الاكثر قراءةتحليلات و آراءغير مصنف
في الذكرى الثالثة لرحيله.. هل يستمر إرث “آبي” الاستراتيجي؟

بقلم: أ.د عبد القادر دندن/ أستاذ العلاقات الدولية وباحث في الشؤون الآسيوية – جامعة عنابة – الجزائر
كثيرون هم السياسيون والقادة الذين يتعاقبون على المناصب ومراكز السلطة في مختلف الدول عبر التاريخ، ولكن قليل منهم فقط من يمكن أن يترك بصمة قوية وإرثا ثقيلا وثريا بعد انتهاء مساره السياسي وحتى بعد وفاته، فالتاريخ ليس بذلك الكرم الذي يجعل أبوابه مشرعة ليدخله من هب ودب من السياسيين والحكام، حتى وإن كان دخول التاريخ متعدد الأوجه والأبواب، فهو إما أن يكون من أوسعها نحو مضارب المجد، أو من أضيقها نحو ركن النسيان والنبذ.
في التاريخ السياسي الحديث والمعاصر لليابان، ليس هنالك ربما من كان محل جدل من جهة وموضع إشادة وتقدير من جهة أخرى، مثلما كان عليه الحال مع رئيس وزرائها السابق “شينزو آبي”، الذي يختلف اليابانيون على أفكاره وتوجهاته، ولكنهم يجمعون على عمق وعظمة الإرث الاستراتيجي الذي خلفه، فهو ليس فقط حاكم اليابان الفعلي لأطول مدة زمنية كرئيس للوزراء، ولكنه أيضا واضع أسس رؤيتها الاستراتيجية للتعامل مع تحولات البيئة الإقليمية والدولية، ولذلك استحق لقب المنظر الاستراتيجي لليابان في بدايات القرن الحادي والعشرين ولفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وراعي مسيرة وجهود تجسيد تلك الرؤى الاستراتيجية وتحويلها إلى سياسات فعلية وعملية، ترسم معالم تحول اليابان إلى مصدر مفتاحي لتقديم فهم لتطورات محيطها الإقليمي والدولي، وحشد الحلفاء في المنطقة وخارجها لتجسيد تلك الرؤى، وتحويلها إلى منطلقات لتكثيف جهود جماعية بقيادتها لبناء تحالفات ومؤسسات وقيادة مبادرات سياسية واستراتيجية واقتصادية، سيكون لها بالغ الأثر في تحديد مستقبل اليابان وجوارها الإقليمي وحتى التوجهات العالمية الكبرى في النظام الدولي والعلاقات الدولية.
ورغم اغتيال شينزو آبي في الثامن من يوليو / تموز 2022، إلا أن مبادراته وأفكاره ما تزال حاضرة في الأجندة الاستراتيجية للمنطقة وللأطراف الفاعلة فيها، والجدل الذي تطرحه تلك الأفكار والرؤى ما يزال مستمرا داخل اليابان وخارجها، والتساؤل الذي يطرح وبقوة في الوقت الحالي هو حول مدى قابلية تصورات وأفكار ومبادرات وسياسات شينزو آبي الاستراتيجية للاستمرار والتطور حتى بعد رحيله، لا سيما وأن آبي لم يكن يتحدث ويتصرف فيما يخص تلك الأجندة الاستراتيجية كمجرد رئيس وزراء لدولة ما، بل كشخصية سياسية واستراتيجية ذات إطلاع كبير وعميق بشؤون المنطقة، وذات رؤية استشرافية ثاقبة لتطوراتها وتحولاتها.
