الاكثر قراءةتحليلات و آراءغير مصنف

القواعد التركية في العراق ….  أبعاد المشروع العثماني المعاصر وحجم التمدد العسكري

بقلم: حنين محمد الوحيلي / باحثة في مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية

 ليست الجغرافيا قدراً صامتاً في العلاقات الدولية بل هي لاعب لا يهدأ، وفي حالة العراق وتركيا لا يبدو أن حدود الجوار قد ضمنت حسن الجوار بل كانت في أحيان كثيرة منطلقاً لصراع مقنع، تنخفض وتيرته حيناً وتتصاعد حيناً آخر لكنه لم يتوقف قط. فبين طموحات تركية عابرة للحدود وساحة عراقية رخوة السيادة، تتشكل ملامح علاقة معقدة تتراوح بين الشراكة الاقتصادية والتدخل العسكري وبين لغة المصالح وحقيقة التجاوز.

لم يكن التوغل التركي في الأراضي العراقية حدثاً استثنائياً طارئاً بل أصبح سلوكاً ممنهجاً يعكس تصوراً تركياً خاصاً لمفهوم الأمن الإقليمي قائماً على فرض الوقائع لا احترام الحدود. ومع هذا الواقع المتكرر تزداد الحاجة لفهم الخلفيات السياسية والاستراتيجية لهذا التمدد وتحديد ما إذا كان العراق يمتلك ما يكفي من أوراق الردع، أم أن صمته المستمر أصبح جزءاً من معادلة توازن مختل لا تصب نتائجه في مصلحته؟

إن وجود أكثر من أربعين موقعاً عسكرياً تركياً داخل الأراضي العراقية، بعضها يتجاوز في تمركزه عمق الـ100 كيلومتر، لا يمكن تصنيفه إلا على أنه احتلال ناعم متدرج يتسلل تحت عنوان التعاون الأمني، ويجد له غطاءً سياسياً ضمن اتفاقات قديمة تعاد قراءتها بروح التوسع لا بروح السيادة. ومع كل ضربة تركية تعلن ضد “حزب العمال الكردستاني”، تكون السيادة العراقية هي الهدف غير المعلن والمواطن العراقي هو الخاسر الدائم.

وهنا يطرح سؤال ملح، متى سيفقد العراق رسمياً جزءاً من أراضيه؟ وهل سيكون ذلك بالتوافق أو بالاحتلال الفعلي؟

 

أنقرة تبني وجوداً لا يبدو مؤقتاً

لم تعد التحركات التركية داخل الأراضي العراقية محصورة بالعمليات الحدودية السريعة، بل تطورت إلى مشروع أمن قومي تركي طويل الأمد. حيث تسوق أنقرة تدخلها العسكري على أنه مجرد ملاحقة لتنظيم “حزب العمال الكردستاني”، إلا أن نمط التوغل وطريقة توزيع القوات تظهر نوايا تتجاوز ملاحقة “الخطر الكردي”، إلى إعادة ترسيم ناعم للنفوذ التركي في شمال العراق.

فمنذ عام 2018، بدأت تركيا بالتحول من نمط العمليات المؤقتة إلى نمط “التموضع الدائم”، عبر إنشاء قواعد عسكرية دائمة في مناطق استراتيجية ضمن محافظتي دهوك وأربيل بموافقة ضمنية من حكومة إقليم كردستان. وعلى الرغم من أن الخطاب السياسي الرسمي يصف هذه القواعد بأنها مؤقتة ومرتبطة بمكافحة الإرهاب، إلا أن الواقع الميداني يشي بخلاف ذلك.

تشير التقديرات الأمنية إلى أن عدد القواعد التركية داخل العراق تجاوز الـ 40 موقعاً عسكرياً، تتراوح بين قواعد رئيسة متكاملة وقواعد مراقبة متقدمة ونقاط إسناد لوجستي. وتتركز أغلبها في مناطق قنديل، العمادية، بامرني، شيلادزي، زاخو، ومتينا، وهي مواقع جبلية وعرة تمنح تركيا أفضلية استراتيجية للمراقبة والتدخل السريع. أهم هذه القواعد هي قاعدة “بامرني” الجوية التي تضم مدرجاً للطائرات المقاتلة والطائرات المسيرة وتستخدم كمركز قيادة وتحكم، وقاعدة “سيرياجيك” التي تشكل نقطة انطلاق رئيسة للعمليات الخاصة.

يتراوح عدد الجنود الأتراك داخل العراق بين 2000 و5000 عنصر وفقاً لتقديرات أمنية غير رسمية، يتناوبون على أداء مهام تتنوع بين الاستطلاع الإلكتروني والعمليات البرية والهجمات الجوية بطائرات الدرون. وتمتلك هذه القواعد أنظمة اتصالات مستقلة عن سلطة الإقليم أو الحكومة المركزية، كما تحوي بعض القواعد مراكز استخباراتية متقدمة تستخدم في جمع وتحليل البيانات حول تحركات خصوم أنقرة في المنطقة بما يشمل الفاعلين غير الأكراد.

أما على المستوى الجيوسياسي فإن طبيعة هذه القواعد ومواقعها تعكس تطلعاً تركياً لتشكيل منطقة آمنة ممتدة بعمق 30 كم داخل الأراضي العراقية، وهو هدف لم تخفه أنقرة في خطاباتها الرسمية منذ عام 2020. وبذلك لم يعد الحديث عن مطاردة “حزب العمال الكردستاني” مبرراً كافياً لبقاء هذه المنشآت، بل باتت تشكل رأس جسر استراتيجي لنفوذ تركي مستدام يتجاوز البعد الأمني ليغدو أداة سياسية واقتصادية في رسم معادلات شمال العراق وربما حتى غربه لاحقاً.

هذا الوجود العسكري التركي لا يتقاطع فحسب مع السيادة العراقية بل ينذر بتحولات مستقبلية في طبيعة الدور الإقليمي التركي، خاصة إذا ما قورن بالفراغ الأمني المتفاقم في بعض مناطق العراق والتراخي الحكومي الواضح في التعامل مع هذا التوسع العسكري الهادئ.

بغداد تفتقر إلى استراتيجية ردع واضحة

على النقيض من التوسع التركي الذي تحكمه رؤية عسكرية مدروسة وخطط طويلة الأمد، تبدو الدولة العراقية غير قادرة حتى اللحظة على بلورة تصور استراتيجي واضح للتعامل مع الوجود التركي في شمال البلاد. لا يشير السلوك الرسمي إلى امتلاك الدولة لأدوات ضغط فعالة أو حتى إرادة سياسية متماسكة لتقليص هذا النفوذ، بل تبدو السياسة العراقية محكومة باعتبارات اللحظة وردود أفعال ظرفية، تنتج بيانات إدانة دون أن تؤسس لسياسة ردع تلزم تركيا بحدود واضحة.

هذا الغياب لا ينعكس فقط في العجز عن الرد العسكري بل يتجلى في محدودية توظيف عناصر القوة المتاحة لدى بغداد، كالموقع الجيوسياسي والموارد الطبيعية وعمق العلاقات الاقتصادية، بالإضافة إلى ورقة الفصائل المقاومة التي وإن كانت لا تتبع للدولة تنظيمياً، إلا أن تغافل الدولة عن استثمارها في إطار حفظ السيادة الوطنية زاد من فرص أنقرة في المناورة والتمدد بأقل كلفة.

فضلاً عن أن العراق يمتلك أدوات ضغط اقتصادية لم يتم تفعيلها بجدية حتى الآن، فتركيا تعد من أبرز المستفيدين من السوق العراقية حيث تتجاوز قيمة التبادل التجاري بين البلدين 15 مليار دولار سنوياً تميل كفتها بشكل واضح لصالح أنقرة. كما تعتمد تركيا على النفط العراقي سواء من خلال خط أنابيب “كركوك – جيهان” الذي يمر عبر أراضيها أو عبر عقود التوريد المباشر لشركاتها العاملة داخل العراق. ورغم حساسية هذه الملفات فإنها تمنح بغداد أوراقاً تفاوضية ذات وزن كان يمكن استخدامها للضغط السياسي أو حتى التلويح بها في إطار سياسة ردع متدرجة.

وتزداد المفارقة حين نعلم أن بغداد تمتلك ورقة حيوية لا تملكها أنقرة تتمثل في شرعية الأرض، وامتلاك تفويض دولي بالدفاع عنها لكنها تفشل في ترجمة ذلك إلى موقف يقيد حرية الحركة التركية، سواءً عبر المحافل الدولية أو بالضغط الميداني المدروس. كما أن العراق على الرغم من تنوع فاعليه وتعدد أدواته لا يحسن إدارة هذه الأدوات ضمن رؤية مركزية، فتظهر مواقفه متناقضة أحياناً ومتباعدة زمنياً ما يبعث برسائل ضعف تغري الطرف الآخر بمزيد من التقدم.

وما يزيد المشهد تعقيداً أن بعض الأطراف الفاعلة داخل النظام السياسي تتبنى مواقف ملتبسة أو متسامحة مع التمدد التركي، تحت ذرائع اقتصادية أو مذهبية أو حتى عشائرية، ما يجعل من الصعب على بغداد إنتاج موقف وطني جامع يتعاطى مع التهديد بوصفه مساً بسيادة الدولة لا باختلال في موازين المصالح.

إن ما يفتقد في المشهد العراقي اليوم هو وعي استراتيجي يجمع بين استثمار عناصر القوة وترتيب الأولويات الوطنية بعيداً عن التجاذبات وتحديد خطوط حمراء لا يمكن تجاوزها دون رد. فالتوسع التركي لن يتوقف عند نقطة معينة مالم يتم تقييده، ولا يمكن لدولة تملك ما يملكه العراق من موقع وقدرات أن تقبل بهذا الحجم من الخروقات دون أن تسقط في امتحان الهيبة والسيادة.

في ظل تعقيد المشهد الإقليمي وتشابك المصالح لن يكون التصعيد العسكري الخيار الأول أو الوحيد، بل يجب التركيز على مزيج من الدبلوماسية النشطة والسياسة الاقتصادية الذكية والتنسيق الداخلي المتين بين كافة الفاعلين السياسيين والأمنيين. إن إعادة الاعتبار للسيادة العراقية تتطلب مقاربة متكاملة تجمع بين القوة والمرونة وتحديات الواقع مع الطموح الوطني، فلا مكان للضعف في زمن يتطلب فيه العراق أن يكون صاحب قرار لا تابعاً لمشاريع إقليمية أجنبية.

 

Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?

Reload Reload document
| Open Open in new tab

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى