الاكثر قراءةتحليلات و آراءغير مصنف

السويداء بين المحلي والإقليمي: تحليل الصراع وتفاعلاته في العلاقات الدرزية–الإسرائيلية

بقلم: نور نبيه جميل/ باحثة في مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية

 

تمهيد تحليلي

تعود محافظة السويداء إلى واجهة المشهد الأمني السوري في لحظة متغيرة من عمر الصراع، حيث تتقاطع اشتباكات محلية بين فصائل درزية ومجموعات عشائرية بدوية مع تحولات أوسع في موازين القوى الإقليمية والدولية. ورغم أن النزاع في ظاهره يحمل طابعًا أهليًا محليًا، إلا أن تطوره السريع وتدخّل (إسرائيل) العسكري المحدود – والمحمّل بدلالات استراتيجية – يكشف عن مدى هشاشة الحدود بين الصراع المحلي والإقليمي في الجغرافيا السورية المنقسمة.

ولا يمكن تفسير هذا التدخّل الإسرائيلي إلا من خلال فهم أعمق للتكوين السوسيولوجي في الجنوب السوري، وطبيعة التفاعلات الطائفية فيه، إلى جانب قلق إسرائيل المتصاعد من تدخل قوى إقليمية أخرى عبر مسارات غير مباشرة، من ضمنها الطائفة الدرزية. في المقابل، أظهرت الحكومة السورية المؤقتة قصورًا واضحًا في التعاطي مع هذا الملف، سواء على مستوى الإدراك السياسي أو في بناء مقاربة تراعي حساسية المكونات غير السنية، وهو ما كشف عن أزمة شرعية متجددة داخل بنية المعارضة ذاتها. وسنستعرض كل ذلك عبر الاتي:

 

الطبيعة المركبة للصراع في السويداء

١.الهوية الطائفية كعامل تعبئة ومخاطرة

الطائفة الدرزية في سوريا تمثل أقلية مغلقة نسبيًا، ذات بنية قبلية–روحية متماسكة، وقد عُرفت تاريخيًا بميلها إلى الحياد المتوتر في الصراعات الكبرى. إلا أن تفكك الدولة السورية بعد 2011 أجبر الدروز على إعادة بناء “نظام حماية ذاتية” يقوم على تشكيل مجموعات مسلّحة محلية، ليست بالضرورة متجانسة، بل تتفاوت بين شبكات الحماية المجتمعية التقليدية (كـ”رجال الكرامة”) وكتل أمنية تدور في فلك النظام أو القوى الخارجية.

٢.الصراع العشائري–الدرزي: ثأر مؤجل أم صدام وجودي؟

ما جرى من اشتباكات بين عشائر بدوية وفصائل درزية لا يمكن عزله عن التنافس القديم على الأراضي، وطرق التهريب، والامتيازات الأمنية. لكن هذه المرة، جاءت الاشتباكات في سياق مختلف فالعشائر تحاول فرض حضورها ضمن المعادلة الأمنية للجنوب بعد تقهقر النظام. اما الفصائل الدرزية تخشى من تكرار سيناريو العزل والاختراق كما حصل في السويداء 2015 و2022. بينما الحكومة المؤقتة تقف موقفًا مرتبكًا، إذ تدعم ما تعتبره “قوى ثورية” دون أن تُدرك أن التمايزات الطائفية تفوق الولاءات السياسية في هذا المشهد وتعمل على إزكاء الصراع وتقويض السلام في سوريا ككل.

التدخل (الإسرائيلي)بين الهواجس العقائدية والضرورات الاستراتيجية

١. العلاقة الخاصة مع الدروز: سياسة “حماية الرموز”

منذ ظهور (إسرائيل)، شكّل الدروز في الجليل والجولان ركيزة رمزية في بناء “تنوع مُدار” داخل الهوية العبرية، وتمت مكافأتهم سياسيًا وعسكريًا على دعمهم. من هذا المنطلق، فإن أي تهديد يُطال دروز سوريا، خصوصًا في منطقة تماس كالسويداء، يُفسّر إسرائيليًا كمسٍّ بعمق اجتماعي داخلي وجودي. مما يفسر التدخل (الإسرائيلي) الحالي في منطقة الصراع التي تعد واحدة من مصالحها الحيوية والوجودية.

٢.الضربات الجوية: رسائل استراتيجية لا إنسانية

تدخّلت (إسرائيل) عبر توجيه ضربات جوية محدودة لأطراف مقاتلة في محيط السويداء، مبرّرة ذلك بخرق “المنطقة منزوعة السلاح” وتعرض الطائفة الدرزية للخطر. لكن القراءة الواقعية تُظهر أن هذه الضربات كانت رسائل متعددة الاتجاهات:

  • للنظام السوري: بعدم التراخي في الجنوب.

  • للدول المجاورة او الإقليمية: أن السويداء ليست منطقة آمنة لتوسيع الأنشطة في المنطقة ونشر مستشارين عسكريين الخ.

  • وللدروز أنفسهم: أن إسرائيل تراقبهم عن كثب، لكنها لن تتدخل إلا في حدود الحفاظ على “التوازن الأمني الرمزي”.

 

هشاشة المعارضة وتآكل شرعيتها

١.مأزق الحكومة السورية المؤقتة

بدت الحكومة المؤقتة عاجزة عن قراءة الواقع المعقّد في السويداء، بل أظهرت اندفاعًا مفرطًا في تأييد بعض الأطراف دون اعتبار للهياكل المجتمعية المحلية، مما أضرّ بعلاقتها بمكونات رئيسية، ليس فقط من الدروز، بل أيضًا من المكونات الأخرى كالأكراد والمسيحيين.

٢.فشل استراتيجية “السنيّة السياسية”

ظهر أن الرهان على خطاب توحيدي قائم على المعارضة السنية التقليدية لا يصلح لبناء تحالفات وطنية شاملة، خصوصًا حين تُواجه المعارضة باختبارات فعلية تتطلب مقاربات احتوائية مدنية وغير مؤدلجة.

الآثار المترتبة على الداخل السوري والتوازنات الإقليمية

١.إعادة رسم الاصطفافات في الجنوب

أدت الأحداث إلى انكفاء بعض الفصائل المحلية الدرزية عن التعاون مع المعارضة. وتعزيز قنوات اتصال غير رسمية بين الدروز وبعض الأجنحة في النظام، رغم فقدان الثقة. مع انبعاث بوادر التنسيق الميداني مع القوى الكردية، في إطار بحث الأقليات عن “تفاهمات بقاء”.

٢.اختبار لقدرة (إسرائيل) على ضبط الجنوب السوري

لم تعد (إسرائيل) تتحكم بحدود الاشتباك كما كانت بعد 2018.  الجنوب السوري يشهد فوضى أمنية، انهيار اقتصادي، واشتباكات محلية بين مكونات اجتماعية، مما جعل قدرة إسرائيل على “ضبط قواعد اللعبة” أقل فاعلية فالتحولات الاجتماعية والميدانية في الجنوب السوري، خاصة مع تراجع سيطرة النظام، تُجبر (إسرائيل) على التحرك بمرونة وضبط دقيق للتدخلات حتى لا تُتّهم بـ” هندسة الصراعات الطائفية” وبالرغم من هذه الصورة التي يرسمها الكيان الصهيوني الا ان مصالحه الداخلية والخارجية تجعل منه لاعبا مؤثرا في مشهد الصراع الحالي في السويداء وحتى في مناطق أخرى.

سيناريوهات مستقبلية محتملة للصراع الحالي

في ظل هذا المشهد المعقّد الذي تتداخل فيه التوترات الطائفية بالمصالح الإقليمية، وتتشابك فيه الأبعاد الأمنية بالمحددات الاجتماعية، تُصبح محاولة استشراف المسارات المستقبلية أمرًا ضروريًا، لا سيّما وأن حالة السويداء تُجسّد “نموذجًا مصغّرًا” لصراعات الهوية والنفوذ في سوريا ما بعد الدولة المركزية.

إن قراءة السيناريوهات لا تُعنى بالتنبؤ القطعي بوقوع حدثٍ معين، بل بتقدير اتجاهات الحركة السياسية والعسكرية والاجتماعية ضمن تفاعلات الداخل والخارج. وتكمن أهمية هذه السيناريوهات في أنها تُمكّن الباحث وصانع القرار من فهم نطاق الخيارات الممكنة، وتحليل فرص التدخل أو الاحتواء أو الانفجار، بناءً على معطيات واقعية وسياقات ديناميكية. وبناءً على تحليل المعطيات السابقة، يمكن تحديد أبرز السيناريوهات المحتملة لتطورات الوضع في السويداء على النحو الآتي

السيناريو الأول: رسوخ التهدئة الموضعية الهشة

 قد تتوصل الأطراف المحلية إلى تفاهمات جزئية تحت الضغط المجتمعي والدولي. مع احتفاظ (إسرائيل) بحق الردع المحدود دون تدخل مباشر إضافي. لكنّ أسباب التفجر وجذور الصراع باقية، ومنها غياب إدارة سياسية مستدامة ومحايدة. 

 

السيناريو الثاني: تصعيد إقليمي–محلي مترابط

يوضح هذا السيناريو ان تتكرر الاشتباكات، وربما تُستغل من قبل دول المنطقة أو النظام لتوسيع نفوذهم أو فتح قنوات مصالحية جديدة.  مع احتمال الرد من (إسرائيل) بعنف، وقد تتورط تركيا وروسيا دبلوماسيًا أو أمنيًا. مما يؤدي النتيجة الى تدويل تدريجي للصراع الداخلي. 

السيناريو الثالث: مشروع إدارة ذاتية محلية درزية–كردية

قد يتجه الدروز لتطوير هياكل حكم ذاتي بالتنسيق مع الإدارة الذاتية في الشمال الشرقي، تحت رعاية دولية أو أممية. يؤدي ذلك الى المخاطر منها: رد النظام، ورفض المعارضة، وتحسس(إسرائيل) من “نموذج لبناني جديد”. وهذا صعب في الوقت الراهن

الخاتمة

ما يجري في السويداء ليس مجرد صدام مسلح بين فاعلين محليين، بل هو اختبار مفتوح لمستقبل التعايش السوري، وحدود التدخلات الإقليمية، ومصداقية الفاعلين المعارضين والدوليين على حد سواء.

إن غياب الرؤية الوطنية الشاملة، وتآكل أدوات الضبط السياسي، واندفاع الأطراف الإقليمية خلف مصالحها الأمنية الضيقة، كل ذلك يجعل من السويداء نقطة ارتكاز هشة في معمار السلام السوري الغائب. وإن لم يُعاد التفكير في آليات إدارة التنوع الطائفي والإثني، فستكون السويداء مقدمة لتشظٍ أوسع يُهدّد وحدة ما تبقى من الجغرافيا السورية.

وعليه، فإن مستقبل الجنوب السوري – وفي قلبه السويداء – بات مرتهنًا لقدرته على الإفلات من أنماط الاستقطاب العمودي التي تعمّق الطائفية والارتباطات الإقليمية. ولن يتحقق ذلك إلا من خلال مشروع وطني تعددي، يقرّ بتعقيدات الواقع، ويرفض إغراءات الحسم بالقوة أو الاستقواء بالخارج، ويعيد الاعتبار لفكرة الدولة باعتبارها الضامن الوحيد للتماسك المجتمعي.

Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?

Reload Reload document
| Open Open in new tab

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى