الاكثر قراءةتقدير موقف

قراءة في خلفيات الأزمات …. متى وكيف تنفذ الخطط الكبرى في ظل الفوضى المصطنعة؟

بقلم: حنين محمد الوحيلي/باحثة في مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية

 

في خضم تواتر الأحداث المتسارعة التي تجتاح (الشرق الأوسط)، تتداخل الملفات وتتداخل معها الحسابات السياسية والأمنية، لتتحول المشاهد المتناثرة إلى لوحة واحدة من الأزمات المتشابكة. من وعكة صحية لرئيس الوزراء (الإسرائيلي)، مروراً بتصعيد غير متوقع بين الجولاني والدروز في شمال سوريا، وصولاً إلى التحركات المريبة في العراق، والأزمات المستترة في لبنان واليمن، تبدو المنطقة وكأنها ساحة فوضى متعمدة. إلا أن هذه الفوضى ليست وليدة الصدفة أو التطورات العشوائية بل هي جزء من لعبة إقليمية معقدة، تتقاسم فيها الأطراف الدولية والإقليمية صناعة الأزمات كستار يخفي وراءه خططاً استراتيجية أكبر.

هذا التقدير يسعى إلى قراءة ما وراء الأحداث الظاهرة وتحليل دوافع الأطراف وتوقع السيناريوهات القادمة مستنداً إلى دروس الماضي وفهم ديناميات المنطقة الدقيقة.

 

(إسرائيل) بين التحركات المحسوبة والتحالفات المتقلبة

في توقيت مدروس أعلن مكتب رئيس الوزراء (الإسرائيلي) ” نتنياهو” عن تعرضه لوعكة صحية وصفت بأنها التهاب في الأمعاء نتيجة تناول طعام فاسد، مع تأكيد بقائه في منزله لثلاثة أيام دون القدرة على عقد اجتماعات أو مغادرة مكانه بناءً على تعليمات طبيبه. هذا الإعلان رغم ظاهره الصحي يحمل بين طياته أكثر من مجرد خبر شخصي، فمن التجارب السابقة “لنتنياهو” في أوقات الأزمات السياسية والعسكرية يتكرر نمط الغياب المدروس الذي يتيح له التهرب من الضغوط الإعلامية والسياسية ويمنحه وقتاً للتحضير خلف الكواليس. خاصة وأن هذا الإعلان جاء في أعقاب زيارته الأخيرة إلى واشنطن، حيث يرجح أن يكون قد جرى التوافق على خطط واستراتيجيات تتطلب وقتاً للتهيئة قبل إعلانها أو تنفيذها. كما أن تأجيل اجتماعات حكومة الكيان يعزز فرضية وجود عمل تحضيري على ملفات حساسة بعيدة عن أنظار العامة. بناء على ذلك لا ينبغي الاكتفاء بالمعلومات الرسمية إذ قد تخفي وراءها تحركات حقيقية في المشهد السياسي والأمني، مما يستوجب متابعة التطورات بحذر وعدم الانجرار خلف الظواهر الإعلامية المباشرة.

 

سوريا بين الجولاني والدروز وتشتيت الانتباه

في تطور مفاجئ وحاد اندلعت مواجهات بين حكومة “الجولاني” والدروز في الشمال السوري، في صراع لا تبدو أسبابه وأهدافه واضحة تماماً حتى الآن، “فالجولاني” الذي أبدى مرونة ورغبة في التقارب والتطبيع مع الكيان الصهيوني، وحسب وصف الإعلام (الإسرائيلي) بأنه” شخصية براغماتية منفتحة على التسويات وقادرة على المضي في مسار السلام والتطبيع” انقلب فجأة إلى خصم يحمل مسؤولية تصاعد التوتر في شمال سوريا. هذا التحول جاء مصحوباً بتصعيد عسكري ويبدو أن هذا التصعيد لا يمكن فهمه بمعزل عن الحسابات الإقليمية الأوسع التي تهدف إلى إشغال المنطقة بقضية جانبية تشغل الرأي العام وتبعده عن تحركات كبرى محتملة في مناطق أخرى. إذ إن فجائية تطور الأحداث وتواترها جعل من هذا الملف أداة سياسية تستخدم كستار دخاني، قد يموه حقيقة وجود ترتيبات إقليمية وتحالفات جديدة تجهز لتنفيذ خطط أكبر. لذلك يجب النظر بعين الريبة إلى هذه التطورات وعدم التعامل معها كأحداث معزولة بل كجزء من لعبة أكبر تدار في أروقة السياسة الإقليمية.

بناء على ذلك تبدو قضية “الجولاني” والدروز نموذجاً واضحاً على كيفية صناعة أزمات محلية لتبرير تحركات استراتيجية، وهو ما يتطلب مراقبة مستمرة وتحليلاً دقيقاً لكل ما يجري خلف الستار، خصوصاً مع وجود احتمالات لارتباطات مباشرة بين هذه الأحداث وتحولات قادمة على جبهات أخرى في المنطقة.

 

العراق بين استهداف المصافي والأزمات الداخلية

في العراق يواجه المشهد العديد من التحديات المتشابكة التي تزيد من تعقيد الاستقرار السياسي والأمني. ففي الشمال تتعرض المصافي النفطية للعديد من الهجمات بطائرات مسيرة مجهولة المصدر، ما يعد تصعيداً خطيراً يستهدف البنية التحتية الحيوية للاقتصاد الوطني. إلى جانب ذلك تتفاقم الأزمة السياسية والاجتماعية مع استمرار مشكلة دمج الحشد الشعبي وتأخر صرف رواتب منتسبيه، الأمر الذي ينعكس على الاستقرار الأمني والاجتماعي، وقد يثير استياءً واسعاً داخل الأوساط الشعبية والفصائل الأمنية ذات التأثير الكبير. كما تشهد مناطق كردستان توترات بين القيادات الإقليمية والعشائر، ما يضيف طبقة أخرى من الانقسامات التي يصعب حلها بسهولة. فضلاً عن تصريحات رئيس مجلس النواب العراقي “محمود المشهداني” حول هذه القضايا تعكس وجود مخاوف حقيقية من أن هذه الأزمات قد تتطور إلى صراعات مفتوحة أو تحركات شعبية ذات طابع احتجاجي.

أما في حال حصول تطور على الأرض يتمثل بوصول القوات (الإسرائيلية) إلى منطقة التنف على الحدود السورية العراقية، فذلك سيكون بمثابة تغيير جذري في قواعد الاشتباك وقد يضع العراق أمام تحديات أمنية جديدة، حيث يصبح الشمال العراقي على تماس مباشر مع نفوذ عسكري (إسرائيلي). هذا السيناريو يفتح الباب أمام احتمالات متعددة منها زيادة حالة عدم الاستقرار، وربما إعادة تشكيل موازين القوى على الحدود. إلا أن هذه الاحتمالات لا تزال ضمن نطاق التوقعات والاحتمالات التي لم تتحقق بعد، ويتطلب الأمر متابعة دقيقة لما ستؤول إليه التطورات مع الأخذ في الحسبان أن أي تحرك من هذا النوع لن يكون بلا تداعيات كبيرة على المشهد العراقي بأكمله.

يبقى الوضع معقداً ومفتوحاً على عدة احتمالات، ما يستوجب قراءة واعية وحذرة بعيداً عن القفز إلى استنتاجات مسبقة.

 

لبنان بين ضغوط على المقاومة وتوتر داخلي

في لبنان تتجلى صورة مضطربة تحيط بمستقبل الساحة السياسية والأمنية، خاصة مع تصاعد الحديث عن نزع سلاح المقاومة، الذي بات مطلباً متكرراً في الأوساط الدولية والعربية، وقد أثير هذا الموضوع بشكل متزايد خلال الفترة الأخيرة. هذا الضغط المتزايد يطرح وسط أزمة اقتصادية حادة وتعقيدات داخلية تعمق من حالة الانقسام السياسي والطائفي. في هذا الإطار يطرح السؤال حول مدى إمكانية فرض نزع السلاح كمطلب خارجي على واقع داخلي معقد يشكل فيه حزب الله قوة مؤثرة تمتلك شعبية واسعة وأذرع عسكرية؟، على الجانب الآخر لم تغب ورقة الدروز عن المشهد حيث بدأت توترات بين هذه الطائفة وبعض القوى الأخرى تبرز مجدداً، ما يضيف بعداً جديداً من التعقيد إلى الساحة اللبنانية، يطرح كذلك ملف الاقتراب (الإسرائيلي) من الحدود اللبنانية، بعد أن باتت قوات الاحتلال أكثر تواجداً في الجنوب السوري وهو ما قد يفتح الباب أمام استهدافات أو محاولات لتغيير ميزان القوى على الأرض.

ومع هذا الكم من العوامل تبدو الساحة اللبنانية معرضة لزخم من التحركات التي قد تحمل في طياتها مخاطر تصعيد عسكري أو سياسي، مما يتطلب متابعة دقيقة وقراءة متأنية لكل التطورات قبل استخلاص استنتاجات حاسمة.

 

اليمن بين العجز المعلن والاستعداد لضربة مفاجئة

في اليمن تبدو الصورة مركبة وحساسة على نحو خاص، حيث تصرح القوى (الإسرائيلية) والغربية باستمرار بعدم قدرتها على استهداف قيادات أو منشآت يمنية رئيسة، وهو ما يثير علامات استفهام عميقة حول صحة هذه التصريحات. فقد أثبتت التجارب السابقة أن مثل هذه التصريحات قد تستخدم كغطاء لعمليات استخباراتية وتحضيرات سرية تهدف إلى مباغتة الخصم بضربة مركزة وفعالة في توقيت مدروس. في هذا السياق يظل احتمال تنفيذ ضربة استراتيجية واحدة تستهدف قيادات أو مراكز قوة صنعاء قائماً، رغم الانطباع الظاهر بوجود عجز في الوصول إلى الأهداف. هذا الأسلوب في المراوغة يعكس استراتيجية عدو يفضل الكتمان والتخفي على إعلان إنجازاته مسبقاً، مما يعقد مهمة الرصد والتحليل. لذا من الضروري قراءة التحركات العسكرية والسياسية في اليمن بعين ناقدة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الواقع الميداني قد يخفي تحولات مفاجئة ومهمة. في الوقت نفسه تشكل البيئة الميدانية المعقدة في اليمن تحدي كبير للاستخبارات والعمليات العسكرية مما قد يؤثر على توقيت وحجم أي عملية مقبلة.

 

إيران بين الاستعداد المستمر والصراع المفتوح

في إيران، المشهد لا يشير إلى نهاية الصراع أو تراجع النفوذ بل إلى استعدادات متواصلة لمرحلة جديدة من المواجهة. فالتحركات الأخيرة تتسم بتكثيف المناورات العسكرية وتعزيز الدفاعات الجوية، إلى جانب إصدار أوامر لتسريع تصنيع الصواريخ الباليستية، ما يعكس حالة استنفار قصوى وتحضيراً لاستراتيجيات مواجهة محتملة. هذه الاستعدادات تعبر عن إيمان القيادة الإيرانية بوجود تهديدات مستمرة وربما متزايدة، تفرض تعزيز القدرات الدفاعية والهجومية على حد سواء.

على الجانب الآخر تلعب (إسرائيل) دوراً مركزياً في رسم ملامح التحدي الإيراني، من خلال متابعة مستمرة للتطورات وتعزيز تحالفاتها مع الولايات المتحدة ودول الخليج، سعياً إلى إضعاف النفوذ الإيراني واحتوائه. تشمل هذه الاستراتيجية عمليات استخباراتية، ضربات استباقية، وتعزيز التعاون العسكري والاستخباراتي، في محاولة لضبط التوازن الإقليمي.

لكن تحالفات (إسرائيل) الدولية والإقليمية ليست ثابتة أو مضمونة النجاح، فهي تواجه تعقيدات سياسية وعسكرية معقدة داخل المنطقة وخارجها. بالإضافة إلى ذلك هناك سيناريوهات متباينة بين التصعيد العسكري المباشر والضغط الدبلوماسي أو التفاوض، مما يضيف طبقة من عدم اليقين على مستقبل المواجهة.

بالتالي يبقى المشهد الإيراني مرتبطاً بمتغيرات عديدة تستوجب متابعة مستمرة وتحليل دقيق، إذ أن أي تصعيد أو تحرك كبير سيكون له تداعيات عميقة على التوازنات الإقليمية وعلى ملفات عدة في المنطقة.

في ظل هذه المعطيات، لا يمكننا تجاهل حقيقة أن العدو الذي حقق إنجازات ملموسة على الأرض، لا يظهر أي خوف من المجتمع الدولي أو ضغوطه، بل يبدو أكثر إصراراً على المضي قدماً في تحقيق أهدافه الاستراتيجية مهما كانت التكاليف. هذا الواقع يستدعي منا الحذر الشديد واليقظة المستمرة فكل الاحتمالات واردة، ولا مجال للاسترخاء أو التقليل من حجم التهديدات التي تواجهها المنطقة. التصعيد قد يأتي من حيث لا يتوقع، واللعب على أكثر من جبهة هو السمة الأبرز لخطط هذا العدو وشريكه في التحالفات. لذلك فإن قراءة معمقة واستعدادات متواصلة ومواقف حازمة هي وحدها التي يمكن أن تردع هذا المد المتصاعد وتحد من تأثيره السلبي على الأمن والاستقرار الإقليمي.

Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?

Reload Reload document
| Open Open in new tab

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى