الاكثر قراءةتحليلات و آراءغير مصنف
الاكراد بعد 102 عامًا من معاهدة لوزان: بين آمال سيفر وتحديات الحاضر

بقلم: الباحث بختيار أحمد صالح
مقدمة
مرت 102 سنة على توقيع معاهدة لوزان عام 1923، التي شكلت نهايةً رسمية للحلم الكردي الأول في الحصول على دولة مستقلة. هذا الحلم، الذي كان قد لامس حدود التحقق في معاهدة سيفير عام 1920، تبدد ليترك الأكراد موزعين بين أربع دول رئيسية: تركيا، العراق، سوريا، وإيران، دون كيان سياسي جامع أو تمثيل دولي موحد. تطرح الذكرى السنوية الـ102 لمعاهدة لوزان أسئلة جوهرية حول واقع الأكراد اليوم، ومدى تغير موقعهم في خريطة الشرق الأوسط المضطربة التي تشهد تحولات جيوسياسية مستمرة. هذه الورقة البحثية تسعى لاستكشاف المسار التاريخي الذي أدى إلى الوضع الراهن، وتحليل التحديات الداخلية والخارجية التي تواجه الأكراد، مع تسليط الضوء على سيناريوهات المستقبل المحتملة.
من سيفر إلى لوزان: لحظة تاريخية ضائعة ومصالح متغيرة
في عام 1920، وبعد نهاية الحرب العالمية الأولى وتفكك الدولة العثمانية، نصّت معاهدة سيفر على منح الأكراد حق تقرير المصير، بل ومنحتهم مهلة عام لتقديم طلب رسمي إلى عصبة الأمم لتأسيس دولتهم المستقلة. كانت تلك اللحظة بمثابة بصيص أمل كبير للقوميين الأكراد، الذين رأوا فيها فرصة تاريخية لتحقيق تطلعاتهم. غير أن هذه الآمال سرعان ما تبخرت وتلاشت أمام صعود حركة المقاومة التركية بقيادة مصطفى كمال أتاتورك. تمكن أتاتورك من إعادة تشكيل الجيش العثماني المهزوم، وتحقيق انتصارات عسكرية وسياسية حاسمة ضد القوى الغربية، مما أدى إلى مراجعة شاملة للترتيبات الإقليمية. لقد كان التحول الدراماتيكي من سيفير إلى لوزان نتيجة لعدة عوامل متضافرة:
-
صعود الكمالية وتكريس الجمهورية التركية: تمكن أتاتورك من فرض رؤيته لدولة تركية حديثة ذات حدود واضحة، مستندًا إلى قومية تركية قوية. هذا الصعود غير موازين القوى في المنطقة وأجبر القوى الغربية على إعادة تقييم استراتيجياتها.
-
تغير المصلحة الغربية: بعد أن كانت القوى الغربية تسعى لتفكيك الإمبراطورية العثمانية ودعم الأقليات كأداة لذلك، أصبحت الأولوية بعد فترة وجيزة تتمثل في إقامة علاقات مستقرة مع الجمهورية التركية الوليدة. رأى الغربيون في تركيا حليفًا محتملًا واستقرارًا ضروريًا في المنطقة، ففضلوا التنازل عن بنود سيفر المتعلقة بالقضية الكردية.
-
تفكك الجبهة الكردية نفسها: في لحظة حاسمة، لم تكن القيادة الكردية موحدة. حيث انقسمت الزعامات الإقطاعية والعشائرية الكردية، وانضم بعضها إلى صف الأتراك لأسباب سياسية أو اقتصادية أو عشائرية، مما أضعف الموقف الكردي التفاوضي وحرمهم من الصوت الموحد الذي كان يمكن أن يكون له تأثير أكبر.
اللحظة الكردية المعاصرة: التراجع والانسحاب
في عام 2025، يبدو الأكراد أكثر انقسامًا وأقل قدرة على التأثير في المشهد الإقليمي والدولي مما كانوا عليه قبل قرن. رغم التضحيات الجسام التي قدموها في صراعات مختلفة، لا سيما في الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، فإن مكاسبهم تبدو هشة وقابلة للتراجع. من أبرز مظاهر هذا التراجع والانسحاب على مستوى الأهداف القومية الكبرى:
-
تفكك التنظيمات السياسية وواقعية المطالب: شهدت السنوات الأخيرة تحولًا في خطاب العديد من التنظيمات الكردية. على سبيل المثال، أعلن حزب العمال الكردستاني (PKK)، الذي كان يرفع راية الدولة المستقلة، عن إنهاء العمل المسلح في تركيا والتخلي عن حلم الدولة المستقلة، منتقلًا إلى المطالبة بالحقوق الثقافية والإدارية ضمن الدولة التركية. هذا التغيير، رغم كونه خطوة نحو الواقعية، يعكس تراجعًا في السقف الطموحات القومية.
