الاكثر قراءةتحليلات و آراءغير مصنف
إسرائيل بين النص المقدس والاستراتيجية الجيوبوليتيكية

بقلم: الباحث بختيار أحمد صالح
يشكل الدين عنصراً مركزياً في تشكيل الهوية والسياسات الإسرائيلية، رغم الادعاءات بعلمنة الدولة أو طابعها الديمقراطي. فإسرائيل، في بنيتها العميقة، ليست دولة علمانية بالكامل، بل دولة دينية/قومية تتخذ من نصوص التوراة والتلمود مرجعًا أساسيًا في كثير من أوجه رؤيتها للمكان والسيادة. تستند هذه الورقة إلى تحليل نصوص من “سفر التثنية” وغيره من أسفار العهد القديم، لفهم كيف تم توظيف الخطاب الديني في تبرير الإبادة والتهجير والاستيطان، في سياق ما يُعرف بـأرض الميعاد بين النيل والفرات.
البعد اللاهوتي لفكرة أرض الميعاد
تعكس النصوص الدينية اليهودية، خصوصًا في التوراة، تصورًا لاهوتيًا لملكية بني إسرائيل لأرض تمتد من نهر مصر (النيل) إلى نهر الفرات، وهو ما يُعرف في الأدبيات الصهيونية بـأرض الميعاد أو إرتس يسرائيل. وتقول التوراة: “لرب إلهك هو الذي سيعبر أمامك. هو سيبيد هؤلاء الشعوب من أمامك… (تثنية 31:3(. وتظهر هذه النصوص بوضوح أن التوسع والسيطرة الجغرافية ليس مسعى سياسيًا فقط، بل هو تنفيذ لوعد إلهي مشروط بالطاعة والولاء للرب.
أوامر الإبادة الجماعية في النصوص التوراتية
يبرز في سفر التثنية (الإصحاح 20:10-17) أمر صريح بقتل كل من في المدن التي تُرفض فيها عروض السلام: إذا دفعها الرب إلهك ليدك، فاضرب جميع ذكورها بحد السيف. وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة من غنيمة، فاغتنمها لنفسك،
أما مدن هؤلاء الشعوب… فلا تستبقِ منهم نسمة حية.
وتشير الآيات إلى إبادة سبعة شعوب محددة (الكنعانيين، الحثّيين، الأموريين، الفرزيين، الحويين، واليبوسيين)، وذلك ليس فقط لتحقيق الانتصار العسكري، بل للحفاظ على نقاء العبادة وفقًا للتوحيد اليهودي، وعدم التأثر بديانات الأمم.
البعد السياسي الحديث لاستخدام النصوص الدينية
تستخدم الأوساط الدينية الصهيونية هذه النصوص كأساس أيديولوجي لتبرير الاحتلال، والتوسع الاستيطاني، ورفض السلام أو المساواة مع الفلسطينيين. فعلى سبيل المثال، لا يزال مستوطنون يرفعون شعارات تستند لنصوص مثل: سنمحو نسل عماليق، ولا تترك نسمة حية، كمبرر ديني لعمليات التطهير العرقي.
ويتم تمرير هذه الرؤية في نظم التعليم الديني، والفتاوى الحاخامية، وحتى في خطابات سياسيين كُثر. وقد برزت حالات لجنرالات في الجيش الإسرائيلي يشبّهون أعداء إسرائيل الحديثين –مثل الفلسطينيين أو الإيرانيين– بعماليق أو الكنعانيين الذين أمر الرب بإبادتهم.
إسرائيل كدولة دينية لا علمانية
رغم ما يُروّج عن علمانية إسرائيل، فإن الدولة تبنّت منذ نشأتها تعريفاً لليهودي قائمًا على الدين وليس فقط العرق، ويُمنح حق العودة لليهود على أساس انتمائهم الديني. كما أن محاكم الأحوال الشخصية، والتعليم، وقوانين الأحوال المدنية، كلها تخضع بشكل كبير لسلطة الحاخامات.
الرمزية الدينية واضحة في كل مؤسسات الدولة، من النشيد الوطني (هتكفا) إلى شعار الدولة المأخوذ من الهيكل المقدس. أما في السياسة، فالأحزاب الدينية تحتفظ بوزارات حيوية وتضع شروطًا واضحة على التشريعات وفقًا للشريعة اليهودية.
الخطاب الصهيوني المعاصر وتوظيف اللاهوت في الجيوبوليتيك الإسرائيلي
على مدار العقود الماضية، لم تتوقف إسرائيل عن استخدام روايتها اللاهوتية–التاريخية المستمدة من التوراة في صياغة استراتيجيتها الجيوبوليتيكية في الشرق الأوسط. وتحديدًا، نجد أن المفهوم الديني لأرض الميعاد لا يقتصر على بعد رمزي، بل يتحول إلى أداة لتبرير سياسات التوسع، التهويد، والاستيطان، بل وأحيانًا التدخلات العسكرية والأمنية خارج حدود دولة إسرائيل المعترف بها دوليًا:
-
من النيل إلى الفرات: الخريطة الصامتة في العقل الاستراتيجي
غالبًا ما يُستشهد بجملة من النيل إلى الفرات كحدود رمزية لاسرائيل الكبرى، وهي عبارة مستمدة من سفر التكوين (15:18(: (في ذلك اليوم قطع الرب مع أبرام ميثاقاً قائلاً: لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات).
رغم أن الحكومات الإسرائيلية لا تُعلن رسميًا عن نية لتحقيق هذا الامتداد، إلا أن التوسع التدريجي في الضفة الغربية، ودعم الانفصالات والكانتونات في سوريا والعراق، ومحاولات التحالف مع بعض الأقليات، كلها تشير إلى سعي صامت نحو محيط استراتيجي آمن، مستند إلى هذه الرؤية التوراتية.
-
التوظيف الديني في مشاريع التهجير والفصل: يُبرر كثير من المتدينين في إسرائيل سياسة تهويد الأرض وتهجير الفلسطينيين بأنها تطبيق لأمر الرب بطرد الأمم الوثنية من الأرض المقدسة. ويرتبط ذلك مباشرة بنصوص مثل: (تطردهم وتفنيهم سريعاً كما قال الرب إلهك لك) (تثنية 7:22(. وهذا ما نراه اليوم في سياسات الإخلاء القسري في القدس والضفة الغربية، ورفض عودة اللاجئين الفلسطينيين، بل وشرعنة الاستيطان من منظور ديني.
-
النفوذ في سوريا والعراق: إعادة إنتاج أرض الميعاد بالتحالفات والتقسيم
تستثمر إسرائيل اليوم في تفتيت البنية الوطنية لسوريا والعراق، وتدعم سراً وعلناً مشاريع الكانتونات الطائفية والعرقية، بما يخدم فلسفة فرّق تسد، ويُضعف القوى المركزية التي قد تُشكّل تهديدًا مستقبليًا لإسرائيل.
في سوريا، تُظهر إسرائيل اهتمامًا خاصًا بمنطقة الجنوب السوري (السويداء ودرعا)، وتسعى لإقامة علاقات مع بعض الفصائل الدرزية، ضمن منطق حماية الإخوة في الدين، كما تدعم أحيانًا غير مباشرة الانفصال الكردي في الشمال، باعتباره حزامًا آمنًا بينها وبين إيران.
أما في العراق، فإن اهتمام إسرائيل باستقلال كردستان في السنوات الأخيرة، يُفسَّر على أنه محاولة لتأسيس موطئ قدم شمال شرق أرض الميعاد، وكبح نفوذ إيران، وإبقاء العراق في حالة تشتت داخلي دائم.
-
البعد المسيحاني في الخطاب السياسي الإسرائيلي
تقوم بعض التيارات داخل إسرائيل، خصوصًا في أوساط المستوطنين واليمين المتطرف، على فكرة اقتراب الخلاص المسيحاني وعودة )المسيا)، الذي لن يأتي –حسب اعتقادهم– إلا بعد إعادة بناء الهيكل على أنقاض المسجد الأقصى، وتوسيع حدود الدولة إلى ما بعد حدود داوود التاريخية. وقد عبّر عن هذه التوجهات بعض المسؤولين علنًا، مثل الحاخام المتطرف إسحق شابيرا الذي دعا إلى قتل أطفال الأعداء قبل أن يكبروا، أو وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير الذي لا يخفي دعمه لضم المسجد الأقصى وهدم قبة الصخرة.
الخاتمة
إن البعد الديني ليس مجرد مكوّن ثقافي في هوية إسرائيل، بل يشكل جوهر استراتيجيتها السياسية والعسكرية في الداخل والخارج. من خلال إعادة تفعيل النصوص التوراتية التي تدعو إلى الإبادة والطرد والاستيطان، تقوم إسرائيل بترسيخ مشروع دولة عنصرية/دينية بغطاء لاهوتي. ومع تغلغل هذا الخطاب في بنية المؤسسة الأمنية والتعليمية والدينية، تصبح فرص الحل العادل أكثر صعوبة، وتتحول المنطقة إلى ساحة صراع لاهوتي مدمّر، بدلًا من صراع سياسي قابل للحل.
المراجع:
-
الكتاب المقدس، العهد القديم، سفر التثنية (الإصحاح 20).
-
شلومو ساند، اختراع الشعب اليهودي، ترجمة: صالح علي (بيروت: دار الساقي، 2010(.
-
إسرائيل شاحاك، التاريخ اليهودي والدين اليهودي: ثقل ثلاثة آلاف عام، ترجمة: صالح علي (بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية(.
-
إيلان بابيه، التطهير العرقي في فلسطين، ترجمة: فادي واكد (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2009).



