التكنولوجيا والسايبر والطاقة والابتكار، وربما الوصول إلى سلاسل توريد ومعادن حرجة (كمنظومات البطاريات والانتقال الطاقي) بما يدعم القدرة الصناعية– الأمنية (الإسرائيلية) ويزيد قابلية الشركاء اللاتينيين للاستثمار المشترك.
إضافة إلى موازنة نفوذ خصومٍ ومنافسين في القارة ثمة ربح استراتيجي غير معلن يتمثّل في تخفيف أثر اصطفافاتٍ معاكسة داخل أمريكا اللاتينية سواء لدولٍ خفّضت علاقاتها أو تذهب نحو مواقف أكثر نقدًا من خلال خلق «تحالف مضاد» متماسك نسبيًا يُحسّن البيئة الإقليمية لصالح (إسرائيل). المقارنة التي ترد في التقارير بين مبادرة ميلي ومواقف بلدانٍ مثل بوليفيا وكولومبيا تعكس هذا البعد التوازني.
مما سبق تبرز الأهداف المعلنة بتركيزها على تعاون دبلوماسي– اقتصادي وتمويل مبدئي يضمن الإقلاع المؤسسي، فيما تشير الدوافع الضمنية إلى استخدام أمريكا اللاتينية كـ«رافعة خارج- إقليمية» لتحسين تموضع )إسرائيل( في بنية النظام الدولي، وتالياً تعزيز قدرتها على المناورة داخل الشرق الأوسط عبر شرعيةٍ أوسع، وهوامشٍ اقتصادية– تقنية أمتن، وبيئةٍ معيارية أقل عدائية.
المحور الثاني: الأبعاد الاستراتيجية لدبلوماسية الأطراف البعيدة
إعادة هندسة التحالفات خارج الإقليم تُشكّل مبادرة «اتفاق إسحاق» نموذجًا للدبلوماسية التي تبحث عن شبكات نفوذ بديلة خارج حدود (الشرق الأوسط) المباشرة. (إسرائيل)، من خلال التوجه نحو دول أمريكا اللاتينية، تسعى لإعادة ترتيب قواعد التحالفات الاستراتيجية، بحيث تصبح هذه الدول حليفةً ضمن سياق متعدد الأقطاب، يوازن الضغوط الإقليمية والدولية.
هذا التوجه يُظهر التكتيك لمشروع (إسرائيل) ضمن استخدام الدبلوماسية الاقتصادية والثقافية كأداة لتثبيت تحالفات غير تقليدية، ويعكس مبدأ الانتشار الاستراتيجي: توسيع النفوذ عبر أطر جغرافية بعيدة لتأمين موطئ قدم دبلوماسي وسياسي متين.
في ضوء ذلك فإن التوظيف التكتيكي للأدوات الاقتصادية والتكنولوجية حاضراً عبر تضمن الاستراتيجية (الإسرائيلية) عناصر اقتصادية وتقنية دقيقة، تهدف إلى تحويل المبادرة إلى شبكة مصالح متشابكة منها الاتي :
-
الاستثمار في التعليم والابتكار عبر مذكرات تفاهم وبرامج تدريب مشتركة يُخلق من خلالها تبادل معرفي وتقني مستدام.
-
الدبلوماسية الاقتصادية: فتح أسواق لتصدير التكنولوجيا (الإسرائيلية)، خصوصًا في مجالات الأمن السيبراني والطاقة المتجددة، ما يعزز مكانتها كطرف اقتصادي فاعل ويزيد اعتماد الشركاء على منتجاتها وخدماتها.
-
هذه الأدوات تعمل على تثبيت الشراكات بطريقة يصعب معها على أي طرف ثالث تفكيك العلاقة بسرعة.
مما يظهر أبعاد الأمن والسياسة الإقليمية اذ تتضمن الاستراتيجية بعدًا أمنيًا غير معلن:
توسيع شبكة الشركاء في أمريكا اللاتينية يقلل المخاطر المرتبطة بالعزلة السياسية ويُبقي خيارات متعددة في مواجهة تحركات خصومها في (الشرق الأوسط)، خصوصًا إيران.
كما يخلق إطارًا موازنًا يتيح )لإسرائيل( استباق تحركات القوى الإقليمية والدولية، من خلال النفوذ على قرارات وحوافز اقتصادية وسياسية في القارة اللاتينية. فضلاً عن دمج أدوات الأمن الناعم (التدريب، السياسات التقنية، مشاريع الابتكار) مع الدبلوماسية التقليدية يعزز القدرة الاستراتيجية على الردع غير المباشر.
الخلاصة تعد دبلوماسية الأطراف البعيدة استراتيجية إسرائيلية متكاملة قائمة على التوسع الخارجي، وتمثل استثمار الأدوات الاقتصادية والتكنولوجية، وجمع الرصيد السياسي والرمزي، وتوسيع الخيارات الأمنية. هذا التوجه يعكس مواصلة (إسرائيل) على موازنة نفوذ القوى الكبرى والمنافسين الإقليميين، وخلق شبكة دعم متينة خارج (الشرق الأوسط)، ما يمنحها مرونة أعلى في إدارة أزماتها وتحقيق أهدافها الاستراتيجية.
المحور الثالث: الانعكاسات على (الشرق الأوسط)
أولًا: إعادة ترتيب موازين القوة الإقليمية
اتفاق إسحاق يمنح (إسرائيل) قدرة على إعادة هندسة موازين القوة في الشرق الأوسط بطريقة غير مباشرة. من خلال تعزيز تحالفاتها الخارجية،اذ تستطيع (إسرائيل) تحييد الضغوط التقليدية الصادرة من بعض القوى الإقليمية، خصوصًا الوقوف بوجه الجمهورية الإسلامية الإيرانية ومصالحها الحيوية واستمرار الحرب غير المباشرة او الصراع الكامن ، عبر التأثير على السياسات الخارجية لدول ثالثة تدعم مواقفها أو توازن نفوذ القوى المنافسة.كما تسمح بخلق شبكة من العلاقات متعددة الأقطاب تمنح (لإسرائيل) التأثير على السياسات الإقليمية دون الحاجة للتدخل المباشر في النزاعات المحلية، ما يزيد من قدرتها على التدخل في أزمات المنطقة بشكل مستمر .
ثانيًا: تأثير على ملفات الصراع التقليدية
يمتلك اتفاق إسحاق انعكاسات واضحة على ملفات الصراع الإقليمي وهي كالاتي:-
-
ملف فلسطين والقدس: الشبكات الدولية التي تنشئها (إسرائيل) قد تُستخدم لتقليل الضغط الدولي على سياساتها في الضفة الغربية والقدس، عبر حشد دعم سياسي أو مواقف متوازنة في المنظمات الدولية للتغطية على مجمل العمليات الوحشية التي شهدتها المنطقة.
-
ملف الجمهورية الإسلامية الإيرانية: توسيع نفوذها في أمريكا اللاتينية يُعد جزءًا من استراتيجية عزل إيران سياسيًا ودبلوماسيًا، وتحد من قدرتها على تكوين تحالفات مؤثرة خارج محيطها المباشر وهذا يؤثر بشكل كبير على الحرب بين الطرفين.كما ان هذه الديناميكية تزيد من قدرة (إسرائيل) على المناورة في النزاعات الإقليمية، ما يغير الحسابات التقليدية للدول العربية الفاعلة.
ثالثًا: إعادة صياغة التحالفات الإقليمية
بعض الدول العربية قد ترى في اتفاقات إسحاق فرصة لإعادة توازن تحالفاتها، خصوصًا مع وجود قوى إقليمية ضاغطة، أو لتعزيز مصالح اقتصادية وأمنية مشتركة مع (إسرائيل) من دون تصعيد علني. بمعنى ان هذه الاتفاقات تعكس تحولًا نحو دبلوماسية غير تقليدية تقوم على الربط بين النفوذ الإقليمي والعالمي، ما قد يؤدي إلى إعادة ترتيب التحالفات التقليدية القائمة منذ عقود.
رابعًا: الأبعاد الاقتصادية والتكنولوجية في المنطقة
نشر التكنولوجيا الإسرائيلية، خصوصًا في مجالات الأمن السيبراني والطاقة المتجددة، قد يؤدي إلى تأثير مباشر على الاقتصاد الإقليمي من خلال زيادة التعاون المشترك أو المنافسة التقنية. والاستثمار في مشاريع الابتكار والتعليم بين (إسرائيل) ودول بعيدة يُمكن أن يُشكل نموذجًا اقتصاديًا وتحويليًا لبعض دول (الشرق الأوسط) التي تبحث عن فرص تنمية واستفادة من التجربة (الإسرائيلية). بمعنى انها تقدم نفسها كتجربة رائدة بطرق متنوعة.
خامسًا: التأثير على التوازن الاستراتيجي والردع
القدرة على التحرك في أطر دولية بعيدة تعطي (إسرائيل) امكانية الردع غير المباشر، حيث تستطيع من خلال شبكة دول ثالثة الضغط أو المساومة مع خصومها الإقليميين دون الانخراط المباشر في النزاعات. هذا يخلق نوع من فرض الحضور في (الشرق الأوسط)، يُعيد تعريف مبدأ القدرة على التأثير والردع في المنطقة، ويجعل التحالفات التقليدية أكثر مرونة في التعامل مع التهديدات.
الخلاصة:الانعكاسات الإقليمية لاتفاقات إسحاق تمتد إلى إعادة ترتيب موازين القوة، التأثير على ملفات الصراع التقليدية، إعادة صياغة التحالفات، والتحكم في أبعاد الاقتصاد والتكنولوجيا. هذه التحولات تمنح (إسرائيل) قدرة أكبر على المناورة والاستفادة من التحالفات البعيدة لتعزيز موقعها في (الشرق الأوسط)، ما يفرض على القوى الإقليمية إعادة النظر في استراتيجياتها التقليدية والتكيف مع واقع دبلوماسي متعدد الأبعاد.
الخاتمة
من خلال تحليل اتفاق إسحاق ودبلوماسية الأطراف البعيدة، يتضح أن (إسرائيل ) عملت على توسيع نفوذها السياسي والاقتصادي والتقني خارج حدود (الشرق الأوسط) التقليدية، ما يعزز قدرتها على المناورة في قضايا إقليمية حساسة.
هذه الاستراتيجية لا تقتصر على تعزيز مصالحها المباشرة، بل تُمكّنها من إعادة ترتيب موازين القوة الإقليمية، إدارة ملفات النزاع التقليدية، وإعادة صياغة التحالفات بما يخدم أهدافها الاستراتيجية على المدى الطويل. كما يظهر من المعلومات أن هذه المبادرة تمثل تجربة نموذجية في استخدام الدبلوماسية متعددة الأبعاد، حيث تمزج إسرائيل بين النفوذ الاقتصادي، التقني، الرمزي، والسياسي لتعظيم مصالحها وتقليل المخاطر.
التوصيات
-
متابعة التحولات الدبلوماسية بعين نقدية: على الدول العربية ودول (الشرق الأوسط) دراسة تأثير هذه المبادرات على سياساتها الإقليمية، وتقييم مدى الحاجة إلى استراتيجيات مواجهة .
-
تعزيز التحالفات الإقليمية: ينبغي على الدول الإقليمية مراجعة تحالفاتها التقليدية وربطها باستراتيجيات دولية جديدة، لتفادي عزلة محتملة أو تقليص النفوذ الإقليمي.
-
الاستفادة من الأدوات الاقتصادية والتكنولوجية: يوصى بالدول الإقليمية بالاستثمار في التعاون الاقتصادي والتقني مع شركاء دوليين لتعزيز القدرة التنافسية وتقليل الاعتماد على طرف واحد.
-
تطوير آليات الردع السياسي والدبلوماسي: من خلال تبني استراتيجيات دبلوماسية مبتكرة تعتمد على شبكة علاقات متعددة الأقطاب، يمكن للدول الإقليمية حماية مصالحها وتحقيق توازن استراتيجي مع القوى الخارجية.
-
تعزيز الدبلوماسية العامة والرمزية: على الدول الإقليمية استثمار أدوات الدبلوماسية الناعمة لتعزيز صورتها الدولية، ودعم مواقفها في المحافل الدولية، بما يوازن النفوذ الإسرائيلي المتنامي.
اخيراً: اتفاقات إسحاق تمثل نموذجًا متطورًا للدبلوماسية متعددة الأبعاد، تجمع بين النفوذ الخارجي والقدرة على إدارة النزاعات الإقليمية بطريقة مرنة وتكتيكية. على الدول الإقليمية إعادة النظر في استراتيجياتها التقليدية، وتبني أدوات مبتكرة لضمان توازن القوى وتحقيق مصالحها الوطنية في ظل ديناميكيات دولية متغيرة.



