الاكثر قراءةتحليلات و آراءغير مصنف
تعثر المفاوضات في غزة: بين تكتيك الاستنزاف ومخاطر التهجير الممنهج

بقلم: نور نبيه جميل/ باحثة في مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية
المقدمة
يتواصل التصعيد في قطاع غزة ضمن سياق إقليمي ودولي متوتر، وفي ظل فشل متكرر للمفاوضات غير المباشرة بين حركة المقاومة الإسلامية حماس و(إسرائيل). وقد أصبح من الواضح أن تعثّر هذه المفاوضات لا يمكن عزله عن البنية العميقة للصراع، ولا عن الاستراتيجيات بعيدة المدى التي تنتهجها (إسرائيل)، سواء تجاه قطاع غزة أو تجاه الشعب الفلسطيني عمومًا. فالفشل المتكرر لا يعكس فقط تباينًا في المواقف التفاوضية، بل قد يشير إلى استخدام متعمد لمسار التفاوض كأداة استنزاف سياسي وعسكري، وكتمهيد محتمل لتحولات ميدانية خطيرة، في مقدّمتها مشروع التهجير الممنهج.
التفاوض كتكتيك استنزاف وليس أداة تسوية
لقد بات نمط التفاوض المعتمد بين (إسرائيل) وحركة حماس، عبر وساطات إقليمية ودولية، قائمًا على تكرار الطروحات دون نية حقيقية للوصول إلى اتفاق شامل أو مستدام وذلك لاستمرار تضارب المواقف والرؤى والمصالح وعدم وجود أي تنازلات او تنسيق حقيقيّ لاسيما من جانب (اسرائيل). وتُظهر الوقائع أن (إسرائيل) تتبع استراتيجية مُمأسسة للمماطلةبمعنى أنها لم تعد تصرفًا عشوائيًا أو ظرفيًا، بل أصبحت جزءًا من سياسة منهجية تتبعها عبر مؤسساتها (منها الجيش، الحكومة، الأجهزة الدبلوماسية، إلخ)اذ أنها أصبحت سلوكًا ممنهجًا ومدعومًا ببُنية تنظيمية، لا مجرد قرار فردي أو ظرفي، تتيح لها تحسين شروط المعركة على الأرض، وإضعاف قدرة المقاومة على تحقيق مكاسب سياسية. ويُلاحظ في هذا السياق، أن كل جولة تفاوضية ترافقت مع تصعيد عسكري، أو انتهت بانهيار التفاهمات، بما يدعم فرضية أن (إسرائيل) تستخدم التفاوض ليس كأداة لحل النزاع، بل كغطاء لتوسيع عملياتها الميدانية وترسيخ وقائع جديدة.
فالفشل يعد كمؤشر على نوايا تصعيد أوسع اذ يرجّح عدد من المؤشرات أن فشل المفاوضات المتكرر لا يُعد مجرد نتيجة طبيعية لتعقيد الشروط، بل جزء من تهيئة متعمدة لمرحلة تصعيد عسكري أشمل. ويذكّر هذا المسار بسوابق مشابهة في أعوام سابقة، حين سبقت العمليات العسكرية الكبرى انهيار في المسارات السياسية، خصوصًا في حرب عام 2014. وضمن هذا المنطق، يبدو أن إطالة أمد التفاوض تخدم وظيفة استراتيجية لـ(إسرائيل)، تتمثل في إنهاك القوى الفلسطينية سياسيًا وعسكريًا، وتفكيك الجبهة الداخلية، وتبرير أي تصعيد مستقبلي تحت ذريعة تعنّت الطرف الآخر.
التهجير القسري كهدف استراتيجي معلن
من بين أخطر ما تطرحه السياسات الراهنة لـ(إسرائيل) هو سعيها إلى تغيير البنية الديموغرافية لقطاع غزة من خلال الحرب. فقد صدرت عن مسؤولين في الحكومة الإسرائيلية تصريحات واضحة تدعو إلى دفع سكان القطاع نحو الهجرة، سواء إلى سيناء أو إلى دول أخرى، بما يشير إلى أن مشروع التهجير لم يعد مخططًا خفيًا، بل أصبح ضمن الرؤية الاستراتيجية لبعض الدوائر اليمينية المتطرفة داخل (إسرائيل). إن استمرار العمليات العسكرية، بالتوازي مع إفشال المسارات السياسية، يهدف في جوهره إلى خلق ظروف قهرية تؤدي إلى الإفراغ التدريجي للقطاع من سكانه، وهو ما يمثّل جريمة تطهير عرقي بموجب القانون الدولي. ويضهر الاتي كمؤشر عن المواقف:
1. الموقف المصري والوساطة الإقليمية
في ظل هذا المشهد، تلعب مصر دور الوسيط الرئيسي، إلا أن قدرتها على التأثير على سلوك (إسرائيل) تبقى محدودة. فبالرغم من جهودها لمنع انهيار التفاهمات، تُدرك أن هناك حدودًا قصوى لتأثيرها، خاصة في ظل انحياز القوى الغربية – وفي مقدّمتها الولايات المتحدة – للرؤية (الإسرائيلية). كما أن رفض مصر القاطع لأي مشاريع لتوطين الفلسطينيين في سيناء، يُعد موقفًا ثابتًا يحدّ من المناورات الإسرائيلية، إلا أنه غير كافٍ لوقف التصعيد أو فرض حل سياسي عادل.
2. التحوّل في طبيعة (إسرائيل) واستعصاء الفهم العربي التقليدي
واحدة من أخطر الثغرات في التعاطي العربي الرسمي مع الأزمة هي الاستمرار في فهم (إسرائيل) بوصفها كيانًا عقلانيًا يمكن احتواؤه عبر التسوية. بينما الواقع يشير إلى تحوّل (إسرائيل) في العقود الأخيرة إلى كيان ديني–استيطاني–قومي متطرف، تُهيمن عليه قوى سياسية ترى في “أرض إسرائيل الكبرى” عقيدة لا تقبل التجزئة، وفي الفلسطينيين وجودًا يجب محوه. وهذا التحوّل يستدعي إعادة صياغة الرؤية العربية تجاه طبيعة الصراع، إذ لم يعد ممكناً التعامل مع (إسرائيل) كطرف يمكن التفاهم معه، بل كمشروع إحلالي يستند إلى أسس عقائدية وأمنية متشابكة.
اما السياق الإقليمي والبعد المتصل بالجمهورية الإسلامية الإيرانية) لا يمكن عزل تعقيد الموقف في غزة عن البنية الإقليمية الأوسع، خصوصًا ما يرتبط بالصراع المباشر وغير المباشر بين (إسرائيل) والجمهورية الإسلامية الإيرانية. إذ ترى (إسرائيل) في حركة حماس جزءًا من “محور المقاومة” الذي يمتد من الجمهورية الإسلامية الإيرانية إلى لبنان وفلسطين، وهو ما يجعل من غزة ساحة تصفية حسابات إقليمية، تُستخدم فيها أدوات الحرب والسياسة معًا. وعليه، فإن أي حل سياسي في غزة سيبقى مؤجلاً ما دامت هذه المواجهة غير المباشرة مستمرة بين الطرفين، خصوصًا في ظل سعي (إسرائيل) إلى تفكيك المحور واستنزافه على جبهات متعددة.
الانتهاكات الإنسانية وإنكار المجاعة: سياسة التجويع كأداة حرب
يشكّل الوضع الإنساني في قطاع غزة أحد أسوأ الكوارث الإنسانية المعاصرة، حيث تسببت الحرب المتواصلة والحصار المشدد في انهيار منظومة الحياة الأساسية بالكامل. وبحسب تقارير صادرة عن منظمات أممية، فإن أكثر من مليون فلسطيني يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد، فيما بات خطر المجاعة واقعًا يوميًا، لا سيما في شمال القطاع. وقد وثّقت جهات موثوقة، منها مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) وبرنامج الغذاء العالمي، أن سكانًا في بعض المناطق اضطروا إلى أكل أوراق الأشجار وأعلاف الحيوانات، في مشهد يعبّر عن تجويع ممنهج يُستخدم كسلاح ضغط جماعي.
ورغم هذه الحقائق الموثّقة، أطلق الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب مؤخرًا تصريحًا مثيرًا للجدل، قال فيه:
“لا توجد مجاعة في غزة انما سوء تغذية، هذه أكذوبة يتم تضخيمها لأغراض سياسية.”
هذا التصريح يُعدّ، من منظور القانون الدولي الإنساني، مساهمة في إنكار جريمة محتملة ضد الإنسانية، ويعكس انحيازًا أيديولوجيًا يُغطي على استخدام (إسرائيل) لسياسة الحصار والتجويع كأدوات حرب، في انتهاك صارخ لاتفاقيات جنيف، التي تحظر استهداف المدنيين وتجويعهم بشكل مباشر أو غير مباشر.
كما أن تكرار قصف قوافل الإغاثة، واستهداف العاملين في المجال الإنساني، ومحاصرة المستشفيات ومنع إدخال المعدات الطبية، تُعدّ جميعها انتهاكات جسيمة ترتقي إلى جرائم حرب، وتضع (إسرائيل) في موضع المساءلة الدولية. لكنّ غياب المحاسبة، واستمرار الدعم الغربي غير المشروط، يُسهم في تطبيع الجريمة وتقويض شرعة القانون الدولي.
وفي هذا الإطار، ينبغي النظر إلى المسار التفاوضي – أو فشله المتعمّد – ضمن استراتيجية أوسع تشمل أدوات عسكرية واقتصادية ونفسية، وعلى رأسها التجويع والحرمان من الدواء والرعاية الصحية والمأوى، كوسائل ضغط لإخضاع سكان القطاع ودفعهم إلى خيارات قسرية، من بينها النزوح أو الاستسلام التام.
الخلاصة وتوصيات
تكشف المفاوضات المتعثرة بين (إسرائيل) وحماس عن مسار سياسي مغلق، لا يستند إلى نوايا حقيقية لتسوية عادلة، بل إلى استراتيجية منظمة تهدف إلى إطالة أمد الحرب، وتقويض صمود السكان، وفرض واقع جديد بالقوة. وهذا يتطلّب من الدول العربية، ومن المؤسسات الإقليمية والدولية، إعادة تقييم شاملة لاستراتيجياتها وخطابها تجاه (إسرائيل)، بواسطة الاتي:
1.تبني توصيف واقعي لطبيعة (إسرائيل) باعتبارها كيانًا استيطانيًا إحلاليًا لا يقبل بالشراكة.
2.رفض سياسة التفاوض المفتوح دون سقوف واضحة ومرتبطة بمرجعيات قانونية ودولية.
3.تعزيز الدعم الإنساني والسياسي لصمود الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، ومنع تحوّل الضغط الإنساني إلى وسيلة تهجير قسري.
4.الانفتاح على أدوات ضغط دولية قادرة على فرض التزامات حقيقية على (إسرائيل)، بدلًا من الاكتفاء بإدانات شكلية.
في الختام، فإن القضية لم تعد مسألة تفاوض جزئي، بل باتت تتعلق بـصراع وجودي مفتوح، تُعيد فيه (إسرائيل) إنتاج مشروعها الاستيطاني بثوب أكثر تطرفًا، مستفيدة من لحظة إقليمية مضطربة، وسياقات دولية منحازة.



