الاكثر قراءةتحليلات و آراءغير مصنف

الأزمة المائية في العراق وتأثيرها على الأمن القومي

قراءة في أبعادها الاستراتيجية

بقلم: الباحث أحمد مجباس العيساوي

 

المــــقدمة

يواجه العراق أزمة مائية غير مسبوقة تهدد أمنهِ القومي بمختلف جوانبه، وتتفاقم هذه المعضلة بفعل التحولات المناخية، التي تتجسد في فترات الجفاف وارتفاع درجات الحرارة، إضافة إلى السياسات المائية لدول الجوار التي تقوم بإنشاء السدود وتحويل مجاري الأنهار، وتشتد حدة الوضع بسبب سوء التدبير الداخلي للموارد المائية، والبنى التحتية المتهالكة، والتلوث الكارثي الذي يمس نهري دجلة والفرات وروافدهما وتشير التوقعات إلى أن انخفاض المخزون المائي الاستراتيجي إلى أدنى مستوياته منذ 80 عاماً، وتتعدى تداعيات هذه الأزمة الجانب البيئي لتشمل الأمن الاقتصادي عن طريق تدهور القطاع الزراعي وتهديد الأمن الغذائي ومعيشة الناس، والأمن الاجتماعي عبر النزوح الداخلي وتزايد النزاعات الاجتماعية والأزمات الصحية الناجمة عن تلوث المياه إضافة إلى ذلك، تؤثر الأزمة بشكل مباشر على الديناميكيات الجيوسياسية للمنطقة، حيث تصبح المياه أداة ضغط سياسي بين العراق ودول المنبع تقتضي هذه الأبعاد الاستراتيجية المتداخلة حلولاً شاملة تتجاوز الإدارة التقليدية للموارد المائية، وتستدعي تضافر الجهود الوطنية والدبلوماسية النشطة والتعاون الدولي لمواجهة هذا التحدي الوجودي.

  1. زمة المياه بين العراق وتركيا وإيران

يشهد العراق حالياً أزمة مائية غير مسبوقة، إذ أن صيف عام 2025 هو “الأقسى” على العراقيين حيث المخزون المائي الاستراتيجي للبلاد في أدنى مستوياته منذ 80 عاماً، حيث يبلغ حوالي 10 مليارات متر مكعب فقط، هذا الرقم يمثل أقل من نصف الكمية المطلوبة لموسم الصيف، والتي تقدر بنحو 18 مليار متر مكعب، هذا التدهور الحاد في المخزون المائي يعكس تقصيراً في التخطيط الاستباقي والقدرة على الاستجابة، مما يحول الأزمة من تهديد طويل الأمد إلى تحدٍ وشيك يمكن أن يؤدي إلى اضطرابات اجتماعية واقتصادية فورية

جدول رقم (1) مؤشرات الموارد المائية الرئيسية في العراق القيمة الحالية مقابل المطلوبة

المؤشر

القيمة الحالية تقريبية

القيمة المطلوبة لموسم الصيف

ملاحظات

المخزون المائي الاستراتيجي

10  مليارات متر مكعب

18  مليار متر مكعب

الأدنى منذ 80 عامًا

حصة العراق من المياه العابرة للحدود

أقل من 40%

انخفاض كبير في منسوب دجلة والفرات

مساحة الأراضي الزراعية الصيفية

1.5  مليون دونم للحفاظ فقط

لن يتم التوسع في الخطة الزراعية

 

يُصنّف العراق ضمن الدول الخمس الأكثر عُرضة لمخاطر التغيرات المناخية، إذ تشهد البلاد ارتفاعاً غير مسبوق في درجات الحرارة خلال فصل الصيف، وشُحاً حادًا في الأمطار خلال الشتاء، مما يؤدي إلى تفاقم أزمة المياه والجفاف، كانت الأمطار هذه السنة ضئيلة للغاية، مما أثر بشكل كبير على المخزون المائي، وعلية سيؤدي إلى زيادة عدم الاستقرار الاجتماعي والنزوح ، مما يؤثر بشكل مباشر على الأمن القومي، ومن المتوقع أن تتسع الفجوة بين العرض والطلب على المياه في العراق من حوالي 5 مليارات متر مكعب حاليا إلى 11 مليار متر مكعب بحلول عام 2035، إذ أصبحت ظاهرة التصحر ملموسة يومياً في البيئة العراقية، إذ يعتمد العراق بشكل كبير على الموارد المائية القادمة من خارج حدوده، حيث يأتي أكثر من 70% من مياهه من دول الجوار، هذه التبعية العالية لمصادر المياه العابرة للحدود تحول الأزمة المائية من قضية داخلية بحتة إلى نقطة ضعف جيوسياسية معقدة فبقاء الأمن القومي للعراق مرهوناً بسياسات وإجراءات دول المنبع، وتعد تركيا، كدولة منبع، من العوامل الرئيسية في تفاقم أزمة المياه في العراق، فقد قامت بإنشاء العديد من السدود الكبيرة على نهري دجلة والفرات، مما أدى إلى نقصان كبير في تدفق المياه إلى العراق، ومن أبرز هذه المشاريع سد أتاتورك على الفرات وهو خامس أكبر سد العالم، والذي اكتمل إنشاؤه عام 1990،إضافة إلى سدي إليسو على دجلة، حيث بدأ تخزين المياه في إليسو عام 2019 وتندرج هذه السدود ضمن مشروع جنوب شرق الأناضول الذي يهدف إلى ري مساحات واسعة وتوليد الطاقة الكهرومائية، مما يعطي تركيا سيطرة واسعة على الموارد المائية المتجهة إلى العراق، وتتلقى العراق حالياً 353 متراً مكعباً في الثانية فقط من تركيا وسوريا، وهو أقل بكثير من الحاجة الفعلية المقدرة بـ 600-800 متر مكعب في الثانية، وقد أفادت التقارير أن تركيا ربطت زيادة الإطلاقات المائية بموافقة العراق على إحالة مشاريع بناء السدود إلى شركات تركية وتُساهم إيران كذلك في تفاقم أزمة المياه في العراق عبر إنشاء السدود وتغيير مسارات الأنهار والروافد المتشاركة، مثل نهري سيروان (ديالى) والزاب الصغير، إضافةً إلى نهري كارون وكرخة تهدف مشاريع مثل سد داريان ونفق نوسود إلى تحويل مليار متر مكعب سنوياً من المياه المتجهة إلى العراق إلى داخل إيران لأغراض زراعية وصناعية تسيطر إيران على 15% من المياه الجارية إلى العراق وبعض السدود الإيرانية، مثل سد هيروي، معدّة لمنع وصول المياه إلى الأراضي العراقية، ما يؤثر سلباً على سدي دربندخان وحمرين، هذا يعني أن العراق يواجه أزمة مائية خارجية على جبهات متعددة، مما يتطلب إدارة دبلوماسية معقدة مع جارتين قويتين في الوقت ذاته.

 

  1. العوامل الداخلية: سوء إدارة المياه، البنية التحتية المتهالكة، والتلوث

يعتمد القطاع الزراعي في العراق بدرجة كبيرة على أساليب الري التقليدية المهدرة للمياه، الأمر الذي يؤدي إلى خسائر فادحة، وتشير التخمينات إلى أن حوالي 50% من المياه تهدر بسبب الاستخدام غير الكفء كذلك أن معدلات التبخر المرتفعة من الخزانات، مثل بحيرة الثرثار، تساهم في فقدان أكثر من 50% من المياه المخزونة في العراق يضاف إلى ذلك قلة الوعي العام بأهمية ترشيد استهلاك المياه وتعاني أيضاً أنهار العراق من تلوث “مدمر” ناجم عن تصريف مياه الصرف الصحي غير المعالجة والنفايات الصناعية والطبية، لا يحصل سوى حوالي نصف سكان العراق البالغ عددهم 43 مليون نسمة على مياه شرب نظيفة ويتم تصريف ثلثي مياه الصرف الصحي المنزلية والصناعية (6 ملايين متر مكعب يومياً) مباشرة إلى الأنهار دون معالجة ويتسبب التلوث في فقر الدم، والسالمونيلا، والكوليرا والتسمم، والاسهال الجرثومي، كذلك المياه الملوثة هي سبب رئيسي للسرطان، خاصةً في البصرة إذ 85% من علل الأطفال متصلة بالمياه  وفي كركوك، أدت مياه “وادي النفط” الملوثة بالنفط إلى إتلاف 80 ألف دونم زراعي، وفي بغداد، تظهر دلائل التلوث واضحة في نهر دجلة، حيث يجري تصريف مياه الصرف الصحي والفضلات الطبية من المستشفيات بلا معالجة، أيضا يعاني العراق من قدم الأنظمة الخاصة بإدارة الثروة المائية وعدم ترابطها، كما يشكو قطاع المياه من عجز حاد في التمويل، حيث تراجعت ميزانية وزارة الموارد المائية بشكل كبير من 1.7 مليار دولار إلى 15 مليون دولار سنويا هذا النقص في التمويل يعرقل التشغيل الفعال وصيانة البنية التحتية الراهنة، فضلًا عن بناء مشاريع جديدة كما أن عملية اللامركزية لخدمات المياه والصرف الصحي إلى السلطات المحلية لم تحقق تقدما كبيرا بسبب المعوقات الإدارية والمالية والسياسية، إضافة إلى إن التشريعات القانونية القديمة  تكشف عن قصور أساسي في الحوكمة، هذا يعني أنه حتى مع توفر المياه من المصادر الخارجية، فإن قدرة العراق الداخلية على إدارة وتوزيع المياه بكفاءة مهددة للخطر الشديد، مما يجعل تنفيذ أي حل شامل أمراً عسيراً.

  1. التأثيرات الاستراتيجية على الأمن القومي العراقي

  • أ‌- تداعيات الأمن الاقتصادي: تُجبر شُح المياه في تقليل واسع في مساحة الأراضي الزراعية خاصة للمزروعات الصيفية، ومن المتوقع أن تتسبب شُح المياه في خسارة ما يصل إلى 40% من الأراضي الصالحة للزراعة في المناطق الجنوبية من البلاد خلال السنوات القادمة، هذا يمثل ضربة قوية لقدرة البلاد الزراعية واكتفائها الذاتي، مع عواقب طويلة الأجل على سبل العيش الريفية والأمن الغذائي الوطني إذ يحتاج العراق إلى حوالي 77 مليار متر مكعب لتلبية متطلباته الصناعية والزراعية والمدنية، لكن الكمية المتوفرة تبلغ 35 مليار متر مكعب فقط، مما يزيد من “الفجوة الغذائية” هذه تخلق نقاط ضعف اقتصادية جديدة واحتمال للضغط السياسي الخارجي، مما يؤثر مباشرة على السيادة الوطنية

  • ب‌- النزوح الداخلي بسبب الجفاف والتدهور البيئي: أفضت شُحّ المياه والجفاف إلى نزوح داخلي هائل، تحديداً في المحافظات الوسطى والجنوبية، ففي مُنتصف أيلول 2023، بلغ عدد النازحين بسبب الجفاف والتغير المناخي أكثر من 130 ألف شخص واعتباراً من تشرين الأول 2024، لا تزال أكثر من 28 ألف أسرة (168,696 فردًا) نازحة في 12 محافظة وسط وجنوب العراق، 50% منهم من محافظة ذي قار، وبسبب هذه الأرقام الضخمة والمتواصلة من المهجرين، تشهد تحولات سكانية وظهور فئة مستحدثة من “لاجئي المناخ” داخل العراق، يواجه هؤلاء النازحون صعوبات جمة في توفير سبل الرزق والسكن اللائق، والحصول على الخدمات، وتوضح المعطيات أن 10% منهم فحسب يفكرون بالعودة إلى مناطقهم الأم. هذا الواقع يولد ضغوطاً مجتمعية جديدة، ويرهق البنى التحتية الحضرية، وقد يزيد من حدة التوتر بين المجتمعات، ما يؤثر مباشرة على الاستقرار الداخلي والأمن الإنساني.

  • ت‌- تتصاعد التوترات الاجتماعية والخلافات بين المجتمعات: يدفع شح المياه وتدهور القطاع الزراعي السكان الريفيين إلى النزوح، مما يؤدي إلى تفاقم المشاكل والنزاعات والضغط على مصادر المياه في المناطق الجديدة، يمكن أن تثير هذه الهجرة أيضاً حساسيات ثقافية بين السكان الجدد والسكان الأصليين، ويمكن أن تتفاقم، مما يسبب وقوع ضحايا ويمكن إن تفاقم النزاعات المتعلقة بالمياه من صراعات عشائرية محلية إلى توترات مجتمعية أوسع يسلط الضوء على كيفية إضعاف الضغوط البيئية للنسيج الاجتماعي وتوليد خطوط تصدع جديدة داخل المجتمع العراقي، قد يؤدي هذا التشرذم الداخلي في تهديد التماسك الوطني  مما قد يؤدي إلى اضطرابات مدنية واسعة النطاق تهدد الاستقرار الداخلي برمته.

  • ث‌- المياه كأداة سياسية وأمنية: أضحت المياه مادة استراتيجية، تتجاوز قيمتها النفط، ومرتكزاً أساسياً للنزاعات، إذ تستخدم تركيا المياه كأداة للضغط السياسي والاقتصادي على العراق وكثيراً ما ترتبط هذه الممارسة بقضايا سياسية أوسع، مما يجعل خطط التنمية الاقتصادية تعتمد على دول المنبع، الأمر الذي يحوّل المياه إلى وسيلة ضغط أثناء النزاعات، وإن الاستخدام الواضح للمياه كـ “أداة سياسية وأمنية” من قبل دول المنبع  يُنشئ حالة من الضعف الجيوسياسي المزمن للعراق، هذا يعني أن الأمن القومي للعراق لا يتحدد فقط بقوته الداخلية، بل يتأثر بشدة بالحسابات الاستراتيجية والسياسات المائية لجيرانه، مما يشكل ملف المياه تهديداً استراتيجياً ووجودياً للعراق.

الخاتمة

تشكل الأزمة المائية في العراق خطراً وجودياً للأمن القومي، تظهر أبعادها الاستراتيجية في تدهور اقتصادي كبير، وتفكك اجتماعي ممكن، وتوتر جيوسياسي متصاعد، إن الاحتياطي المائي الحالي هو الأقل منذ سنوات، وتتفاقم المعضلة بسبب عوامل متعددة ومتشابكة: التغير المناخي الذي يسبب جفافاً مستمرا وارتفاعاً في درجات الحرارة، والسياسات المائية المنفردة لدول المنبع التي تخفض حصة العراق من المياه بشكل كبير، إضافة إلى سوء التدبير الداخلي، والبنى التحتية المتهالكة، والتلوث الكارثي، هذه العوامل لا تؤثر فقط على كمية المياه المتوفرة، بل على جودتها وصلاحيتها للاستخدام البشري والزراعي.

التوصيات

لمواجهة هذا التحدي القائم، ينصح بما يلي:

  1. تقوية الدبلوماسية المائية الناجعة: يتوجب على الحكومة العراقية مضاعفة المساعي الدبلوماسية مع تركيا وإيران وسوريا للوصول إلى اتفاقيات مُلزمة ومنصفة لتبادل المياه بالاعتماد على أسس القانون الدولي للمياه، ويجب على العراق حشد المساندة الدولية والضغط الدبلوماسي لضمان نصيبه المائي.

  2. الاستثمار في البنية التحتية المائية المتطورة: يتطلب ذلك استثمارات كبيرة في تجديد شبكات الري والصرف الصحي، وإنشاء محطات تنقية مياه الصرف الصحي، وتطوير تقنيات تحلية المياه وإعادة استعمالها، خاصة في المناطق الجنوبية.

  3. إدارة الموارد المائية في العراق: اعتماد استراتيجيات مستدامة، وذلك عبر تبني تقنيات ري حديثة وفعالة، مثل الري بالتنقيط، والتقليل من معدلات التبخر في الخزانات والسدود، إضافة إلى تعزيز الوعي العام بأهمية ترشيد استهلاك المياه وتثبيت ثقافة الاستخدام المسؤول لهذا المورد الحيوي.

  4. تعزيز الإدارة والتشريعات المائية: يستلزم الأمر تعديل التشريعات المائية لتكون وافية ومناسبة للأوضاع الراهنة والمستقبلية، وكفالة التمويل الكافي لقطاع المياه، ومعالجة العوائق الإدارية والمالية التي تعطل تطبيق هذه السياسات.

  5. التعاون مع الهيئات الدولية: يلزم الاستفادة القصوى من المساندة الفنية والمالية والمشاريع التي تقدمها الأمم المتحدة والبنك الدولي وغيرها من المنظمات، ودمج جهودها مع الخطط المحلية لضمان تحقيق أهداف التنمية المستدامة الخاصة بالمياه.

Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?

Reload Reload document
| Open Open in new tab

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى