الاكثر قراءةتحليلات و آراءغير مصنف
عاصفة تموز ( يوليو) : المناورات البحرية الروسية في البحار الاستراتيجية بين اختبار الجاهزية والرسائل السياسية

بقلم: حسن فاضل سليم
باحث في مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية
اجرت روسيا في المدة بين 23- 27 يوليو تموز من العام الجارِ 2025 مناورات بحرية لأساطيلها الاربع الكبرى في مناطق بحرية استراتيجية هي المحيط الهادئ والمحيط المنجمد الشمال وبحر قزوين بالاضافة الى بحر البلطيق وذلك في مسعى لاختبار الجاهزية القتالية للقوات البحرية واختبار الاسلحة المتطورة التي اضيفت لسلاح البحرية من بينها مجموعة من الغواصات النووية الجديدة ، تحاول هذه المقالة قراءة هذه المناورات من حيث الاسلحة المستخدمة ومن حيث الرسائل السياسية المتوخاة منها، لاسيما انها جاءت بالتزامن مع جولة المحادثات في اسطنبول، مما يجعل هذه المناورات حدثاً مهماً في سياق الصراع الاستراتيجي البحري بين روسيا والغرب.
أولاً: البحرية الروسية و السفن القتالية غير المأهولة :
سبق ان اعلنت البحرية الروسية في ايار من عام 2024 عن تشكيل افواج بحرية تتألف من السفن غير المأهولة المدعومة بتقنيات الذكاء الاصطناعي، في خطوة نحو تبني ممارسات قتالية تعتمد بشكل أقل على العنصر البشري ،مستفيدة في ذلك من تجاربها في الحرب الاوكرانية التي شكلت ميداناً مهما لابتكار وتطوير المركبات غير المأهولة المدعومة بالذكاء الاصطناعي .
وتضم هذه الافواج الجديدة انواع مختلفة من القطع البحرية غير المأهولة مثل الزوارق و الغواصات و السفن الحربية المسيرة بالاضافة الى الطائرات من دون طيار الجوية.
وقد شاركت بعض هذه القطع البحرية في المناورة، إذ شاركت حوالي 150 قطعة بحرية سواء كانت مأهولة ام غير مأهولة ، بالاضافة الى 120 طائرة مقاتلة، كما تم اختبار جاهزية الاسطول للعمليات العسكرية غير التقليدية واستخدام الاسلحة البعيدة المدى والتكنولوجيا المتقدمة ، وقد ادار هذه التدريبات قائد القوات البحرية الاميرال (الكسندر مويسيف) كما تمت باشراف الرئيس الروسي (فلاديمير بوتين).
ومن جانب ذي صلة فان الانظمة غير المأهولة التي تعمل بتقنيات الذكاء الاصطناعي ستشكل فارقا في استراتيجية توازن الردع النووي بين روسيا وحلف الناتو، لاسيما وان روسيا اختبرت غواصات نووية جديدة خلال المناورات واعلنت عن عزمها تعزيز اطقم هذه الغواصات بالاضافة الى زيادة عدد الغواصات في البحرية الروسية، فقد اعلن الرئيس الروسي (فلاديمير بوتين) في اختتام المناورات عن استراتيجية لتطوير القوات البحرية حتى عام 2050 تتضمن زيادة الاعتماد على الغواصات النووية والتي اعتبرها بانها تشكل حجر الاساس في الثالوث النووي الروسي ، مما يعني ان روسيا تستعد لمواجهة بحرية محتملة مع دول الناتو وتستند على غواصاتها النووية ذات قدرات التخفي العالية كمنصات متحركة لشن الضربة النووية، لاسيما ان استراتيجية الضربة النووية الانتقامية التقليدية تتطلب ان تبقى بعض المنصات النووية المتحركة بعيداً عن اراضي الوطن لكي تعمل على تنفيذ الضربة الانتقامية الشاملة في حال تعرض البلد الى ضربة نووية اولى وحتى ثانية مدمرة.
ومن الجدير بالذكر ان روسيا انتجت الغواصة (بيلغورد- كا 329) النووية غير المأهولة والعابرة للقارات والمزودة بطوربيدات من طراز (بوسيدون) تعمل بمحركات نووية ، إذ ان الطوربيد الواحد قادر على حمل رأس نووي بقوة 100 ميغا طن (100 مرة ضعف قنبلة هيروشيما ونكازاغي) مما يجعله صاروخ نووي متحرك في البحار لذلك اطلق عليه الروس لقب(سلاح يوم القيامة) ، ويعمل بوسيدون بنظام توجيه ذاتي ، مما يعني ان روسيا اصبحت قادرة على برمجة غواصاتها ذاتية الحركة من طراز (بيلغورد- كا329) لكي تقوم بشن ضربة انتقامية نووية بشكل ذاتي ودون تدخل البشر في حال تعرض الاراضي الروسية الى ضربة نووية مدمرة، باستخدام طوربيد بوسيدون ذاتي الحركة ، وذلك كله يجري في اطار تعزيز قدرات الردع الروسية ضد حلف الناتو.
وقد شملت المناورة بشكل عام حوالي 550 تدريبا في كافة الاساطيل الروسية في البحار الاربع المختلفة، من بينها تدريبات على اطلاق متزامن للصواريخ البعيدة المدى والدقيقة، وقد تم التدريب على سيناريوهات قتال بحرية حديثة وغير تقليدية بهدف التصدي لاي هجوم بحري محتمل ضد الاراضي الروسية.
ثانياً: الرسائل السياسية الروسية من مناورات عاصفة تموز ( يوليو ) :
من المعتاد إن أي مناورات عسكرية تتضمن رسائل قوة موجهة الى الخصوم حيث أنها تمثل نوعاً من أنواع استعراض القوة والتهديد بالإضافة الى كونها تدريبات عسكرية لاختبار الجاهزية، وفي ظل استمرار الحرب في أوكرانيا بالإضافة الى تزايد الحديث والاستعدادات في أوروبا لحرب محتملة مع روسيا في ظل ارتفاع مخاوف الاوروبيين من تنامي قدرات روسيا واحتمال نجاحها في الحرب الاوكرانية، ووفقاً لكل ذلك فأن توقيت مناورة عاصفة تموز (يوليو) جاء مناسباً لحالة التوتر المتصاعدة في القارة الاوروبية، حيث حملت هذه المناورة رسائل قوة موجهة ليس الى اوكرانيا فقط بل الى حلفائها الغربيين ، لاسيما بعد حديث قائد القيادة الامريكية في اوروبا وافريقيا وقائد القوات البرية لحلف شمال الاطلسي (كريستوفر دوناهو) عن وضع خطة من قبل الحلف لضرب الدفاعات الروسية في مقاطعة كالنينغراد الروسية والتي تقع بشكل منفصل عن باقي الاراضي الروسية والمحاطة بدول حلف الناتو ، حيث لا تصل القوات الروسية اليها الا من خلال اسطول بحر البلطيق، لذلك فان التدريبات التي قام بها الاسطول ضمن مناورات عاصفة يوليو انما تهدف ايضا لاستعراض القوة ضد دول حلف الناتو بهدف دفعهم للتراجع عن فكرة الهجوم على منطقة كالينينغراد .
لاسيما بعد ان ردت روسيا على تصريحات قائد القيادة الامريكية في اوروبا وافريقيا بان الرد سيكون ساحقا في حال الاعتداء على اي من الاراضي الروسية ولاسيما مقاطعة كالنينغراد.
لقد تزامنت المناورات أيضاً مع جولة جديدة من المفاوضات عقدت في اسطنبول بهدف تسوية الحرب الاوكرانية ، حيث وصلت المفاوضات الى طريق مسدود مع اصرار روسيا على اعتراف اوكرانيا بالمقاطعات الستة التي احتلتها روسيا وكذلك اعلان الحياد الاوكراني من خلال تجنب الانضمام لحلف الناتو بالمقابل تصر اوكرانيا على رفض الاعتراف بالاراضي التي احتلتها روسيا خلال الحرب وتدعو الى انسحاب روسيا الكامل منها بما فيها شبه جزيرة القرم ، وحتى المقترحات الغربية لروسيا فهي غير موثوق بها وغير مقبولة من قبل الكرملين لانها تتضمن نشر قوات حفظ سلام للفصل بين الطرفين وهو امر كان احد اسباب شن روسيا حربها على اوكرانيا وهو خشيتها من اي وجود عسكري غربي بالقرب من حدودها نتيجة لرغبة اوكرانيا الانضمام لحلف الناتو.
الخاتمة
تأتي المناورات البحرية الروسية في الأسبوع الماضي — التي بدأت بالتزامن الدقيق مع محادثات السلام في إسطنبول يوم 23 تموز ( يوليو) 2025 — كاستعراض للقوة والتقنية، لا كأداة تفاوضية فقط. تعكس هذه المناورات رسالة موحّدة مفادها أن روسيا قادرة على الذهاب بعيدًا في المواجهة، حتى إلى استخدام قدرات ردع نووية محتملة في حال اضطرّت لذلك، وهذا يدعم موقف الفريق الروسي التفاوضي في إسطنبول عبر التفاوض من موقع القوة.
ولكنّ الهدف الروسي لا ينحصر في الرسائل السياسية فقط، بل يمتد إلى تجهيز قواتها البحرية عمليًا عبر : اختبارات مباشرة للأسلحة الجديدة، استراتيجيات تكنولوجية تعتمد على الذكاء الاصطناعي، وطائرات وسفن غير مأهولة. ومن هنا، يُبرز الواقع أن سباق القرن الحادي والعشرين في التسلّح يعتمد ليس على الكمية، بل على الجودة والابتكار وسرعة الإنتاج والمدى التشغيلي الفعّال للأسلحة الذكية.