أولا- “آبي” العدواني والمغناطيس.. مفارقات أقوى رئيس وزراء في تاريخ اليابان: نجحت الرصاصة التي أطلقها شاب ياباني يصف نفسه بالمستاء من آبي وشخصيته وسياساته، في وضع حد لحياة ومسيرة شينزو آبي في الثامن من تموز / يوليو 2022، ولكنها لم تنجح في إطفاء شعلة الجدل التي طالما التصقت بشخصية آبي القومي والمحافظ واليميني، الذي أراد لليابان قدرا مختلفا عن ذلك الذي رسمته لها ترتيبات وتداعيات فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
لم يكن الحس السياسي الذي تميز به آبي ومنحه كل تلك الهالة سواء لدى معجبيه أو كارهيه، مفاجئا على من نشأ في كنف عائلة سياسية بامتياز، فقد ولد يوم 21 سبتمبر/ أيلول 1954 في العاصمة طوكيو، وسط عائلة توارثت السياسة ومارستها على أعلى المستويات، حيث كان والده وزيرا للخارجية، وجده رئيسا للوزراء بين عامي 1957 و1960. ودعم ذلك برصيد أكاديمي ثري كان نتاجا لدراسته للعلوم السياسية في جامعة شايكاي اليابانية، وانتقاله بعدها لجامعة كاليفورنيا الأمريكية لمواصلة نهله من ذات التخصص عام 1978. ودعم كل ذلك بمسيرة عملية حافلة، كانت بدايتها بعمله كمساعد لوالده في وزارة الخارجية بين عامي 1982 و1986. وانتمائه مبكرا للحزب الليبرالي الديمقراطي العريق في اليابان، وتولي منصب الأمانة العامة للحزب بين عامي 1987 و1989. وفاز لأول مرة بمقعد له في البرلمان عام 1993، وعين لأول مرة كوزير عام 2000، ثم تدرج في مجلس الوزراء حتى أصبح رئيسا له في سبتمبر / أيلول 2006، وكان أصغر رئيس حكومة سنا باليابان في ما بعد الحرب العالمية الثانية.[1]
وفي بلد عرف التباهي برؤساء الحكومة ذوي المُدد القصيرة الذين يطويهم النسيان سريعا، تمكن آبي من المكوث في منصبه لمدة ثماني سنوات متعاقبة بين عامَيْ 2012-2020 (في إنجاز غير مسبوق لرئيس وزراء ياباني منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وذلك دون احتساب السنة التي شغل فيها ذلك المنصب ما بين 2006 – 2007، واضطر فيها للاستقالة لظروف صحية). وقد سَعَت سياساته وإصلاحاته محليا -التي عُرِفَت باسم “آبِنوميكس” (Abenomics)- إلى استعادة الدينامية الاقتصادية اليابانية، وتكلَّلت بالنجاح في وقت مُبكِّر، فلا تزال اليابان ثالث أكبر اقتصاد في العالم، ورائدة كبيرة وأساسية في مجال التكنولوجيا. وكان وصوله للسلطة في سياق صعب شهدت فيه اليابان قبلها بسنوات ترنحا شديدا، بفعل عدد من الضربات التي تلقَّتها. فقد انقضت سنوات النمو الاقتصادي السريع لليابان منذ أمد طويل، وأثارت نهاية الحرب الباردة الشكوك حول صمود التحالف الأميركي-الياباني، حيث أظهرت المنطقة بوادر عاصفة في الأفق مع بزوغ القوة العسكرية والاقتصادية للصين وتصعيد كوريا الشمالية من أنشطتها النووية إثر انسحابها من معاهدة حظر انتشار السلاح النووي.[2]
كان آبي مثل مغناطيس قوي يجذب الحلفاء ويصد الأعداء، مما جعله حالة استثنائية بين كل رؤساء وزراء اليابان، من حيث قدرته على جذب الدعم القوي والمعارضة في آن واحد. ويشير المحرر الياباني الشهير “كوغا كو”، إلى أنه سمع آبي يتفاخر ويعبر عن سعادته، بوصفه من طرف “واتانابي تسونيوط، رئيس تحرير صحيفة “يوميوري شيمبون” بأنه: “أكثر رئيس وزراء عدواني منذ يوشيدا شيغيرو”. لقد كان آبي قوة ساحقة داخل البرلمان وانتٌقد كثيراً بسبب ازدرائه للمعارضة المتشرذمة باعتباره سلوكاً رافضاً لا يتسم بالنضج. وبعد بيانه الصادر في فبراير / شباط 2019 على هامش المؤتمر السنوي للحزب الليبرالي الديمقراطي، والذي انتقد فيه المعارضة بشكل حاد ولاذع، وبعد ثلاث سنوات من صدور ذلك البيان، سأله أحد الصحفيين عن هدفه من ذلك البيان حينها، فرد آبي بقوة: “كنت أقود الحزب الحاكم قبل المعركة الانتخابية، وكما تعلم فالانتخابات تتمحور حول إجراء مقارنات لتحديد الأفضل. في أي معركة، ينبغي على القائد أن يتبارز مع خصومه، البعض يعتقد أن هذا عمل قذر يجب تركه لشخص آخر، ولكن بما أنه لم يكن هناك أي شخص آخر يصلح لهذه المهمة، فقد تقدمت بنفسي إلى الصفوف الأمامية”.[3]
كثيرا ما وصف النقاد ووسائل الإعلام “شينزو آبي” بأنه “يميني متطرف”، وكان جزءا من جناح مُحافظ في الحزب الليبرالي الديمقراطي، واشتهر بارتباطه بمنظمة “نيبون كايجي” المُحافظة وصاحبة التأثير الكبير، التي من بين أهدافها مناصرة تعليم التاريخ الياباني لغرس الاعتزاز القومي الياباني. وذهب أبعد من ذلك حين زار في الفترات الأولى من تولِّيه المنصب ضريح “ياسوكوني”، الذي يُكرِّم شخصيات مُدانة بارتكاب “جرائم ضد الإنسانية”. والواقع أن زيارة “آبي” للضريح أثارت غضبا كبيرا لدى اليابانيين المعتدلين والكوريين الجنوبيين والأمريكيين والصينيين مِمَّن يرون أن الضريح يُبيِّض جرائم اليابانيين، بل ويحتفي بجرائمها أثناء الحرب. كما أنه أثار ذعرا بإعلانه أن حكومته تنوي مراجعة بيان “كونو” الشهير حول “نساء المتعة”. فقد تبنَّت الحكومة اليابانية بنفسها هذا البيان رسميا عام 1993، الذي أقرَّ بدورها سابقا في ملف “نساء المتعة”، رغم أنه تراجع عن ذلك وقدم اعتذارا رسميا تحت وطأة ضغوطات داخلية وخارجية رهيبة. [4]
وعرف عن آبي المحافظ أيضا، سعيه إلى تخفيف الأغلال التي تقيد الجيش الياباني منذ الحرب العالمية الثانية في إطار ما عرف بالدستور السلمي لعام 1946، وقد أصدر رئيس الوزراء بالفعل قوانين تسمح لليابان بأن تمارس حقها في الدفاع الجماعي عن النفس، ورفع الحظر الذي فرضته على صادرات الأسلحة، ودعا المجلس التشريعي الوطني في فبراير / شباط 2016، لتعديل المادة 9 من دستور البلاد الذي ينبذ الحرب كوسيلة لتسوية النزاعات[5].
ثانيا- “آبي” الاستراتيجي.. رؤى خلاقة وسوابق في المبادرات الإقليمية والدولية: على عكس الجدل الذي يثار حول آبي داخليا، فإن توجهاته الخارجية وأجندته الاستراتيجية تلقى إشادة كبيرة من اليابانيين وحلفائهم، وكانت محل إعجاب حتى لدى العديد من خصومه في اليابان وخارجها، فقد كانت رؤاه خلاقة بالفعل وغير مسبوقة، حتى أنه وصف بعراب المبادرات الاستراتيجية في المنطقة، وكانت أهم المبادرات والسياسات المتخذة هناك “آبية المنشأ بامتياز” (أي نسبة إلى آبي).
لقد مثلت السياسة الخارجية المساحة الأبرز التي تبلور فيها إرث “آبي” أكثر من غيرها، فإذا كان التنافس بين القوى العظمى يهيمن اليوم على النقاشات الدائرة في واشنطن وخارجها. فإن آبي كان سباقا منذ أكثر من عقدين إلى بلورة رؤيته للسياسة الخارجية، التي سبق فيها الكثير من القادة اليابانيين والعالميين في فَهم توجُّهات الصين، من حيث قوتها ونِيَّاتها لمراجعة النظام الإقليمي وطموحاتها بخصوص النظام العالمي. وحينما طوَّر “آبي” فكرته عن الأمن الإقليمي في منطقة الهندي- الهادي (الهندوباسيفيك)، لم يكن هذا المفهوم حينها موجودا بعد، والحال أن “آبي” لم يُقدِّم هذه الفكرة فحسب، بل أدرك أيضا أن تحدي الصين للمنطقة يقتضي حدوث نقلة مُعتَبَرة في السياسات اليابانية.[6] ولعل ذلك من الأسباب التي جعلت البروفيسور كازوتو سوزوكي أستاذ العلوم السياسية ومستشار آبي السابق يصفه قائلا: “لقد كان سابقا لعصره .. وفهم تغير موازين القوى. وأن الصين الصاعدة ستؤدي بالطبع إلى تشويه ميزان القوى وإعادة تشكيل النظام في المنطقة، لذلك أراد أن يتولى القيادة”.[7]
فحين ألقى خطابه الشهير الموسوم بـ “التقاء البحرين” أمام البرلمان الهندي عام 2007، الذي تضمن عبارته الشهيرة “إننا الآن في النقطة أو المرحلة التي يأتي فيها التقاء البحرين إلى الوجود، فالمحيطين الهندي والهادي يشهدان ديناميكية، تزاوجهما وتجمعهما كبحرين للحرية والازدهار””، استحق عن جدارة لقب عراب فكرة الهندوباسيفيك المعاصرة، وسمح للمفهوم أن يأخذ مكانة معتبرة ومتزايدة من حينها، رغم أنه لم يستعمل على الإطلاق في ذلك الخطاب مفهوم الهندوباسيفيك صراحة، بل ركز على فكرة تواصل وارتباط والتقاء المحيطين الهادي والهندي إستراتيجيا واقتصاديا وثقافيا، لتشكيل ما أسماه “آسيا الأكبر”.[8] عبر توسيع المنطقة وفتحها لتضم إلى تفاعلاتها وتحالفاتها قوى مثل أستراليا والولايات المتحدة بشكل أكثر انخراطا وتأثيرا، وجعل آسيا الأكبر الممتدة عبر المحيطين مجالا للقوى الديمقراطية (اليابان والولايات المتحدة والهند وأستراليا وغيرها) لتتقارب وتعاون معا، في ظل تقاسم نفس القيم والمصالح. وتوفير الحماية اللازمة لآسيا الجديدة عبر ترقية القيم المعيارية المشتركة بين دولها، وإتباع مسار أمننة لمختلف التهديدات التي يمكن أن تمسها، لذلك جعل “آبي” الأمن البحري في المنطقة في صلب اهتماماته. [9]
ومن خلال ما ورد في كتابه “نحو دولة جميلة: رؤيتي لليابان” (Towards a beautiful country: my vision for Japan)، الذي أصدره في جويلية 2006، حين كان نائبا بالبرلمان الياباني، جاء بفكرة تأسيس منتدى أمني يجمع الدول الأربع الرئيسية في المنطقة، ورافع فيه عن أهمية وحيوية تقوية علاقات اليابان بالولايات المتحدة والهند وأستراليا، وبعد شهرين من ذلك تم انتخابه رئيسا للوزراء، وعمل على وضع أفكار كتابه موضع التنفيذ، وتمكن من إقناع قادة الولايات المتحدة والهند وأستراليا، بأهمية وضرورة التكتل في منتدى أمني رباعي، وهو ما تحقق فعليا بعقد أول قمة للكواد (Quad) سنة 2007، ومن حينها ارتبط “الكواد” به، إلى درجة أن وصفت مجلة (Backgrounder) ذلك المنتدى بـ “طفل آبي”.[10]