-
ضعف الأكراد السوريين والتهميش الدولي: رغم وجود إدارة ذاتية في شمال شرق سوريا (روج آفا) التي سيطرت على مساحات واسعة وقادت المعركة ضد داعش بدعم غربي، إلا أن الأكراد هناك يعانون من تهميش دولي واضح. هم محاطون بضغط تركي مستمر عبر عمليات عسكرية متكررة، وتشتت قيادي داخلي، وعدم اعتراف دولي رسمي بإدارتهم، مما يجعل وضعهم القانوني والسياسي غير مستقر.
-
فقدان التأثير في إيران: الأحزاب الكردية الإيرانية المعارضة، مثل الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني (PDKI) وحزب كومله، فقدت قواعدها الشعبية والعسكرية داخل إيران بشكل كبير. أصبحت هذه الأحزاب بلا فعالية سياسية أو عسكرية تُذكر، وتقتصر تحركاتها في الغالب على حدود إقليم كردستان العراق، مما يحد من قدرتها على التأثير في السياسة الداخلية الإيرانية.
-
ضعف النموذج الكردي العراقي وأزماته الداخلية: كان إقليم كردستان العراق يُنظر إليه كنموذج واعد للحكم الذاتي الكردي. لكنه اليوم يعاني من انقسام حاد بين الحزبين الرئيسيين، الحزب الديمقراطي الكردستاني (PDK) والاتحاد الوطني الكردستاني (PUK). هذا الانقسام أدى إلى شل المؤسسات، تفشي الفساد الإداري والمالي، وتراجع في مؤسسات الحكم المحلي والبرلمان. كما أن الإقليم يعاني من مشاكل اقتصادية وديون متراكمة، وتدخلات إقليمية تحد من استقلاليته.
لوزان الجديد (إسرائيل، الدروز، والأكراد)
ظهور إسرائيل كفاعل جديد في قضايا الأقليات الإقليمية، مثل دعمها للدروز في السويداء بسوريا، يفتح تساؤلات حول ما إذا كانت تلعب دورًا موازيًا للدور الفرنسي البريطاني في سيفر، خاصة مع العلاقات غير الرسمية التي ربطتها ببعض الفصائل الكردية في الماضي. لكن هذا الدور محاط بقيود استراتيجية أهم:
-
لا مصلحة دولية حقيقية بدولة كردية: على الرغم من بعض التقاربات الظرفية، فإن الدول الكبرى، وحتى إسرائيل، ليست مستعدة للمخاطرة بعلاقاتها الإقليمية والدولية من أجل دعم قيام دولة كردية مستقلة. المصالح الجيوسياسية الحالية للدول الفاعلة لا تتوافق مع إعادة رسم حدود المنطقة بشكل جذري.
-
الأولويات الإسرائيلية الاستراتيجية: تتركز الأولويات الإسرائيلية بشكل أساسي على الأمن القومي، وملف الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، والتهديدات الإيرانية (البرنامج النووي، النفوذ الإقليمي)، وتطورات الأوضاع في لبنان وغزة. دعم دولة كردية مستقلة لا يندرج ضمن هذه الأولويات الاستراتيجية الكبرى.
-
الدعم الإسرائيلي يظل تكتيكيًا: أي دعم تقدمه إسرائيل للأقليات في المنطقة، بما في ذلك الأكراد، هو دعم تكتيكي بحت يهدف إلى تحقيق أهداف قصيرة المدى أو إضعاف خصوم إقليميين، وليس مشروعًا استراتيجيًا طويل الأمد يهدف إلى تغيير الخارطة السياسية للمنطقة.
التحدي الداخلي: أزمة القيادة الكردية وانقسام المشروع القومي
إن أخطر ما يواجه الأكراد اليوم ليس الأعداء الخارجيين بقدر ما هو غياب المشروع الموحد والانقسام العميق في الصف الكردي. هذا التحدي الداخلي يقوض أي فرصة لتقديم رؤية موحدة للعالم أو استغلال الفرص الجيوسياسية:
-
غياب قيادة كردية جامعة: خلافًا للفترة التي سبقت معاهدة سيفير حيث كان هناك شخصيات مثل الشريف باشا التي حاولت تمثيل الأكراد في المحافل الدولية، أو قادة مؤثرين في فترة سيفر، فإن الساحة الكردية اليوم تفتقر إلى قيادة موحدة وذات رؤية استراتيجية جامعة. الانتماءات الحزبية والعائلية والعشائرية تطغى على المصلحة القومية العليا.
-
تبعثر الفصائل المسلحة وارتباطاتها الخارجية: أصبحت العديد من الفصائل المسلحة الكردية تُدار أو تتأثر بشكل كبير بقوى إقليمية ودولية أكثر مما تدير هي مشروعها القومي المستقل. هذا الارتباط يحد من استقلاليتها في اتخاذ القرار ويجعلها أدوات في صراعات أوسع نطاقًا.
-
قبول نخب سياسية كردية بـقواعد لوزانية: حتى بعض النخب السياسية الكردية، بما في ذلك أطراف كانت تعتبر يسارية أو ثورية مثل PKK في بعض جوانب خطابه الحالي، أصبحت تقبل ضمنيًا بقواعد لوزانية تحرمهم من الطموحات القومية الكبرى، وتدفعهم نحو البحث عن حقوق ثقافية وإدارية ضمن حدود الدول القائمة، بدلًا من السعي لدولة مستقلة.
أردوغان وفيدان: آتاتوركيون جدد بأدوات حديثة؟
يبدو أن النظام التركي بقيادة الرئيس رجب طيب أردوغان ورئيس الاستخبارات السابق ووزير الخارجية الحالي هاكان فيدان يسعى لتكرار ما فعله أتاتورك وعصمت إينونو قبل قرن، ولكن بأدوات حديثة وأكثر تعقيدًا:
-
الاستخبارات بدل الجيش: لم تعد تركيا تعتمد فقط على القوة العسكرية المباشرة في التعامل مع القضية الكردية. فهاكان فيدان، كرجل مخابرات من الطراز الأول، يتولى هندسة الملفات الكردية في سوريا والعراق عبر أدوات استخباراتية معقدة، تشمل التغلغل، جمع المعلومات، بناء شبكات، والتلاعب بالانقسامات الداخلية.
-
الاحتواء بدل الإبادة المباشرة: مقارنة بالسياسات السابقة التي كانت تعتمد على القمع والإبادة، فإن تركيا اليوم تمارس سياسة احتواء أكثر تطورًا. هي لا تسعى فقط لإبادة الأكراد، بل تستثمر في الانقسام الداخلي الكردي، وتبرم تفاهمات أمنية مع بعض القوى الكردية (مثل أربيل في العراق وبعض الفصائل السورية) لضمان مصالحها الأمنية ومنع تشكل أي كيان كردي موحد على حدودها.
-
خلق مناطق عازلة ونفوذ تركي: تهدف السياسة التركية الحديثة إلى إنشاء مناطق نفوذ أو مناطق آمنة على حدودها الجنوبية، مما يعزل المناطق الكردية عن بعضها البعض ويجعلها تحت السيطرة التركية المباشرة أو غير المباشرة.
خاتمة: الأكراد بين سندان الواقع ومطرقة التاريخ
بعد 102 سنة من لوزان، لا يزال الأكراد أسيري لحظة تاريخية مفقودة بين سيفر المثالية ولوزان الواقعية. بينما يبدو المشروع القومي الكردي في تراجع كبير، فإن خارطة الشرق الأوسط المضطربة لا تقدم بوادر لعودة حلم الدولة الكردية في المدى القريب، لا سيما مع رفض إقليمي (من قبل تركيا، إيران، وسوريا) ودولي واسع لأي تغيير جذري في الحدود القائمة.
إن التحدي الأكبر الذي يواجهه الأكراد اليوم ليس خارجيًا بالدرجة الأولى، بل داخليًا: كيفية تجاوز لعنة الانقسام التاريخي وتضارب المصالح الفصائلية والعشائرية، وبناء مشروع وطني موحد يرتكز على رؤية مشتركة، سواء كان ذلك باتجاه دولة مستقلة (وهو أمر يبدو بعيد المنال حاليًا) أو نحو حكم ذاتي موسع ومستقر ضمن الدول القائمة مع ضمان الحقوق الكاملة.
يبقى السؤال مفتوحًا: هل ينجح الأكراد أخيرًا في تجاوز هذا الانقسام التاريخي وبناء مشروع وطني موحد وقيادة ذات رؤية استراتيجية، أم يبقون رهائن الجغرافيا والسياسة، تنتظرهم قرون أخرى من البحث عن الذات في ظل تحديات متزايدة؟ مستقبل الأكراد يعتمد بشكل كبير على قدرتهم على حل أزماتهم الداخلية وتوحيد صفوفهم.
المراجع
-
Gunter, M. M. (2020). The Kurds: A Modern History. Markus Wiener Publishers.
-
Natali, D. (2005). The Kurds and the State: Evolving National Identity in Iraq, Turkey, and Iran. Syracuse University Press.
-
Bengio, O. (2019). The Kurds in a Volatile Middle East. Routledge.
-
McDowall, D. (2004). A Modern History of the Kurds (3rd ed.). I.B. Tauris.
-
Romano, D. (2006). The Kurdish Nationalist Movement: Opportunity, Mobilization and Identity. Cambridge University Press.
-
Yildiz, K. (2005). The Kurds in Iraq: The Past, Present and Future. Pluto Press.
-
Entessar, N. (2010). Kurdish Politics in the Middle East. Lexington Books.
-
Kaya, Z. (2021). Mapping Kurdistan: Territory, Self-Determination and Nationalism. Cambridge University Press.



