الاكثر قراءةترجماتغير مصنف
إخفاق أميركي في حرب المسيّرات عندما تُكبّل العقيدة العسكرية روح الابتكار

بقلم: جاكلين شنايدر وجوليا ماكدونالد
ترجمة: صفا مهدي عسكر
تحرير: د. عمار عباس الشاهين
مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية
قبل عقدٍ من الزمن فقط كانت الولايات المتحدة تتصدر العالم في ابتكار تقنيات الطائرات المسيّرة مستخدمةً طائرات “بريديتور” و”ريبر” في تنفيذ عمليات استهداف وقتل لعناصر إرهابية في دول بعيدة، الا أنّ ما أظهرته الحملات العسكرية الأخيرة لكل من (إسرائيل)** وروسيا وأوكرانيا يبيّن بوضوح أن ثورة جديدة في عالم المسيّرات قد بدأت بالفعل، فبعد أن كانت الطائرات المسيّرة أدوات باهظة الثمن تُدار عن بُعد لأغراض الضربات الدقيقة والاستطلاع الاستراتيجي بات بالإمكان اليوم الحصول عليها بمئات الدولارات فقط وهي تؤدي طيفًا واسعًا من المهام بدءًا من الاستطلاع الميداني ووصولًا إلى إيصال الدم والأدوية للجنود المصابين على الخطوط الأمامية.
تسعى جيوش العالم حاليًا إلى إدماج هذا الجيل الجديد من الطائرات المسيّرة في مختلف جوانب القتال، فقد استخدمت كل من (إسرائيل) وأوكرانيا طائرات ذات عرض مباشر من منظور الطيار (FPV) في تنفيذ هجمات داخل أراضي العدو بينما اعتمدت روسيا على أسراب من الطائرات الانتحارية والصواريخ والقنابل الموجهة لاستهداف البنى التحتية الأوكرانية لا سيما منشآت الطاقة والتصنيع، وعلى الخطوط الأمامية تستخدم كل من موسكو وكييف طائرات مسيّرة صغيرة وذخائر جوّالة لتدمير الجنود والدبابات والمعدات اللوجستية إلى جانب توظيف هذه التقنيات في عمليات الإمداد وإخلاء الجرحى ورصد تحركات العدو، لم تعد هذه الطائرات تُسيّر من قواعد بعيدة بل أصبحت جزءًا لا يتجزأ من تكتيكات القتال الميداني سواء من داخل الخنادق أو عبر تهريبها إلى عمق مناطق العدو.
في المقابل تبدو الولايات المتحدة وكأنها قد تخلفت عن هذه الثورة التكنولوجية العسكرية، فبرغم تعهّد وزير الدفاع بيت هيغسث بإطلاق ما سمّاه “هيمنة أميركية في مجال الطائرات المسيّرة” لا تزال الترسانة الأميركية تعتمد في الأساس على أنظمة كبيرة ومكلفة تعود إلى حقبة سابقة، فالمشروعات الجديدة مثل “الطائرة القتالية التعاونية”(CCA) التابعة للقوات الجوية أو مشروع “الذخائر المطاردة والمنخفضة الارتفاع” للجيش لا تزال في مراحلها التجريبية وتفتقر إلى الكفاءة من حيث التكلفة، إذ تُقدّر تكلفة الوحدة الواحدة من مشروع CCA بما بين 15 و20 مليون دولار بينما تُراوح تكلفة الطائرة المسيّرة الأصغر الخاصة بالجيش بين 70,000 و170,000 دولار، وحتى لو قررت وزارة الدفاع زيادة الكميات المشتراة يبقى من غير المؤكد أن الشركات الأميركية قادرة على إنتاج ما يوازي نحو 200,000 طائرة شهريًا وهو ما تشير التقارير إلى أن أوكرانيا تستهلكه حاليًا.
ولمواكبة هذه الثورة في مجال المسيّرات لا يكفي أن تركز الولايات المتحدة على زيادة التمويل أو تسريع الإنتاج أو تبسيط إجراءات الشراء، بل يتعيّن على صُنّاع القرار المدنيين والعسكريين مراجعةً أكثر عمقًا للأفكار التي حكمت العقيدة العسكرية الأميركية طوال العقود الماضية، فالقصور الأميركي في تبني هذا الجيل الجديد من الطائرات لا يعود إلى ضعف الإمكانيات بل إلى قناعات ترسّخت خلال ستة عقود من الحروب فُهم منها أن التفوق العسكري الأميركي يكمن في خوض حروب قصيرة من مسافات آمنة باستخدام تقنيات متقدمة تُدار عن بُعد، وقد اعتُقد أن هذه التقنيات – رغم كلفتها المرتفعة – تضمن حماية أرواح الطيارين وتوفر معلومات استخباراتية مباشرة لصنّاع القرار وتتيح تنفيذ ضربات دقيقة بأقل قدر من الخسائر.
لكنّ المتغيرات التي يشهدها ميدان المعركة لا سيما في أوروبا و(الشرق الأوسط) تفرض على القادة الأميركيين إعادة النظر في هذا التصور، فالاستخدام المكثّف والمرن للطائرات المسيّرة من قِبل خصوم وشركاء على حدّ سواء يُعيد رسم معالم الحرب الحديثة ويقوّض فعالية الأنماط التقليدية للحملات العسكرية منخفضة الخسائر التي صُمّمت القوة الجوية الأميركية المسيّرة لخدمتها، وعليه فإن الاستثمار في تقنيات جديدة يجب أن يسبقه فحص نقدي عميق للفرضيات الأساسية التي وجّهت السياسات الدفاعية والبرامج التسلّحية خلال النصف قرن الماضي.
كما ينبغي للمؤسسة العسكرية الأميركية أن تعيد تقييم مدى استعداد الرأي العام لتحمل الخسائر البشرية، وأن تراجع عمليات الشراء العسكري المترهّلة وأن تواجه الميل المؤسسي داخل الأفرع المختلفة للقوات المسلحة إلى تبنّي أنظمة ضخمة ومرتفعة التكلفة، وقبل كل شيء تحتاج القيادة الأميركية إلى تطوير نظرية جديدة للنصر تضع في الاعتبار كيف يمكن لتقنيات الطائرات المسيّرة أن تسهم في تحقيق الأهداف الاستراتيجية للولايات المتحدة في عالم يشهد تحولات متسارعة.
الدعم التقني
سعت المؤسسة العسكرية الأميركية على مدى عقود إلى تطوير تكنولوجيا تُضفي على الحروب طابعًا أكثر دقة وكفاءة مع تقليل المخاطر التي قد يتعرض لها القادة العسكريون والجنود على حد سواء، ففي عام 1965 طلب الرئيس ليندون جونسون من وزير دفاعه روبرت ماكنمارا إيجاد حل تقني للمهام الاستطلاعية الخطرة في حرب فيتنام التي كانت قد بدأت تفقد شعبيتها في الداخل الأميركي، متسائلً: “ألا تعتقد بوب أن هناك وسيلة من خلال طائراتك الصغيرة أو المروحيات… لرصد هؤلاء الأشخاص ثم الإبلاغ عن مواقعهم كي تأتي الطائرات وتقصفهم”؟
مع اختراع المعالج الدقيق (الميكروبروسيسر) في عام 1971، شهدت تكنولوجيا الطائرات المسيّرة الأميركية انطلاقة حقيقية حيث جرى دمج أول قدرة تشغيلية للطائرات غير المأهولة ضمن العمليات القتالية، وقد نفّذت طائرات “لايتنينغ باغ” (Lightning Bug) ولاحقًا “بافالو هنتر” (Buffalo Hunter) أكثر من 4000 طلعة جوية في فيتنام مكلفةً بمهام يُطلق عليها الجيش اسم المهام “المملة والخطيرة والقذرة” والتي كانت تتطلب سابقًا تدخّل طيارين بشريين، شغلت هذه الطائرات المسيّرة دور الطُعم لمواقع الدفاع الجوي وصوّرت مواقع الصواريخ السوفيتية وقواعد الأسرى الفيتنامية الشمالية ونفّذت مهام استطلاعية في ظروف جوية سيئة وأسقطت منشورات دعائية.
ورغم أن هذه الطائرات لم تُحدث تحوّلًا جذريًا في مسار الحرب الا أنها أثارت اهتمام القيادة العسكرية الأميركية لما أظهرته من قدرة على تقليل المخاطر البشرية في ساحة المعركة، وقد ازدادت أهمية هذه التقنية مع إنهاء نظام التجنيد الإجباري في عام 1973 واعتماد الجيش الأميركي بالكامل على قوة متطوّعة، شكّلت هذه النقلة تحديًا أمام الرؤساء الأميركيين في نشر قوات كبيرة ودفعت المؤسسة العسكرية إلى تطوير استراتيجيات قتال تتماشى مع القدرات التي يمكن تجنيدها فعليًا، كما ساهمت التحولات الجيوسياسية وخصوصًا التحدي الذي فرضه التفوق العددي للقوات السوفيتية في تحفيز الولايات المتحدة على تبنّي تكنولوجيا متقدمة تعوّض عن الفجوة في الموارد البشرية.
تبنّت القيادة الأميركية آنذاك مفهومًا جديدًا للقتال يقوم على قوات أصغر وأكثر تدريبًا تستخدم تقنيات موجهة بدقة، وقد وُضعت عقيدة “معركة الجو – أرض” (AirLand Battle) كإطار استراتيجي مشترك بين الجيش وسلاح الجو تقوم على ضربات بعيدة المدى مدعومة بتحركات أرضية عالية المناورة مستفيدة من التقدم السريع في تقنيات المعالجة الدقيقة لرصد العدو واستهدافه من مسافات آمنة، في الوقت ذاته وفّر الرئيس رونالد ريغان ميزانيات ضخمة لوزارة الدفاع ما أتاح الاستثمار في الأقمار الصناعية والرادارات والأسلحة “الذكية” الموجهة والتي شكّلت لاحقًا البنية التحتية الأساسية لترسانة المسيّرات الأميركية.
وتسارعت وتيرة الاهتمام الأميركي بهذه التقنيات بعد تفجير ثكنة مشاة البحرية الأميركية في بيروت عام 1983 وإسقاط طيارين أميركيين في لبنان، استثمرت البحرية الأميركية حينها نحو 90 مليون دولار في نظام (إسرائيلي) أثبت فاعليته واشترت 72 طائرة من طراز “بايونير” (Pioneer) غير المأهولة، وفي الوقت نفسه أصدر وزير الدفاع كاسبر واينبرغر مبدأً عسكريًا جديدًا ينص على عدم نشر القوات الأميركية إلا كخيار أخير، وقد رأى المخططون الاستراتيجيون في الطائرات المسيّرة بديلاً مناسبًا للبعثات الجوية الاستطلاعية عالية الخطورة، وفي عام 1985 صرّح كيلي بورك الرئيس السابق للبحث والتطوير في سلاح الجو (1979–1982)، لصحيفة واشنطن بوست قائلاً “قد يوجد ما يُسمى طائرة رخيصة لكن لا يوجد ما يُسمى طيار أميركي رخيص”.
وقد تزامن إطلاق مبدأ واينبرغر مع بزوغ عصر المعلومات، لطالما سعت الولايات المتحدة إلى تجنب الحروب الطويلة الاستنزافية وبات التقدم الرقمي السريع يفتح الأفق نحو تحقيق هذا الهدف، داخل أروقة البنتاغون عمل عدد من الاستراتيجيين في “مكتب التقييم الصافي” (ONA) على استكشاف سبل استخدام الأنظمة التكنولوجية الجديدة – مثل المسيّرات – لإحداث نقلة نوعية في الاستراتيجية العسكرية من خلال رصد العدو واستهدافه عن بُعد وكسب الحروب بسرعة وبأدنى قدر من المخاطرة بالقوات الأميركية، وقد تنبّأ تقرير بالغ الدقة أعدّه هذا المكتب في عام 1986 بظهور ساحة معركة يعمّها الاستطلاع الجوي و”ألغام جوية” تطير في أسراب وتُوجّه الضربات باستخدام مدفعية وطائرات مأهولة تعتمد على مستشعرات غير مأهولة لاختيار الأهداف بشكل آلي.
عوائد بلا مخاطرة
لم يكن الهدفان الأميركيان الأساسيان – الحد من المخاطر البشرية وتعظيم الكفاءة القتالية في ساحة المعركة – متوافقين على الدوام، فمنذ حرب الخليج عام 1991 اتسمت الاستراتيجية الأميركية في استخدام الطائرات المسيّرة بحالة من التوتر بين الميل إلى تجنّب المخاطر من جهة، والرغبة في تحقيق انتصارات سريعة وحاسمة مدعومة بالتكنولوجيا من جهة أخرى.
في تلك الحرب سعت الولايات المتحدة إلى الموازنة بين تقليص المخاطر وتعزيز الفاعلية عبر استراتيجية هجينة، شنّت القوات الجوية حملة صدمة وترويع باستخدام القنابل الذكية والصواريخ بعيدة المدى بينما نفّذت القوات البرية مناورات حاسمة أسفرت عن تدمير واسع لقدرات الجيش العراقي، وقد بدا هذا النجاح بمثابة نموذج جديد للحرب الأميركية يقوم على حملات عسكرية سريعة حاسمة وذات خسائر بشرية محدودة.
لكن عقب انهيار الاتحاد السوفيتي عمد الكونغرس وإدارة الرئيس بيل كلينتون إلى تقليص ميزانية وزارة الدفاع الأميركية، ونتيجة لذلك تنافست فروع القوات المسلحة المختلفة لحماية برامج تسليحها المفضّلة مما أدى إلى استمرار الاستثمار في المنصّات الضخمة المأهولة مثل حاملات الطائرات والطائرات المقاتلة والدبابات على حساب تطوير أنظمة غير مأهولة أو ذخائر أصغر وأكثر مرونة، في الوقت ذاته اندمجت شركات الصناعات الدفاعية وهو ما قلّل من عدد الفاعلين في السوق وقلّص من الحوافز والموارد المخصصة للبحث والتطوير خارج نطاق متطلبات الوزارة الرسمية.
ورغم هذه القيود نجحت إدارة كلينتون خلال تسعينيات القرن الماضي في بناء ترسانة متطورة من الطائرات الشبحية وصواريخ كروز بعيدة المدى والقنابل المزودة بنظام تحديد المواقع العالمي (GPS) ، وشهدت تلك الفترة هيمنة لنمط “حروب الجو منخفضة المخاطر وعالية التقنية” ورغم أن الطائرات المسيّرة لم تكن تمثّل أولوية لدى أي فرع من فروع القوات المسلحة فإن وزارة الدفاع آنذاك رأت فيها إمكانيات واعدة، وفي بداية تولّيه منصب نائب وزير الدفاع أسّس جون دوتش مكتبًا مشتركًا يُعرف باسم “مكتب الاستطلاع الجوي الدفاعي” بهدف دفع الجيش إلى تبني تقنيات الطائرات غير المأهولة، وقد خلص هذا المكتب في تقرير صدر عام 1994 إلى أن “المركبات الجوية غير المأهولة (UAVs) تُعدّ بديلًا مجديًا في الوقت الذي تكافح فيه الخدمات العسكرية مع تحديات تقليص الحجم”.
وفي صيف عام 1995 حلّقت أول طائرات “بريديتور “(Predator) فوق أراضي يوغوسلافيا السابقة، وقد كانت من ابتكار شركة طاقة تُدعى “جنرال أتوميكس” (General Atomics)، دون وجود داعم رسمي واضح لها داخل البنتاغون. وفي الصيف ذاته تعرّض الطيار سكوت أوغريدي الذي كان يقود طائرة F-16 للإسقاط فوق مناطق خاضعة لسيطرة صرب البوسنة، وقد شكّل هذا الحدث مصدر إحراج للمؤسسة العسكرية الأميركية ودفع رئيس أركان سلاح الجو آنذاك الجنرال رونالد فوغلمان إلى التوسّع في استخدام طائرة “بريديتور”، حيث أسس أول وحدة طائرات مسيّرة تابعة لسلاح الجو في تموز 1995، وقد لقيت هذه الجهود دعمًا من الكونغرس إذ صرّح السيناتور جون وارنر رئيس لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ قائلًا
“برأيي لن تسمح هذه البلاد مجددًا بانخراط قواتها المسلحة في نزاعات تتكبد فيها حجم الخسائر البشرية التي شهدناها تاريخيًا”، واستنتج من ذلك أن التحول نحو التقنيات غير المأهولة بات أمرًا لا مفر منه.
أهداف ضيّقة
بعد هجمات الحادي عشر من أيلول أصبحت طائرات “بريديتور” و”ريبر” مكونًا أساسيًا في الاستراتيجية العسكرية الأميركية، فعلى مدى عقدين من الزمن اشترت الولايات المتحدة أكثر من 500 طائرة من هذين الطرازين بتكلفة بلغت عشرات المليارات من الدولارات ونفّذت عبرها آلاف الضربات الجوية في كل من أفغانستان والعراق وليبيا وباكستان وسوريا واليمن وغيرها من الدول، وقد مكّن هذا النظام القادة العسكريين من متابعة الأهداف في الوقت الحقيقي وعلى مدار الساعة. ومع ذلك ظل استخدام الطائرات المسيّرة محل جدل واسع، فرغم تطورها لم تكن هذه الأنظمة زهيدة الكلفة كما أنها لم تتميز بمرونة عالية أو قدرة كبيرة على التحمل، ولم يكن الجنود على الأرض راضين تمامًا عنها فقد عانت هذه الطائرات من مشكلات في الأداء خلال الأحوال الجوية السيئة وتأخر في نقل البيانات وكان تشغيلها يتم حصريًا تقريبًا من قبل سلاح الجو الأمر الذي أثار شكاوى من أن الطيارين المسؤولين عن تشغيلها لم يتلقوا تدريبًا كافيًا لتنفيذ مهام دعم قتالي بري. كما عبّر كثيرون عن تحفظهم إزاء الاعتماد المفرط على الطائرات المسيّرة كبديل للمقاتلين البشريين، خاصة وأن الحملة الأميركية في أفغانستان والعراق رُوّج لها على أنها تهدف إلى كسب “قلوب وعقول” السكان المحليين، وهو هدف بدا في أحيان كثيرة متناقضًا مع قصفهم من مسافات بعيدة وبوسائل غير شخصية.
وقد كان سلاح الجو هو الفرع العسكري الوحيد الذي استثمر بجدية في هذه التقنية خلال ما عُرف بـ”الحرب العالمية على الإرهاب”، ورغم أن الطائرات غير المأهولة مثّلت تهديدًا ضمنيًا للدور التاريخي للطيارين في هذا السلاح فإن الرغبة في السيطرة على المجال الجوي دفعت سلاح الجو إلى ريادة استخدام المسيّرات، فقد جرى تشغيل طائرات “بريديتور” و”ريبر” ضمن أسراب تتبع نمط وحدات الطائرات المقاتلة وكان يقودها في كثير من الأحيان طيارون سابقون للطائرات الحربية باستخدام إجراءات تشغيلية مستوحاة من تلك المخصصة للطائرات المأهولة، ولهذا لم يكن مستغربًا أن يتطابق الاستخدام الأميركي للطائرات المسيّرة مع المهام التقليدية للقوة الجوية مثل القصف الاستراتيجي والاستطلاع.
أما الجيش الأميركي فقد قبل إلى حد كبير باحتكار سلاح الجو لهذا المجال ولم يستثمر إلا بشكل محدود في أنظمة أصغر، في المقابل لم يُبدِ سلاح البحرية اهتمامًا كبيرًا بالثورة في تقنيات الطيران غير المأهول مفضّلًا التركيز على المنصات الكبرى، كحاملات الطائرات والتي تُعدّ جزءًا جوهريًا من هويته العسكرية.
وفي نهاية المطاف أدّى تركيز الولايات المتحدة الضيّق على استخدام التكنولوجيا المتقدمة لتقليل الخسائر البشرية إلى شراء وتوظيف نوع محدد من الطائرات المسيّرة تلك التي تُدار عن بُعد وتتمتع بقدرة على مراقبة الأهداف لفترات طويلة ويمكنها العمل في أجواء خطرة، وقد جاءت هذه الاختيارات نتيجة تراكم قرارات تاريخية حول طبيعة الحرب التي ترغب الولايات المتحدة في خوضها بعد فيتنام وحول الدروس المستخلصة من حرب الخليج وحول توجهات الاستثمار الدفاعي في مرحلة الهيمنة الأميركية الأحادية، وقد ساهم عقدان من الحرب في أفغانستان والعراق في ترسيخ هذه التوجهات. غير أن الحرب في أوكرانيا شكّلت تحديًا لهذه العقيدة العملياتية، وكنتيجة لذلك تسارع الولايات المتحدة اليوم إلى الاستثمار في مجموعة أوسع من الطائرات المسيّرة حيث بدأت في منح عقود لشركات دفاعية جديدة وتجري تدريبات محاكاة على مهام جديدة للطائرات غير المأهولة، كما وجّه وزير الدفاع بيت هيغسث وحدات الجيش إلى شراء وتجريب طائرات مسيّرة متاحة تجاريًا، ومع ذلك فإن هذه الخطوات تبدو في معظمها استجابات مرتجلة لأساليب استخدام المسيّرات في ميادين قتال أجنبية بدلاً من أن تنبع من رؤية استراتيجية واضحة تحدد الدور الذي ينبغي أن تلعبه هذه الأنظمة في حروب الولايات المتحدة المستقبلية.
العودة إلى الأساسيات
إذا أرادت الولايات المتحدة أن تخوض وتنتصر في حروب الاستنزاف – وهو النمط الذي تستخدم فيه أوكرانيا الطائرات المسيّرة بفعالية كبيرة حالياً – فسيتعيّن عليها امتلاك المزيد من الطائرات المسيّرة منخفضة التكلفة المرتبطة مباشرة بوحدات القتال والقادرة على التكيّف السريع مع تدابير مضادة للطائرات المسيّرة، ومع ذلك لا يمكنها ببساطة أن تنسخ استراتيجيات أوكرانيا أو (إسرائيل) في هذا المجال، فقبل الشروع في سباق التسلّح أو التوريد يجب على واضعي الاستراتيجية الدفاعية في الولايات المتحدة أن يبلوروا نظرية جديدة للنصر عبر مراجعة المنطلقات والافتراضات التي شكّلت الأساس لخمسة عقود من السياسات التقنية والتسلّحية.
فطوال نصف قرن قامت الولايات المتحدة ببناء قوتها العسكرية على قناعة مفادها أن الشعب الأميركي لن يقبل بالتضحية بأرواح جنوده لكنه سيكون مستعداً لإنفاق المال بسخاء، غير أن هذه الفرضية أصبحت اليوم موضع تساؤل في ظل تزايد العجز المالي وارتفاع حساسية الناخب الأميركي تجاه التضخم والإنفاق الحكومي غير المجدي، لم يعد بإمكان القادة الأميركيين أن يفترضوا ببساطة أن بإمكانهم الحد من المخاطر السياسية عبر إغراق البنتاغون بالتكنولوجيا الباهظة الثمن. في الوقت ذاته باتت القناعة التي سادت في الثمانينيات والتسعينيات – بأن التكنولوجيا غير المأهولة ستقود إلى حروب أسرع وأبعد مدى – موضع تحدٍّ حقيقي، إذ تُظهر أنماط استخدام الطائرات المسيّرة في ساحات المعارك الأوروبية و(الشرق أوسطية) ميلاً متزايداً نحو القتال من مسافات قريبة من الألغام الأرضية إلى حرب الخنادق واستهداف المدنيين، وهذه كلها لم تكن ضمن صميم الاستراتيجية العسكرية الأميركية منذ حرب فيتنام. وعلى إدارة ترامب أن تدرس بحذر ما إذا كان ينبغي للقوات المسلحة الأميركية أن تتبنى تقنيات الطائرات المسيّرة التي تُمكّن هذا النوع من الحروب، وذلك ضمن مراجعة أوسع لاستراتيجيتها العسكرية، وحدها هذه المراجعة الشاملة يمكن أن تضمن توافق ميزانية الدفاع الأميركية (واستثماراتها في مجال المسيّرات) مع أولويات استراتيجية واضحة.
في السابق تمكن عدد من وزراء الدفاع من تجاوز صراعات الميزانيات بين الأفرع العسكرية من خلال نقل البرامج من يد الفروع إلى سلطة الوزارة مباشرة أو عبر إقالة رؤساء الأركان أو من خلال الضغط على الكونغرس لتمويل برامج محددة، واليوم لا يقتصر الأمر على ضرورة تسريع عملية التوريد العسكري بل يشمل أيضاً تمكين الابتكار التصاعدي – أي السماح للقادة الميدانيين والوحدات الصغيرة بالحصول على أنظمة مسيّرة وإدارتها بأنفسهم، وسيتطلب ذلك إصلاحاً تشريعياً كبيراً بحجم إصلاحات “قانون غولدووتر – نيكولز” لعام 1986، الذي أعاد هيكلة وزارة الدفاع بشكل جذري.
وقد يستلزم تجديد الاستراتيجية الدفاعية الأميركية قيادة صارمة ضمن الأفرع العسكرية بما في ذلك تعيين قادة عسكريين يتمتعون بفترات ولاية أطول من المعمول بها حالياً، لقد أغوت النجاحات العملياتية والتكتيكية المؤسسة العسكرية الأميركية لكنها فشلت في الحفاظ على التفوق الاستراتيجي اللازم لخوض صراعات القرن الحادي والعشرين، ومن دون إعادة تقييم “النهج الأميركي في الحرب” فلن تتمكن أي كمية من المسيّرات الجديدة من حماية الولايات المتحدة من حروبٍ لا ترغب أصلاً في خوضها.
* Jacquelyn Schneider and Julia Macdonald, How to Lose the Drone War American Military Doctrine Is Stifling Innovation, FOREIGN AFFAIRS, July 31, 2025.
** لمقتضيات الأمانة العلمية، وضرورات الترجمة الدقيقة، تم الإبقاء على كلمة (إسرائيل)، وهو لا يعني اعتراف المركز بها، وما هو مكتوب يمثل راي وأفكار المؤلف.



