الاكثر قراءةتحليلات و آراءغير مصنف

السياسات العامة في بيئات الفساد المزمن: قراءة تحليلية في فاجعة الكوت

بقلم: د. فاتن فالح مهدي / كلية القانون والعلوم السياسية – جامعة ديالى

 

 

يقول عالم الاقتصاد السياسي السويدي غونار ميردال:

“حين تكون القوانين موجودة لكنها لا تُطبق، والسلطات متوافرة لكنها لا تُمارس، والمناصب مشغولة لكنها بلا كفاءة، يصبح المواطن هو الضحية المباشرة لسياسات عامة تُدار بمنطق الصفقات لا بمنطق الخدمة العامة.”

انطلاقًا من هذا القول، شهدت محافظة واسط، مساء يوم الاربعاء الموافق 16/7 /تموز 2025، حريقًا كارثيًا في أحد أكبر المجمعات التجارية (هايبر ماركت) في مدينة الكوت، متسببًا بسقوط عشرات الضحايا بين قتلى ومصابين. لم تكن هذه الفاجعة مجرد حادثا طارئًا، بل نتيجة تراكمات بنيوية عميقة في ضعف إدارة السياسات العامة، ضمن بيئة محلية يغلب عليها الفساد، وغياب المساءلة، وتآكل الكفاءة الإدارية وفي هذا السياق، يسعى هذا المقال إلى تقديم قراءة تحليلية للأسباب البنيوية التي أدت الى هذه الفاجعة، مع اقتراح مجموعة من التوصيات الإصلاحية لهندسة بناء السياسات العامة على أسس الحوكمة الرشيدة، والكفاءة المؤسسية، والعدالة الاجتماعية.

 

أولًا: الأسباب البنيوية لفاجعة هايبر ماركت الكوت

  1. سوء إدارة المرافق العامة: تفتقر السلطات التنفيذية في محافظة واسط الى استراتيجية متكاملة لإدارة البنى التحتية الحيوية، خصوصًا التجارية والسكانية الكثيفة. فبدلًا من اعتماد الحوكمة الحضرية القائمة على تقييم الدوري والمخاطر الوقائية، تُدار هذه المرافق وفق المصالح الفئوية.

  2. الإهمال في تنفيذ القوانين وانعدام المساءلة: ان القوانين والتعليمات الخاصة بالسلامة العامة موجودة نظريا، لكنها لا تُنفذ. تُمنح التراخيص بشكلية، وتُغضّ الأنظار عن التجاوزات الفنية، ما يعكس ضعف الرقابة وتواطؤ الجهات المعنية مع المخالفين.

  3. هيمنة المحاصصة وغياب الكفاءة الإدارية: تُدار الوظائف الإدارية العليا في المحافظة وفق مبدأ “التقاسم السياسي”، وليس بناءً على الكفاءة أو الخبرة. وهذا ما أنتج طبقة من المسؤولين الإداريين تفتقر للقدرة على صنع القرار السليم، ولا تملك أدوات إدارة الأزمات، ولا حتى الحد الأدنى من الحس المؤسسي.

  4. هشاشة الدفاع المدني: يعاني الجهاز من نقص فادح في المعدات والتدريب، وغياب خطط الطوارئ المحدثة. ما يجعله عاجزًا عن الاستجابة الفعالة للأزمات، ويحوّله إلى أداة غير منتجة في الميدان.

  5. فساد اداري داخل المحافظة: تنخر البنية الإدارية شبكات فساد تبدأ من صفقات التراخيص وتنتهي بالتغاضي عن انتهاكات السلامة، وتُمرر العقود لمقاولين محسوبين على جهات سياسية نافذة، بينما تتحول الدوائر التنفيذية إلى غطاء لحماية الفساد.

  6. غياب المساءلة المؤسسية وسيادة ثقافة الإفلات من العقاب: كما في كل فاجعة سابقة، يتم الحديث عن “فتح تحقيق” ومحاسبة المقصّرين” دون أي نتائج ملموسة. فالمشكلة ليست في كشف الأسباب، بل في غياب الإرادة السياسية للمحاسبة الجادة.

 

ثانيًا: توصيات إصلاح السياسات العامة

انطلاقا من الأسباب أعلاه، يمكننا اقتراح مجموعة من التوصيات للإصلاح السياسات العامة في العراق من خلال:

  1. إعادة هيكلة إدارة المرافق العامة: تحتاج البنى التحتية في العراق إلى إدارة فعالة ومهنية تعتمد على أسس الحوكمة الرشيدة. وذلك من خلال تشكيل لجان مستقلة تتولى فحص وتقييم المرافق العامة بشكل دوري، مع إلزام المؤسسات العامة والمجمعات التجارية والأسواق الكبرى بتركيب أنظمة ذكية للإنذار والإطفاء المبكر، بما يحدّ من تكرار الكوارث.

  2. تفعيل الرقابة المؤسسية والمجتمعية: تقتضي المصلحة العامة ألا تقتصر الرقابة على الجهات الحكومية فحسب، بل أن تُشرك فيها القوى المجتمعية الفاعلة. لذا يجب تعزيز دور الرقابي لمجالس المحافظات، ومنظمات المجتمع المدني، والنقابات، والجامعات، إلى جانب حماية فرق التفتيش قانونيًا. كما ينبغي دعم الإعلام الاستقصائي باعتباره أداة مهمة في كشف الفساد ومتابعة التقصير الإداري.

  3. تفكيك آليات المحاصصة في التعيينات الإدارية: تعاني المؤسسات من ضعف في الأداء بسبب غلبة الولاءات على الكفاءات. ومن هنا، من الضروري إصدار تشريعات تمنع المحاصصة السياسية في المناصب، وتُخضع الإدارات لنظام تدوير كل ثلاث سنوات، مع اعتماد معايير موضوعية لتقييم الأداء، خاصة في حالات الأزمات.

  4. تفعيل الرقابة الرقمية الشفافة: تمثل الرقابة الرقمية أحد الأدوات الرئيسية في مكافحة الفساد وتعزيز الشفافية. ومن هنا نقترح إنشاء بوابة إلكترونية موحدة لجميع الموافقات الإدارية والتراخيص، وربطها بقاعدة بيانات وطنية للمشاريع، بما يُسهم في تسهيل المتابعة وتقليل فرص التلاعب أو التأخير.، مع الاستفادة من تجارب الدول التي سبقتنا في الحوكمة الرقمية.

  5. تعزيز المساءلة والمحاسبة: الإصلاح الحقيقي لا يتحقق دون وجود نظام فاعل للمحاسبة. ويتطلب ذلك تشكيل لجان تحقيق مستقلة تحت إشراف القضاء، ونشر تقارير السلامة العامة وتقارير تقييم أداء المسؤولين للرأي العام، كما ان تفعيل مبدأ “المسؤولية المتسلسلة” لمحاسبة كل من تثبت مسؤوليته في حالات الفشل، من أعلى المستويات إلى أدناها.

  6. تطوير جهاز الدفاع المدني: ان جهاز الدفاع المدني بحاجة إلى إعادة تأهيل شامل يواكب المعايير الدولية. ويتطلب ذلك توفير تدريبات تخصصية، وتزويده بالمعدات الحديثة، وإنشاء صندوق طوارئ خاص في كل محافظة، على أن يخضع لرقابة اتحادية صارمة لضمان حسن استخدامه.

  7. مكافحة الفساد الإداري في دوائر المحافظات: لن تنجح أية جهود إصلاحية ما لم يُعالج الفساد المستشري في مؤسسات المحافظات. ويتطلب ذلك تفعيل دور هيئة النزاهة المحلية وربطها بالسلطة المركزية، مع تدقيق العقود والتراخيص المحلية بشكل دوري، وتفعيل منصة إلكترونية تمكن المواطنين الإبلاغ عن حالات الفساد مع ضمان حمايتهم من أي تهديد.

 

الخاتمة:

 إن فاجعة (هايبر ماركت الكوت) لم تكن فقط مجرد حريق أودى بحياة أبرياء وألحق أضرارًا مادية، بل كانت مرآة عاكسة لفشل الإدارة المحلية في القيام بواجباتها الأساسية. لقد أظهرت هذه الحادثة أن الفساد لا يقتصر على المال العام، بل يمتد إلى غياب المسؤولية، والتردد في اتخاذ القرار، وضعف الاستجابة عند وقوع الأزمات. ولا يمكن لأي إصلاح أن ينجح إذا ركّز فقط على معالجة النتائج الظاهرة دون التطرق إلى الأسباب الجذرية. فالمشكلة لم تكن فقط في نشوب الحريق، بل في البيئة التي سمحت بوقوعه، وتلك التي عجزت عن التعامل معه بفعالية، ثم سعت لاحقًا إلى احتوائه عبر حلول سطحية باللجان الشكلية او التعويضات العاجلة. لذلك، فإن الإصلاح الحقيقي يتطلب إعادة النظر في طريقة إدارة السياسات العامة، من خلال تبني مبادئ الحوكمة الرشيدة، وتفعيل الرقابة المجتمعية، واعتماد الإدارة الرقمية التي تضمن الشفافية وسرعة الاستجابة. وبدون هذه الخطوات الجادة، فإن تكرار مثل هذه الفواجع لن يكون مجرد احتمال، بل واقعًا متوقعا.

 

Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?

Reload Reload document
| Open Open in new tab

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى