الاكثر قراءةتحليلات و آراءغير مصنف

ممر داوود David’s Corrido : خطة ( إسرائيلية ) لإعادة رسم خريطة (الشرق الأوسط)

بقلم: د. محمد حسن سعد

رئيس معهد وورلد فيو للعلاقات الدولية والدبلوماسية/ الولايات المتحدة الامريكية

 

المقدمة:

في خضمّ التحولات الإقليمية المتسارعة، تبرز مشاريع كيان الإحتلال (الإسرائيلي) الإستراتيجية بوصفها أدوات لإعادة تشكيل الجغرافيا السياسية في المشرق العربي وفق رؤية أمنية واستيطانية توسعية، ومن بين هذه المشاريع، يبرز ما يُعرف بـ (ممر داوود)، وهو مخطط صامت يتجاوز حدود فلسطين التاريخية، ممتداً باتجاه العمق السوري، في إطار تطويق إستراتيجي لمحور المقاومة، ومحاولة رسم خطوط فصل طائفية وجيوسياسية جديدة.

تكتسب هذه الرؤية خطورتها في ظل تصاعد الأحداث في محافظة السويداء جنوب سوريا، حيث شهدت المنطقة وما زالت اضطرابات أمنية ومواجهات متقطعة، تغلّفها عناوين محلية، لكن تندرج في سياق إعادة التموضع الجيوبوليتيكي على وقع المشروع (الإسرائيلي) الصاعد. وتزايد وضوح هذا الارتباط مع الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء (الإسرائيلي) (بنيامين نتنياهو) إلى واشنطن،  والذي حمل معه حينها أجندة أمنية تشمل الموافقة الضمنية الأميركية على توسيع ما يسميه كيان الإحتلال (الإسرائيلي) “عمقه الأمني”، سواء في لبنان أو سوريا حتى بعد تغيير النظام السوري، تحت شعار مواجهة التهديد الإيراني.

هذه التطورات ليست منفصلة، بل تُكمل بعضها البعض، في ظل سعي (إسرائيلي) لتوظيف اللحظة الإقليمية والدولية، وإعادة إنتاج البيئة المحيطة بها وفقاً لمصالحها الأمنية والإستراتيجية، تحت غطاء دبلوماسي أميركي ودعم ضمني من قوى إقليمية تراهن على تفكك الدولة المركزية السورية. من هنا، تأتي أهمية تسليط الضوء على مشروع (ممر داوود) ليس كمجرد رؤية أمنية بل كجزء من هندسة سياسية أعمق تستهدف إعادة تفكيك المنطقة، وتحويل الأزمات إلى فرص (إسرائيلية) للتمدد والسيطرة.

 

ما هو ممر (داوود)؟ من حلم هرتزل إلى خرائط السيطرة الحديثة

(ممر داوود) أو David’s Corridor هو تصور إستراتيجي يُنسب إلى النخبة الأمنية والسياسية (الإسرائيلية)، ويهدف إلى إنشاء ممر بري يمتد من هضبة الجولان السورية المحتلة، مروراً بمحافظات الجنوب السوري مثل القنيطرة ودرعا والسويداء، وصولاً إلى البادية السورية وحتى معبر التنف الثلاثي عند حدود سوريا والعراق والأردن، ففي المرحلة الجديدة بعد سقوط النظام السابق في دمشق، يستغل كيان الإحتلال ( الإسرائيلي )حالة الفوضى المؤسساتية والانقسامات المناطقية لتثبيت موطئ قدم عميق في الجنوب السوري، في مشروع يتجاوز الحدود الأمنية ليطال إعادة تشكيل النظام الإقليمي.

تستمد الفكرة جذورها من أدبيات الحركة (الصهيونية)، لا سيما أفكار تيودور هرتزل الذي تحدث عن أهمية بناء نفوذ ممتد من البحر إلى مناطق إستراتيجية داخلية، كجزء من رؤية (إسرائيل الكبرى)، ويُقرأ الممر على أنه استمرار عملي لمبدأ السيطرة الجغرافية الأمنية، وتحقيق نوع من العمق الدفاعي خارج حدود فلسطين التاريخية. وقد دعمت هذه الرؤية دراسات لمراكز أبحاث إسرائيلية مثل “مركز القدس للشؤون العامة” و”مركز بيغن ــــ السادات”، والتي رأت أن الاضطرابات في سوريا تشكل فرصة تاريخية لإعادة صياغة التوازنات في الإقليم.

لم يعد المشروع يهدف فقط إلى تطويق نفوذ إيراني أو مقاوم كما كان يُروّج له سابقاً، بل صار يعكس رغبة (إسرائيلية) في ملء الفراغ السياسي والإداري الناجم عن غياب الدولة المركزية في سوريا، مستنداً إلى علاقات ناشئة مع قوى محلية، ودفعاً نحو تكوين شريط نفوذ أمني ـــ سياسي متصل بقاعدة التنف الأميركية شرقاً وبالجولان غرباً. ويمر الممر عبر مناطق ذات تركيبة طائفية متنوعة، ما يجعله أداة لإعادة تشكيل الانقسامات الداخلية، وتعزيز السيطرة غير المباشرة من خلال دعم شبكات نفوذ محلية، كما أنه يُعوّل في تنفيذه على تفاقم الانهيار الإقتصادي والخدماتي في تلك المناطق، بما يدفع سكانها إلى الارتهان لجهات أجنبية تحت شعارات الحماية والدعم والتنمية

ويُعَد هذا الممر من أدوات تفتيت وحدة الأراضي السورية عبر سياسات العزل الجغرافي والربط الانتقائي، ويرتبط بتحالفات مع أطراف محلية ناشئة، في مشهد جديد لسوريا ما بعد النظام السابق، حيث ينشط كيان (الإحتلال الإسرائيلي) في إستغلال الفرص الجيوسياسية وتوسيع حدود تأثيره خلف الستار.

الأهداف الإستراتيجية للمشروع

يُعد مشروع (ممر داوود) أحد أبرز تجليات العقيدة الأمنية والسياسية الإسرائيلية التي تقوم على مبادئ “تفكيك الخصم من الداخل” و”توسيع الحزام الأمني الإستراتيجي خارج الحدود”، ولا يمكن فصل المشروع عن مجمل الرؤية (الإسرائيلية) للشرق الأوسط بعد عقد ونيف من الحروب والاضطرابات التي أصابت بنية الدول الوطنية في المشرق العربي، ويمكن تلخيص الأهداف الإستراتيجية لهذا المشروع بالنقاط التالية:

1 ـــ تفكيك الدولة السورية وإنهاء المركزية السياسية في دمشق

من أبرز أهداف المشروع (الإسرائيلي) تقويض سلطة الدولة المركزية السورية الضعيفة في الوقت الراهن، ومنع قيامها عبر تسليط الضغوط الأمنية والديموغرافية والإقتصادية على أطراف الدولة، فامتداد الممر عبر الجنوب السوري باتجاه الشرق يهدف إلى خلق “فراغ جغرافي وسكاني” بين العاصمة دمشق وحدودها الجنوبية والشرقية، وإضعاف قدرة السلطات السورية على التحكم بمجريات الأحداث في تلك المناطق. هذا الشكل من التفكيك لا يتم عبر الإحتلال المباشر بل من خلال تغذية الصراعات الطائفية، وخلق سلطات أمر واقع ترتبط بالخارج.

2 ـــ إنشاء ممر أمني (إسرائيلي) ـــ أميركي متقدّم

يتيح (ممر داوود) السيطرة الفعلية أو غير المباشرة لكيان الإحتلال (الإسرائيلي) على منطقة شاسعة تمتد من الجولان إلى التنف، ما يخلق “وسادة أمنية” تحمي الحدود الشمالية لكيان الإحتلال (الإسرائيلي) وتشكّل حزاماً متقدماً ضد أي تحركات من قبل إيران أو حلفائها في سوريا ولبنان. كما أن قرب الممر من القواعد الأميركية في التنف، ووجود قوات “قسد” في الشمال الشرقي السوري، يربط شبكة من المصالح الأمنية بين واشنطن و (تل أبيب) ما يُمكّن كيان الإحتلال (الإسرائيلي) من المشاركة في إدارة المشهد السوري مستقبلاً دون تحمّل كلفة التورط المباشر.

3 ـــ تحقيق مراحل من رؤية (إسرائيل الكبرى)

المشروع ليس فقط ذا طابع أمني، بل يحمل في طيّاته بعداً عقائدياً يتماشى مع الرؤية التوراتية لـ (إسرائيل الكبرى) التي تمتد من نهر النيل إلى نهر الفرات. في هذا السياق، يُنظر إلى السيطرة على ممر جغرافي يصل الجولان بالبادية ثم بالفرات، كمقدمة جيواستراتيجية لبسط النفوذ باتجاه الشرق. السيطرة على هذا الممر، أو ضمان تحييده على الأقل، تُسهم في تقطيع أوصال ما تبقى من المحور الجغرافي بين إيران والعراق وسوريا ولبنان، بما يخدم مصالح (إسرائيل الكبرى) بأدوات تفكيكية لا بالضرورة عسكرية مباشرة.

4 ـــ إعادة تشكيل الخريطة العرقية والطائفية جنوب سوريا

يعوّل المشروع على الدفع نحو تعزيز النزعات الانفصالية أو الحكم الذاتي لدى مكونات محلية مثل الدروز في السويداء والأكراد في الشمال الشرقي، وتُطرح في أروقة التفكير الأمني (الإسرائيلي) احتمالات دعم هذه المكونات بالمال، والدعم اللوجستي أو السياسي، لقاء فصل مناطقهم عن سلطة دمشق الضعيفة. هذا من شأنه أن يؤدي إلى خلق “قوس من الكيانات الهشة”، تتّكل على الدعم الخارجي، وتكون أكثر استعداداً لعقد تفاهمات أمنية وإقتصادية مع (تل أبيب) لاحقاً.

5 ـــ احتواء النفوذ الإيراني ومحاصرته برياً

من خلال (ممر داوود)، يحاول كيان الإحتلال (الإسرائيلي) إحكام الطوق على خطوط إمداد إيران وحزب الله التي تمر عبر العراق وسوريا حتى بعد سقوط النظام السابق، وخاصة تلك التي تصل إلى الجنوب اللبناني عبر البقاع، بالتالي، فإن الهدف الأبعد للمشروع هو حرمان محور المقاومة من حرية الحركة اللوجستية، وزرع “كمائن جغرافية” على طول الطرق الممتدة من طهران إلى بيروت.

6 ـــ خلق أمر واقع جديد يُكرّس الانقسام السوري

إن استكمال (ممر داوود) يعني ترسيخ خارطة جديدة لسوريا، تتقاسمها ثلاث قوى رئيسية: مناطق خاضعة للسلطة السورية، ومناطق تحت النفوذ الكردي ـــ الأميركي، ومناطق خاضعة لنفوذ أمني ـــ استخباراتي (إسرائيلي)غير معلن. بذلك، يتحول الجنوب السوري إلى منطقة شبه معزولة عن دمشق، ما يُكرّس الانفصال بحكم الأمر الواقع ويضعف فرص وحدة الدولة السورية مستقبلاً.

الخطوات العملية على الأرض

لم يعد مشروع (ممر داوود) مجرّد فكرة جيوسياسية أو طرحاً نظرياً ضمن أدبيات الأمن القومي (الإسرائيلي)، بل انتقل إلى مرحلة التطبيق العملي عبر سلسلة من الخطوات المدروسة التي يجري تنفيذها تدريجياً على الأرض، سواء بشكل مباشر عبر الجيش (الإسرائيلي)، أو غير مباشر عبر الحلفاء المحليين والقوى الدولية المتقاطعة مع المشرو، ويمكن اجمال الخطوات العملية لمشروع (ممر داوود) على الأرض وفق ما يلي:

 

1 ـــ التوغلات الميدانية في الجنوب السوري

شهدت السنوات الأخيرة تزايداً لافتاً في عدد التوغلات (الإسرائيلية) على امتداد الجنوب السوري، وبخاصة في محيط القنيطرة وريف درعا الغربي، فالتقارير الدورية صادرة عن قوات الأمم المتحدة لمراقبة فضّ الاشتباك  (UNDOF)  وثّقت “انتهاكات خطيرة” لخط وقف إطلاق النار المرسوم بموجب إتفاقية عام 1974، بما يشمل عمليات زرع أجهزة مراقبة، وبناء نقاط استطلاع ثابتة، ونشر طائرات مسيّرة تقوم بمهام تجسسية مستمرة على عمق 20 كيلومتراً داخل الأراضي السورية، كما ترددت تقارير عن دوريات راجلة ومركبات (إسرائيلية) تعمل في مناطق منزوعة السلاح، ما يشير إلى وجود خطة أمنية تتجاوز الردع الدفاعي التقليدي وتذهب نحو التثبيت الميداني لنفوذ أمني مستقر.

هذه التحركات لا تهدف فقط إلى تأمين الحدود بل تسعى إلى تأسيس عمق أمني متقدّم يمكن البناء عليه مستقبلاً كممر بري دائم أو منطقة عازلة وظيفية تخضع للنفوذ (الإسرائيلي)بشكل غير رسمي.

2 ـــ تحريض الطائفة الدرزية وإعادة إنتاج المشهد الطائفي

تكررت خلال الفترة المنصرمة عقب سقوط النظام السوري السابق التصريحات (الإسرائيلية)التي تزعم “الحرص على سلامة الطائفة الدرزية” في محافظة السويداء، لا سيما في كل مرة كان يُطرح فيها احتمال دخول الجيش السوري الجديد والجماعات المسلحة المتحالفة معه إلى بعض المناطق الخارجة عن سيطرة الدولة الجديدة كما يشير اليها قادة سوريا الجدد. هذه التصريحات، الصادرة من أعلى المستويات السياسية والأمنية في (تل أبيب)، فُهمت على نطاق واسع على أنها محاولة لتحريض الدروز ضد الدولة السورية الجديدة، وتحويلهم إلى عنصر توازن محلي يخدم رؤية التقسيم.

وقد ترافقت تلك التصريحات مع تقارير إعلامية تشير إلى تواصل غير مباشر عبر وسطاء، ودعم غير معلن لبعض الفصائل المسلحة في جبل العرب، وهو ما ساهم في خلق حالة من التوتر بين السويداء ودمشق، قبل اندلاع المعارك بين الطرفين، حين بدأت مؤشرات تفكك العلاقة تظهر علناً على خلفية الأوضاع السياسية المتوترة الإقتصادية المتدهورة والانفلات الأمني، فضلاً عن ان الفصائل المسلحة خارج سلطة دمشق الجديدة عبرت عن عزمها على دخول السويداء ومناطق أخرى ذات غالبية درزية ووعيدها لهم في مشهد ينذر بتكرار ما حصل مع العلويين في منطقة الساحل وغيرها، وهو ما حصل بالفعل، حيث امعنت هذه الفصائل المسلحة قتلاً وحرقاً وسبياً ولا زالت حتى الوقت الراهن، في ظل ضعف الدولة السورية الجديدة ومحدودية قدرتها عن ضبط الاوضاع الامنية ومحاسبة القتلة ومنتهكي القانون كما توعد رئيس المرحلة الانتقالية أحمد الشرع في أكثر من مناسبة وخطاب له.

بهذا، يسعى كيان الإحتلال (الإسرائيلي) إلى إعادة تشكيل المشهد الطائفي جنوب سوريا، عبر استخدام الدروز كـ”حزام فصل” عن الدولة المركزية، تماماً كما استخدمت الكرد في الشمال الشرقي السوري.

3 ـــ تحالف إستراتيجي مع القوى الكردية في الشمال الشرقي

العلاقة بين كيان الإحتلال (الإسرائيل) وبعض القيادات الكردية ليست جديدة، لكن ما تغيّر في السنوات الأخيرة هو العلنية المتزايدة في التصريحات والدعم الرمزي، بل وحتى في طرح مشاريع التعاون التجاري المستقبلي.

فقد عبّر مسؤولون (إسرائيليون) في أكثر من مناسبة، عبر مقالات وتحليلات رسمية وشبه رسمية، عن تقديرهم للدور الذي يلعبه الأكراد في “ضبط التوازن الإقليمي” و”محاربة النفوذ الإيراني”، كما تم تسريب وثائق تفيد بوجود مقترحات لفتح طرق تجارية، ولو عبر أطراف ثالثة، بين مناطق الإدارة الذاتية في الحسكة ودير الزور من جهة، والمناطق الخاضعة لنفوذ (إسرائيلي) عبر البادية من جهة أخرى.

هذه الخطوة تهدف إلى تحويل الممر من كيان عسكري ـــ أمني إلى ممر لوجستي ـــ إقتصادي، يربط بين الشمال الشرقي (الكردي ـــ الأميركي) والجنوب الشرقي (الإسرائيلي ـــ الأميركي) ضمن مشروع تطويق إستراتيجي لمنع قيام الدولة المركزية السورية القوية، وخنق خطوط الإمداد الإيراني المستمرة للمقاومة في لبنان حتى بعد سقوط النظام السوري، وخلق شبكة حلفاء محليين يمتلكون الحد الأدنى من القدرة على البقاء الإقتصادي دون الاعتماد على دمشق.

التحديات والانتقادات

رغم ما يبدو أنه طموح إستراتيجي بعيد المدى في مشروع (ممر داوود)، فإن تنفيذه يواجه طيفاً واسعاً من التحديات البنيوية والاعتراضات الجيوسياسية التي قد تجعل من المشروع عبئاً إستراتيجياً أكثر مما هو مكسب ميداني لكيان الإحتلال (الإسرائيلي)، وتتنوع هذه التحديات بين معارضة إقليمية مباشرة، وضغوط دولية معقدة، وعقبات داخلية قد تقوّض استدامة أي مكاسب على الأرض التي نوجزها على النحو التالي:

1 ـــ المعارضة التركية: تهديد أحمر لا يُستهان به

ترى تركيا في المشروع تهديداً مباشراً لأمنها القومي، خصوصاً إذا ما اقترن بأي تمدد كردي مدعوم من الولايات المتحدة أو كيان الإحتلال (الإسرائيلي) في الجغرافيا السورية، فأنقرة تعتبر أن أي ربط جغرافي بين الجنوب السوري (السويداء ـــ التنف) والشمال الشرقي الكردي يشكل منطقة عازلة معادية تفصلها عن العمق العربي وتمنح الأكراد نفوذاً غير مسبوق.

وقد حذرت مصادر دبلوماسية تركية أكثر من مرة من أن “أي رسم جديد لحدود النفوذ في الجنوب السوري دون التشاور مع أنقرة سيواجه رداً مباشراً”، وهو ما فُهم كإشارة إلى إمكانية تدخل عسكري تركي مباشر عبر خطوط تماس البادية، أو عبر استهداف مواقع قسد والحلفاء (الإسرائيليين) بطريقة غير مباشرة.

2 ـــ الواقع المالي والضغوط الداخلية في كيان الإحتلال (الإسرائيلي)

يواجه كيان الإحتلال (الإسرائيلي) مع استمرار حرب غزة أزمة إقتصادية عميقة، انعكست بوضوح في مؤشرات الركود، ومعدلات البطالة، وارتفاع كلفة المعيشة، فالإقتصاد الحربي استهلك قدرات الدولة، لا سيما في مجال الإنتاج العسكري والتعويضات، ناهيك عن تراجع ثقة المستثمرين.

تنفيذ مشروع ضخم كـ (ممر داوود) يتطلب تمويلاً هائلاً لوجستياً وأمنياً، يشمل البنى التحتية، الدعم اللوجستي للفصائل المحلية، ونفقات التحكم بالمناطق ذات الطابع المعادي، ففي ظل هذه الظروف، يزداد التساؤل: هل يستطيع كيان الإحتلال (الإسرائيلي) تحمل كلفة مشروع طويل الأمد متعدد الجبهات، في وقت يعاني فيه المجتمع (الإسرائيلي) من انقسامات سياسية حادة وانهيار الثقة بالحكومة؟

هذه الضغوط تجعل من المشروع عبئاً داخلياً، وقد تدفع النخبة السياسية (الإسرائيلية) لإعادة النظر في أولوياته ضمن أجندة ما بعد غزة.

3 ـــ مقاومة داخلية وأزمة لوجستية متوقعة

لا يملك كيان الإحتلال (الإسرائيلي) تفويضاً دولياً أو محلياً لإعادة ترسيم حدود السيطرة جنوب سوريا، فأي توغل عملي في هذه المناطق سيُقابل عاجلاً أم آجلاً بمقاومة شعبية ومسلحة من قوى محلية ترى في التدخل (الإسرائيلي) تهديداً مباشراً لهويتها ومصالحها.

كما أن الطبيعة الجغرافية الصعبة (الجبال، البادية، الطرق الوعرة) تجعل من المشروع كارثة لوجستية محتملة، لا سيما في حال انقطاع خطوط الإمداد أو حصول هجمات من فصائل المقاومة. إضافة إلى ذلك، فإن الاعتماد على بعض القوى المحلية (دروز، أكراد، وعشائر على نمط الصحوات في العراق) لا يضمن الولاء الدائم، خاصة في ظل تعقيد المشهد الطائفي والقبلي.

هذا الواقع قد يؤدي إلى ما يُعرف في الأدبيات الجيوسياسة بـ”الاستنزاف الإستراتيجي”، حيث تكون كلفة الاحتفاظ بالمكاسب أعلى بكثير من كلفة الحصول عليها.

آفاق المشروع المستقبلية

رغم التحديات البنيوية التي تعترض تنفيذ مشروع (ممر داوود)، فإن هناك تصوّرات إستراتيجية لدى بعض مراكز القرار (الإسرائيلي) والغربي ترى في هذا المشروع أداة يمكن توظيفها لاحقاً في حال حصول انفراج إقليمي أو إعادة رسم التوازنات الجيوسياسية في الشرق الأوسط.

ويمكن تلمس  الآفاق المستقبلية للمشروع التي تتفرع إلى عدة مسارات نوجزها على الشكل التالي:

1 ـــ تحويل الممر إلى جيوب نفوذ تحت غطاء أميركي ـــ (إسرائيلي)

في ظل تواجد القاعدة العسكرية الأميركية في منطقة التنف عند المثلث الحدودي السوري ـــ العراقي ـــ الأردني، يُحتمل أن يتحول المشروع إلى شبكة من “الجيوب الأمنية” المتصلة جغرافياً تحت حماية غير مباشرة من كيان الإحتلال (الإسرائيلي)والولايات المتحدة.

هذه الجيوب قد تضم مناطق من السويداء ودرعا والقنيطرة، وتُدار بواجهات محلية درزية أو عشائرية أو حتى مدنية، لكنها تعمل ضمن مظلة استخباراتية ـــ أمنية (إسرائيلية) أمريكية.

الهدف من هذا النموذج هو تحقيق عمق إستراتيجي دون إعلان سيطرة مباشرة، ما يُتيح لكيان الإحتلال (الإسرائيلي) مجالاً للمناورة دون الاصطدام بالقانون الدولي أو بردّات فعل دولية وإقليمية حادة.

2 ـــ التحكم في عقد التجارة والنفوذ الإقتصادي على الأردن والعراق

بفضل الموقع الجغرافي للممر، فإنه يُشكل شرياناً برياً يمكن أن يربط كيان الإحتلال (الإسرائيلي) مباشرة بالأسواق الأردنية والعراقية، خصوصاً إذا ما تم دعم هذا المشروع لاحقاً عبر ممر تجاري آمن برعاية دولية.

مثل هذا السيناريو يفتح الباب أمام مشاريع “تكامل إقليمي بديل” خارج إطار سوريا الرسمية، وهو ما يساهم في إضعاف الدولة المركزية في دمشق وتوجيه التجارة والطاقة والنقل عبر مسارات جديدة تتحكم بها (تل أبيب)

كما يمكن مستقبلاً تحويل هذا الممر إلى منصة لوجستية لتعزيز التبادل التجاري مع الخليج، عبر طرق تتقاطع مع “مشروع الهند ـــ الشرق الأوسط ـــ أوروبا” الذي تدعمه واشنطن.

3 ـــ إعادة تشكيل الخرائط الديمغرافية

قد يسعى كيان الإحتلال (الإسرائيلي) وفقاً لبعض الرؤى إلى تعديل تدريجي للواقع الديمغرافي في المناطق التي يمر بها الممر، سواء عبر تحفيز الترحيل الجماعي أو التهجير القسري، أو دعم كيانات محلية طائفية ـــ قومية، أو عبر دعم استيطان إقتصادي يخلق حقائق جديدة. هذه المناطق التي يُحتمل استهدافها تشمل:

  1. عفرين: بوصفها منطقة كردية غنية بالمياه والموارد.

  2. الرقة: لوقوعها عند تقاطع مهم بين شرق الفرات وشمال البادية.

  3. محيط السويداء: لاستثمار الخصوصية الدرزية في خلق نموذج “إستقلال لامركزي” أو حتى “فيدرالي موجه”.

هذا التعديل لا يكون دائماً مباشراً، بل عبر تأطير الفاعلين المحليين ليقوموا بالمهمة ضمن مشاريع تنموية وخدماتية تبدو محلية الطابع لكنها تخدم الرؤية( الإسرائيلية) الأوسع.

4 ـــ التفاعل الإقليمي والدولي: فرص التطبيع كرافعة جيوسياسية

نجاح المشروع في المدى البعيد مشروط بمدى الانخراط الخليجي في التطبيع مع كيان الإحتلال (الإسرائيلي)، فكلما اتسعت رقعة التطبيع، سواء مع السعودية أو إعادة تنشيطه مع الإمارات والبحرين، كلما أصبحت مشاريع مثل ممر داوود جزءاً من “إعادة هندسة الشرق الأوسط”.

كما أن مصر، بحكم حدودها المشتركة مع كيان الإحتلال (الإسرائيلي) والأردن، يمكن أن تكون طرفاً في أي صفقة إقليمية تشرعن أو تُغض الطرف عن التمدد (الإسرائيلي) في العمق السوري.

هذا التفاعل يجب أن يواكب أيضاً بتفاهم ضمني مع الولايات المتحدة، سواء في إدارة الملف السوري أو في إطار مشاريع الطاقة والتجارة الإقليمية.

الخلاصة

إن مشروع (ممر داوود) لا يمكن النظر إليه باعتباره مجرد مبادرة أمنية ظرفية أو تمدد ميداني عابر، بل هو ترجمة متقدمة لعقيدة جيوسياسية (إسرائيلية) مركّبة تجمع بين البعد العسكري، والأيديولوجي، والإستراتيجي. إنه يتقاطع مع ثلاثة محاور رئيسية تُشكّل مجتمعة جوهر التفكير (الإسرائيلي) في مرحلة ما بعد “الربيع العربي”:

العقلية العسكرية ـــ الجغرافية الاستيطانية:

تعكس فكرة الممر تمسك كيان الإحتلال (الإسرائيلي) بـ”عقيدة العمق الدفاعي”، التي ترى أن الأمن لا يتحقق إلا بامتلاك فضاء جغرافي أوسع من حدودها المعترف بها دولياً. وهذا ما يفسر سعيها المستمر للتمدد إلى داخل الأراضي السورية، خصوصاً في الجنوب الشرقي، وخلق مناطق عازلة سواء عبر التواجد العسكري المباشر أو عبر تحالفات مع مجموعات محلية موالية.

الرؤية التوسعية لـ (إسرائيل الكبرى):

يأتي المشروع ضمن سردية توراتية ـــ أيديولوجية تعتبر أن حدود كيان الإحتلال (الإسرائيلي) الطبيعية يجب أن تمتد “من النيل إلى الفرات”، وفق ما عبّر عنه قادة صهاينة مراراً، ومن بينهم (بنيامين نتنياهو) في كتابه “مكان تحت الشمس”.

هذا المشروع لا يعني بالضرورة الإحتلال المباشر، بل السيطرة غير المباشرة على مفاصل الأرض، والمعابر، والحدود، عبر أدوات حديثة تشمل الأمن، الإقتصاد، التكنولوجيا، والتحالفات الديمغرافية.

استثمار فوضى ما بعد حرب سوريا لترميم الخرائط:

يدرك صناع القرار في (تل أبيب) أن ما جرى في سوريا منذ عام 2011 أتاح فرصاً غير مسبوقة لإعادة رسم الجغرافيا السياسية للدولة السورية.

ومن هنا، يأتي (ممر داوود) كخطوة في اتجاه منع قيام “الدولة المركزية الدولة السورية” أو “تفكيك البنية المركزية للدولة السورية” ان وجدت وتحويلها إلى كانتونات ضعيفة قابلة للتوجيه الخارجي، في مقابل تعزيز قوى محلية تسير في الفلك (الإسرائيلي) أو الغربي.

وفي هذا السياق، فإن المشروع لا يُقاس فقط بمآلاته المباشرة، بل بقدرته على فرض وقائع جديدة تدريجياً، في الجغرافيا والديمغرافيا والسيادة، ورغم التحديات الجسيمة التي يواجهها من معارضة تركية شرسة، وحذر روسي، وتكلفة مالية مرتفعة، إلا أن (ممر داوود) يشكل منعطفاً حاسماً في الهندسة الجديدة للمنطقة.

فهو يمثل أداة إعادة تشكيل خرائط النفوذ في المشرق العربي، بما يتجاوز الصراع السوري نفسه، ليمتد إلى العراق والأردن، وربما الخليج، عبر روابط أمنية ـــ إقتصادية تُدار من خلف الستار.

والأخطر من ذلك، أنه قد يتحول إلى نموذج قابل للتكرار في مناطق أخرى تشهد هشاشة مماثلة، مما يهدد الوحدة الجغرافية والسياسية للعالم العربي برمته.

Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?

Reload Reload document
| Open Open in new tab

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى