الاكثر قراءةترجماتغير مصنف
(إسرائيل) تُعمِّق الفوضى لفرض التهجير القسري في غزة
من خلال تحويل القطاع إلى منطقة غير قابلة للحياة يمهّد نتنياهو السبيل لتطهير عرقي ممنهج

بقلم: روب غايست بينفولد/ محاضر في الأمن الدولي في كلية كينغز لندن وزميل باحث في مركز براغ للسلام وأستاذ مساعد في جامعة جونز هوبكنز
ترجمة: صفا مهدي عسكر/ مركز حمورابي للبحوث والدراسات الإستراتيجية
تحرير: د. عمار عباس الشاهين/ مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية
أعلن رئيس الوزراء (الإسرائيلي)** بنيامين نتنياهو في مؤتمر صحفي عُقد في البيت الأبيض يوم الاثنين أن (إسرائيل) “تتعاون بشكل وثيق للغاية مع الولايات المتحدة” من أجل إيجاد دول يمكن أن “توفر للفلسطينيين مستقبلًا أفضل”، وأضاف قائلًا “من يرغب في البقاء فليكن له ذلك لكن من يريد المغادرة ينبغي أن تُتاح له الفرصة”، ويتناغم هذا التصريح مع جملة من السياسات (الإسرائيلية) التي حوّلت قطاع غزة إلى بيئة غير صالحة للحياة أو الحكم ضمن توجه يبدو أنه يتعمد تفريغ القطاع من سكانه، وبينما تتجدد النقاشات حول وقف محتمل لإطلاق النار وهزيمة حماس يتضح أن نتنياهو سعى مرارًا إلى إطالة أمد الحرب وعرقلة أي محاولة لبناء بديل سياسي قابل للحياة في غزة.
وفي حزيران انتقدت شخصيات معارضة داخل (إسرائيل) محاولات نتنياهو لتسليح ميليشيات فلسطينية مناهضة لحماس داخل القطاع، كما وجّهت انتقادات حادة لاستخدام مؤسسة “مساعدات غزة الإنسانية” كقناة إيصال للمساعدات في ظل غياب آلية إنسانية موثوقة، وقد أسفرت هذه السياسات عن نتائج كارثية إذ قُتل نحو 600 فلسطيني خلال الشهر الماضي أثناء انتظارهم للحصول على المساعدات في مشهد يعكس الانحدار المستمر نحو انهيار شامل.
ظاهريًا قد تبدو هذه السياسات منفصلة الا أنها تكشف عن نهج واحد وهو غياب استراتيجية واضحة لليوم التالي، ولكن إذا كان الهدف الفعلي لنتنياهو هو تفاقم الفوضى والمعاناة إلى الحد الذي يدفع السكان إلى الهجرة “الطوعية” فيمكن القول إنه قد قطع شوطًا كبيرًا في هذا الاتجاه، ويتجلّى البعد الحقيقي لهذه السياسة في نوعية الأطراف الفلسطينية التي تتحالف معها (إسرائيل) حاليًا فقد أكد نتنياهو مؤخرًا أن حكومته سلّحت ما وصفه بـ”جهاز فلسطيني لمكافحة الإرهاب” بقيادة شخص يُدعى ياسر أبو شباب، وردًا على الانتقادات قال نتنياهو بلا اكتراث “لقد فعّلنا العشائر في غزة التي تعارض حماس ما الخطأ في ذلك”؟
لكن الواقع أكثر تعقيدًا، إذ إن ميليشيا أبو شباب ليست عشيرة اجتماعية بل عصابة مؤلفة من أفراد منبوذين من عدة عائلات تُعرف في غزة بالعشائر وغالبًا ما نبذتهم مجتمعاتهم لأسباب جنائية، فقد كان أبو شباب نفسه معتقلًا بتهمة تهريب المخدرات ويقضي حكمًا بالسجن لمدة 25 عامًا قبل أن يفرّ من السجن أواخر عام 2023 حتى أن عائلته تبرأت منه. أما مزاعمه بأن ميليشياه تسعى لحماية قوافل المساعدات فتتناقض مع سلوكهم على الأرض حيث وثّقت حوادث متعددة لاعتداءاتهم على المدنيين الفلسطينيين في شوارع غزة ونهبهم لقوافل الإغاثة وذلك في مناطق تسيطر عليها القوات (الإسرائيلية) وتحت مراقبة مباشرة من جنود جيش الدفاع، ووفقًا لموظف إغاثة رفيع المستوى يعمل داخل غزة منذ أكثر من عام تحدث بشرط عدم كشف هويته فإن القوات (الإسرائيلية) تغض الطرف عن تجاوزات أبو شباب في حين تتدخل ضد شرطة حماس أو عناصر العشائر التي تحاول صدهم، وقد أكّد هذه المعلومات أيضًا دبلوماسي فلسطيني من غزة.
لم تكتفِ (إسرائيل) بغضّ الطرف عن الفوضى المتفشية في قطاع غزة بل لعبت دورًا مباشرًا في تأجيجها، ففي أيار اتهم مسؤولون في الأمم المتحدة (إسرائيل) بتوجيه قوافل المساعدات إلى مناطق في غزة حيث كانت ميليشيا ياسر أبو شباب تتربص بها لنهبها، ووفقًا لمسؤول إغاثة أمضى أكثر من عام في غزة فإن ضباطًا كبارًا في الجيش (الإسرائيلي) صرّحوا صراحة بأن على منظمات الإغاثة “التعامل” مع العصابات، أي إما دفع المال لها أو السماح لها بسرقة جزء من المساعدات. كما تجلّى تعاون (إسرائيل) مع العصابات الإجرامية من خلال تهريب السجائر، إذ كانت تُخفى كراتين السجائر في قوافل المساعدات بالتنسيق مع جهات في مصر لتُهرّب عبر المعابر دون أن ترصدها أنظمة التفتيش (الإسرائيلية)، لتقع بعد ذلك في يد الميليشيات المدعومة (إسرائيليًا) وتُباع في السوق السوداء بأسعار خيالية تصل إلى 200 دولار للعلبة الواحدة.
هذه الممارسات تكشف أن جماعة أبو شباب لا تسعى إلى الحلول محل حماس كجهة حاكمة كما تفتقر إلى القدرة على ذلك، فبرغم شهرتها لا يتجاوز عدد أفرادها 300 شخص، وقد أسهمت عمليات السرقة والتعاون مع الاحتلال في تعميق كراهية سكان غزة لهذه الميليشيات، كما قال عامل الإغاثة “لقد مكّنت (إسرائيل) الفئة الوحيدة التي يكرهها سكان غزة أكثر من حماس و(إسرائيل) نفسها”، وأكّد دبلوماسي فلسطيني من غزة أن (حماس مكروهة في غزة لكنها على الأقل تحافظ على النظام).
وفي أيار تفاخر وزير المالية (الإسرائيلي) بتسلئيل سموتريتش بأن “(إسرائيل) تقضي على وزراء حماس وبيروقراطييها” الا ان السياسات (الإسرائيلية) لم تتجه نحو البحث عن بدائل مسؤولة بل نحو تمكين عناصر إجرامية لا تمتلك أدنى مقومات الحوكمة، فالميليشيات التي تدعمها تل أبيب ليست بديلاً سيئًا لحماس بل لا يمكن اعتبارها بديلًا أصلًا، وفي ظل الخيار بين الفوضى وبين الحد الأدنى من النظام تحت حكم حماس قد يبدو خيار العودة إلى حماس مفهوماً لدى السكان.
بمعنى آخر لم تعمل (إسرائيل) على احتواء الفوضى في غزة بل ساهمت في تعميقها بشكل متعمّد على ما يبدو في ظل تنامي عدد العصابات المسلحة التي تتلقى دعمًا مباشرًا منها، وبدورها شكّلت حماس مليشيا بملابس مدنية لمواجهة تلك العصابات، والنتيجة هي حالة من الفوضى العارمة ميليشيات تتنازع السيطرة على المساعدات لتصبح السيطرة على الإغاثة هي مدخل السيطرة على المدنيين، وكما قال أحد سكان غزة “لم أعد أميّز بين أفراد العشائر والمجرمين وعناصر حماس”.
وفي موازاة ذلك تثير طريقة إدارة “مؤسسة غزة الإنسانية” – وهي منظمة غير حكومية غامضة التمويل تدعمها الولايات المتحدة و(إسرائيل) – مزيدًا من الشكوك بشأن نوايا (إسرائيل) إذ تهدف المؤسسة إلى تنظيم توزيع المساعدات وضمان عدم استغلالها من قبل حماس أو غيرها من الجهات، وقد اقتصرت نقاط توزيع المساعدات على أربعة مواقع يُفترض أن تكون مؤمّنة من قبل الجيش (الإسرائيلي) وشركات أمنية خاصة وتخضع لمراقبة باستخدام تقنيات التعرف على الوجوه لمنع تسلل عناصر حماس، لكن الواقع جاء مغايرًا تمامًا المواقع غير مجهّزة وتعاني من نقص حاد في الكوادر ويُستخدم فيها الرصاص الحي وقذائف الهاون والمدافع الرشاشة لإبعاد طالبي المساعدات، وصف أحد الجنود (الإسرائيليين) هذه المواقع بأنها “حقول قتل” مضيفًا “وسيلتنا الوحيدة للتواصل مع المدنيين هي إطلاق النار”.
وفوق ذلك فإن المساعدات لا تصل إلى المدنيين أولًا بل إلى العصابات المسلحة بما فيها مجموعة أبو شباب التي تتقاسم الغنائم مع قوات (إسرائيلية) ومتعاقدين أميركيين، وكما أوضح الدبلوماسي الفلسطيني فإن هؤلاء يحصلون على المواد الأعلى قيمة مثل الدقيق والسكر لبيعها في السوق السوداء ولا يُسمح للمدنيين بالدخول إلا بعد مغادرة هذه المجموعات، أما من الناحية اللوجستية فإن قدرات المؤسسة لا تكفي لتغطية احتياجات نصف سكان القطاع، وبينما كانت الأمم المتحدة تشغّل نحو 400 مركز توزيع تكتفي المؤسسة بأربعة ثلاثة منها تقع على الحدود مع سيناء وهي مناطق كانت (إسرائيل) قد اقترحت ترحيل الفلسطينيين إليها في السابق.
إن هذا الإخفاق لم يكن مفاجئًا بل كان متوقعًا مما يشير إما إلى إهمال جسيم أو إلى سياسة متعمّدة، وتُظهر هذه الخلفية كيف أن (إسرائيل) استغلت ملف الإغاثة لفرض شروط حياة قاسية على السكان في الوقت الذي تدّعي فيه دعم جهات غير تابعة لحماس لكنها عمليًا تعزز من موقع الحركة، الحقيقة باتت جلية العملية العسكرية (الإسرائيلية) الأخيرة في غزة والتي تُعرف باسم “مركبات جيش جدعون” تهدف إلى توسيع الوجود العسكري (الإسرائيلي) في كامل القطاع ودفع السكان جنوبًا نحو الحدود المصرية.
وقد أعلن وزير الدفاع (الإسرائيلي) عن نية نقل السكان إلى “مدينة إنسانية” وأعرب عن دعمه لخطة تهجير أوسع، هذا هو السيناريو (الإسرائيلي) لليوم التالي في غزة، وبغض النظر عن التفاهمات أو اتفاقيات وقف إطلاق النار التي قد تُبرم لاحقًا، فإن سياسات نتنياهو الحالية قد أرست فعليًا الأسس لتهجير قسري واسع النطاق لسكان القطاع.
* Rob Geist Pinfold, an expert’s point of view on a current event Israel Is Sowing Chaos to Secure Displacement in Gaza, FOREIGN POLICY, July 8, 2025.
** لمقتضيات الأمانة العلمية، وضرورات الترجمة الدقيقة، تم الإبقاء على كلمة (إسرائيل)، وهو لا يعني اعتراف المركز بها، وما هو مكتوب يمثل راي وأفكار المؤلف.