لم يتوقف “آبي” عند هذا الحد، بل كان في أوت 2016 وراء إعلان فكرة إقامة “منطقة هندوباسيفيك حرة ومفتوحةOpen Indo-Pacific region Free and (FOIP)، عند التئام مؤتمر طوكيو الدولي السادس حول التنمية في إفريقيا، المنعقد في العاصمة الكينية نيروبي، “من أجل تنمية الهندوباسيفيك كمنطقة دولية لتبادلات السلع، تجلب الاستقرار والازدهار لأي دولة”، وتتضمن أيضا حماية وتقوية “نظام بحري حر ومفتوح قائم على القانون عبر المنطقة، بتحييد التهديدات المتعددة، وزيادة الترابط والتواصلات ضمن المنطقة، عبر تطوير بنية تحتية نوعية، تتماشى مع المعايير الدولية”. وتعد الهندوباسيفيك الحرة والمفتوحة تطويرا لفكرته السابقة حول “قوس الاستقرار والازدهار”، الذي يضم أوروبا من الغرب، والولايات المتحدة الأمريكية وكندا من الشرق.[11]
وهنالك تكامل بين رؤية آبي للهندوباسيفيك الحرة والمفتوحة، وأهداف منتدى الحوار الأمني الرباعي، فهذا الأخير بحسب أهدافه المعلنة يرمي إلى تعزيز التعاون بين دوله الأعضاء، في مجال الأمن البحري، وحرية الملاحة، ومحاربة الإرهاب وغيرها، وجميعها تعد جزءا من أهداف وطموحات فكرة اليابان عن المنطقة الحرة والمفتوحة.[12]
وفي أفريل 2017، أصدرت وزارة الخارجية اليابانية في عهد حكومة آبي ورقتها البيضاء حول الهندوباسيفيك، وأكد وزير خارجيتها أن “إستراتيجية الهندوباسيفيك الحرة والمفتوحة”، قد أصبحت جزءا من سياسة اليابان الخارجية، التي تهدف إلى “ضمان الأمن والاستقرار والازدهار في المجتمع الدولي”، ولتكون ترقية التواصلات في الهندوباسيفيك، أحد أعمدة رؤية اليابان لـ “تنمية بيئة للسلام الدولي، والاستقرار، والقيم العالمية المشتركة”، لتعكس هذه الورقة تصميم اليابان على أن تكون قوة قائدة ومسؤولة، في مختلف الميادين القائمة على قواعد القانون، والسلام، واقتصاد السوق، في المنطقة ككل، وخاصة جنوب وشرق وجنوب شرق آسيا، وحتى قارة إفريقيا.[13]
وذلك ما عكس بعد نظر آبي لمصالح وأهداف اليابان لتتجاوز قارة آسيا ولتمتد حتى نحو القارة الإفريقية، حيث جاء في “الكتاب الأزرق الدبلوماسي” (Diplomatic Bluebook) الياباني لعام 2017، أن اليابان تعمل على توسيع دبلوماسيتها نحو حدود جديدة وأبعد، تضم كل من القارتين الإفريقية والآسيوية والمحيطين الهندي والهادي في منطقة واحدة متكاملة، وتطوير الاستثمارات ومشاريع البنية التحتية، والسعي لتحقيق السلام والاستقرار والازدهار في المنطقة الممتدة من “السواحل الشرقية لإفريقيا، ومنطقة الشرق الأوسط، عبر المحيط الهندي، نحو جنوب آسيا وجنوب شرق آسيا وشرق آسيا وغرب المحيط الهادي”.[14] ويأتي توجه اليابان نحو مد حدود الهندوباسيفيك نحو إفريقيا، مدفوعا بالحيوية الديمغرافية للقارة السمراء، وغناها بالموارد الطبيعية، مما يجعلها مليئة بالفرص وسوقا واعدة، ولذلك لابد من ربط القارتين معا، بواسطة مجموعة من مشاريع البنية التحتية، وتحسين بيئة الأعمال، عبر توفير التكنولوجيا والاستثمارات اللازمة، التي بإمكانها خلق الثروة والنمو والازدهار لصالح المنطقة ككل.[15]
وتجسدت الرؤية اليابانية لربط القارة الإفريقية بالنمو والأهداف الاستراتيجية اليابانية، من خلال إقرار مشروع ممر النمو الآسيوي الإفريقيAAGC أو الممر الأفرو – آسيوي بالشراكة مع الهند، وذلك عن طريق الإعلان المشترك الصادر عن رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي ورئيس وزراء اليابان شينزو آبي في شهر تشرين الثاني 2016، خلال اجتماع بنك التنمية الإفريقي، ويقوم المشروع على أربع قطاعات هي البنية التحتية العالية، ومشاريع التنمية والتعاون، والتواصل المؤسساتي والجودة، وتعزيز القدرات والمهارات المشتركة. ويشمل مشروع ممر النمو الأفرو – آسيوي 54 دولة في إفريقيا، و8 دول من جنوب آسيا، و11 دولة من جنوب شرق آسيا، و14 دولة جزرية في المحيط الهندي، إضافة إلى الهند واليابان.[16]
ولخص “آبي” رؤيته لمستقبل اليابان والمنطقة والتحوط للخطر المحتمل من الصين، عبر عرض تصوراته ضمن مقاله الافتتاحي المعنون بـ “ماسة الأمن الديمقراطي لآسيا” (Asia’s Democratic Security Diamond) الصادر في 27 ديسمبر 2012، الذي وصف فيه اليابان بـ “القوة البحرية الديمقراطية الناضجة، التي تختار شركاءها المقربين وفقا لذلك”، وهذا ما يعكس تقاربها في المنطقة مع الهند وأستراليا والولايات المتحدة لأنها تماثلها في القيم والمنطلقات، وكل ذلك في إطار السعي بحسبه دائما لحماية خطوط المواصلات البحرية، والتي تمثل الصين التهديد الأكبر لها خاصة في بحري الصين الجنوب والشرقي، أين تحاول الصين جعلهما “بحيرة بكين”.[17]
رسم كل ذلك معالم تخطيط آبي لأن تكون اليابان دولة قائدة في المنطقة، وليس مجرد حليف استراتيجي للولايات المتحدة يتبع إملاءات واشنطن ويعتمد على حمايتها، ويقدم البروفيسور كازوتو سوزوكي مثال على ذلك بالشراكة عبر المحيط الهادئ (تي بي بي)، وهي خطة الرئيس باراك أوباما الكبيرة لجمع كل حلفاء أمريكا في منطقة آسيا والمحيط الهادئ معا في منطقة تجارة حرة عملاقة واحدة. وكيف توقع الجميع انهيارها عندما سحب دونالد ترامب الولايات المتحدة من تلك الشراكة في عام 2016، غير أن آبي تولى زمام القيادة وأنشأ على غرار الشراكة، الاتفاقية الشاملة والتقدمية للشراكة عبر المحيط الهادئ أو (سي بي تي بي بي). مما أكد استعداد اليابان لتولي زمام المبادرة في آسيا. والأهم من ذلك هو التغييرات التي أجراها آبي على الجيش الياباني، ففي عام 2014، فرض آبي تشريعا “أعاد تفسير” دستور اليابان السلمي لما بعد الحرب. وسمح هذا لليابان بممارسة “الدفاع الجماعي عن النفس”، وهذا يعني ولأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية، أن اليابان قادرة على الانضمام إلى حليفتها الولايات المتحدة في عمل عسكري خارج حدودها. ويرى مستشار آبي السابق كازوتو سوزوكي أنه “كان لدى آبي رؤية مستقبلية للغاية، فقد رأى أن الصين ستنهض، وأن الولايات المتحدة ستنسحب من المنطقة. وأدرك بالتالي أننا بحاجة إلى امتلاك القوة للدفاع عن أنفسنا”.[18]
يقف وراء كل تلك الرؤى الاستراتيجية اليابانية وإحيائها وهندستها، رجل واحد مثير للجدل والإعجاب في آن واحد وهو “شينزو آبي”، ومهما كان من اختلاف حول ما يمكن قوله عن “آبي” “السياسي” أو “القومي”، إلا أنه لا يمكن لأحد في اليابان أن ينكر أن “آبي الإستراتيجي الكبير”، يمتلك التأثير الأكبر على الوضع والتفكير الأمني والإستراتيجي لليابان منذ الحرب العالمية الثانية، ومن المؤكد أن خلفه المباشر بعد خروجه من رئاسة الوزراء “يوشيهيدي سوقا”، وحتى الأجيال القادمة من رؤساء الوزراء اليابانيين، سيكون عليهم العيش في ظل “شرعية آبي الإستراتيجية” بشكل أو بآخر.[19]
الخاتمة: قد يختلف اليابانيون حول آبي كشخصية سياسية ذات توجهات توصف بالقومية وحتى باليمينية المتطرفة، إلى الحد الذي لم يسبق فيه لليابان على الأقل منذ فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، أن امتلكت رئيس وزراء بذلك القدر من الجدل وإثارة النقاش والاختلاف، فكثيرا ما خرجت مظاهرات صاخبة وكبيرة معارضة له تحمل شعار “إرحل آبي”، وتوازى ذلك مع مقالات وتوصيفات صحفية وإعلامية عنيفة تجاهه مثل نعته بالعدواني وبالمحتقر للمعارضة والساخر منها، بل وصل الأمر إلى حد اغتياله ذات جمعة من صيف عام 2022، ورغم ان تلك الرصاصة كانت كفيلة بإسكاته للأبد، لكنها لم تتمكن لحد الآن ولن تتمكن حتى بعد مرور عقود طويلة من تاريخ اليابان وربما أكثر، من محو اسم آبي وطمس تراثه الفكري والاستراتيجي المؤثر في تاريخ بلاد الشمس المشرقة. وسواء كان استمرار ذلك الإرث الكبير مرفوقا بالنقد أو بالمدح والإجلال، فذلك في حد ذاته من المكرمات لجهود سياسي وصف برجل الدولة القوي، وبصاحب الرؤى الثاقبة، وبالاستراتيجي الكبير، وبالمجدد في الفكر السياسي الياباني. إلى الحد الذي تجاوز فيه صيته اليابان، ليبلغ أكبر مجامع الفكر الاستراتيجي الغربية والآسيوية، فتوصيفات ومبادرات وسياسات من قبيل الهندوباسيفيك، وآسيا الأكبر، والهندوباسيفيك الحرة والمفتوحة، ومنتدى الحوار الأمني الرباعي، وممر النمو الأفرو – آسيوي، وقوس الاستقرار والازدهار وغيرها، والتي أضحت تشكل أركانا أساسية في لغة وأجندة التفكير الاستراتيجي المعاصر، لا يمكنها أن تذكر إلا وهي مقرونة بآبي الاستراتيجي الكبير، رغم كل ما يثيره ذلك الاسم من جدل ونقاش واختلاف.
المصادر
[1]– شينزو آبي.. سياسي ياباني أنهت مشواره رصاصة في القلب، الجزيرة نت، 8 يوليو 2022.
https://2u.pw/s9L5fELu
[2]– Jennifer Lind, Why Shinzo Abe Thought Japan Had to Change: Will His Vision for a Stronger Country Outlive Him?, Foreign Affairs, July 12, 2022. https://www.foreignaffairs.com/articles/japan/2022-07-12/why-shinzo-abe-thought-japan-had-change
[3]– كوغا كو، “شينزو آبي قائد محنّك أثرى الحياة السياسية وترك بصمة لا تٌنسى في تاريخ اليابان”، اليابان بالعربي، 22 جويلية 2022. https://www.nippon.com/ar/japan-topics/g02169/#:~:text=%D9%84%D9%82%D8%AF%20%D9%83%D8%A7%D9%86%20%D8%A7%D8%
[4]– Jennifer Lind. Op. Cit.
[5]– إميلي س. تشن، هل تودع اليابان دستور السلام؟، الجزيرة نت، 14 نيسان 2016. في:
https://2u.pw/tP3xZzio
[6]– Jennifer Lind. Op. Cit.
[7]– روبرت وينغفيلد هايز، شينزو آبي: لماذا تثير قضية إقامة جنازة رسمية لرئيس وزراء اليابان السابق الكثير من الجدل؟، بي بي سي عربي، 26 أيلول / سبتمبر 2022. https://www.bbc.com/arabic/world-63032094
[8]– Sanjay Pulipaka and Mohit Musaddi. In Defence of the ‘Indo-Pacific’ Concept, ORF issue briefs, issue N° 493, (New Delhi, Observer Research Foundation, September, 2021). p. 3.
[9]– Bibek Chand and Zenel Garcia. Constituting the Indo-Pacific: Securitisation and the Processes of Region-Making, International Quarterly for Asian Studies, Vol. 52, N° 1, 2, (2021). p. p 18, 19.
[10]– Jeff M. Smith, The Quad 2.0: A Foundation for a Free and Open Indo–Pacific, Backgrounder, N° 3481, (Washington, The Heritage Foundation, July 6, 2020). p. p 6, 7.
[11]– Nadia Gisela Radulovich. Op. Cit.
[12]– Axel Berkofsky, Japan and the Indo – Pacific: Alive and Kicking, In: Axel Berkofsky and Sergio Miracola (Eds), Geopolitics by other mean: The Indo – Pacific reality. (Milano, Ledizioni Ledi Publishing, February 2019). p. 100.
[13]– Pooja Bhatt. Evolving Dynamics in the Indo-Pacific Deliberating India’s Position, Journal of Indo-Pacific Affairs, Fall 2018. p. 55.
[14]– Wada Haruko. The “Indo-Pacific” concept geografical adjustments and their implications, RSIS Working Paper series, N° 326, (Singapore, S. Rajarantam school of international studies, 16 March 2020). p. 9.
[15]– Pooja Bhatt. Op. Cit. P. p 55, 56.
[16]– Asia A Africa growth corridor, partnership for sustainable and innovative development, African development bank meeting, Ahmed Abad, India. 22 – 26 May 2017. https://bit.ly/3WhbH9i
[17]– Shinzo Abe, Asia’s democratic security diamond, Project syndicate magazine, (New York, December 27, 2012). https://www.project-syndicate.org/magazine/a-strategic-alliance-for-japan-and-india-by-shinzo-abe.
[18]– روبرت وينغفيلد هايز، مرجع سابق.
[19]– John Hemmings, Measuring Shinzo Abe’s Impact on the Indo‐Pacific, Asia Pacific bulettin, Number 536, (Washington, EastWestCenter, October 21, 2020). https://www.eastwestcenter.org/publications/measuring-shinzo-abe%E2%80%99s-impact-the-indo-pacific.



