الاكثر قراءةتحليلات و آراءغير مصنف

عملية السلام الصورية بين تركيا وحزب العمال الكردستاني

بقلم: الباحث بختیار أحمد صالح

 

تتميز عملية “السلام” الجارية بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني (PKK)، بطلب تركيا لنزع السلاح غير المشروط بدلاً من التفاوض المتبادل. على الرغم من دعوات عبد الله أوجلان لنزع سلاح حزب العمال الكردستاني وحله، والهدنة أحادية الجانب وقرارات المؤتمر اللاحقة لحزب العمال الكردستاني، فإن هذه العملية تفتقر إلى الاتفاقيات الرسمية أو الضمانات القانونية لحقوق الأكراد أو وساطة طرف ثالث، مما يميزها عن سوابق بناء السلام الدولية الناجحة.

النهج الحالي هو مبادرة حكومية في المقام الأول، تهدف إلى حل حزب العمال الكردستاني بشكل مُتحكَّم فيه، ويعكس الأيديولوجية القومية الكمالية العميقة لتركيا و”متلازمة سيفر”. يمنع هذا السياق الأيديولوجي أنقرة من الاعتراف بحزب العمال الكردستاني كفاعل سياسي شرعي أو تقديم تنازلات سياسية وثقافية حقيقية للسكان الأكراد. تظل ديناميكية تركيا وحزب العمال الكردستاني “صراعًا مجمدًا”. يشير هذا التعايش الهش، الذي يتميز بالضغط العسكري المستمر وغياب الثقة، إلى مستقبل غير مؤكد من المرجح أن يتأرجح بين تخفيف محدود للتوتر والعنف المتجدد في غياب تغيير جوهري في نهج تركيا تجاه الحقوق السياسية والثقافية الكردية.

مقدمةالصراع المستمر ووهم السلام

بدأت المرحلة الحديثة من هذا الصراع حوالي عام 1922، بالتزامن مع ظهور القومية الكردية وتشكيل الدولة التركية الحديثة. فرضت الدولة التركية حديثة التأسيس، ذات التوجه القومي الكمالي، هوية وطنية موحدة وقيدت الفروق الثقافية والعرقية بالمجال الخاص. لقد قمعت الحكومات التركية المتعاقبة الهوية الكردية، بما في ذلك حظر اللغة الكردية وإزالة مصطلحات مثل “الأكراد” و”كردستان” من الخطاب الرسمي، مما أدى إلى سلسلة من الثورات وبرنامج استيعاب قسري عدواني. تصاعد هذا الصراع إلى مواجهة مسلحة واسعة النطاق مع تمرد حزب العمال الكردستاني عام 1984، مما أودى بحياة عشرات الآلاف.

في السنوات الأخيرة، لا سيما في عامي 2024 و2025، عاد الحديث عن السلام بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني إلى الواجهة. في عام 2024، بدأت أنقرة عملية سياسية جديدة أدت إلى دعوة عبد الله أوجلان، زعيم حزب العمال الكردستاني المسجون، في شباط 2025 لنزع سلاح المجموعة وحلها. ومع ذلك، فقد تم التشكيك بشدة في طبيعة هذه العملية. تحلل هذه البحث هذه الأحداث على أنها “عرض نزع سلاح صوري” يمثل محاولة أحادية الجانب لنزع السلاح دون تنازلات متبادلة حقيقية أو ضمانات لحقوق الأكراد.

تجادل هذ البحث بأن “عملية السلام” بين تركيا وحزب العمال الكردستاني في 2024-2025 هي في الأساس طلب حكومي للاستسلام غير المشروط، وليست مفاوضات متبادلة. هذا النهج متجذر بعمق في الأيديولوجية القومية الكمالية التركية و”متلازمة سيفر”، مما يعيق الاعتراف الحقيقي والمصالحة السياسية ويؤدي إلى ديناميكية “صراع مجمد” تفتقر إلى العناصر الأساسية التي لوحظت في اتفاقيات السلام الدولية الناجحة.

أحد الجوانب المهمة لفهم هذه العملية هو طبيعتها “الصورية” التي تعمل كأداة استراتيجية للشرعية الداخلية والخارجية. إذا كان نزع السلاح “صوريًا” ورفضت تركيا الاعتراف الرسمي أو الضمانات، فهذا يشير إلى أن الجمهور المستهدف ليس حزب العمال الكردستاني كشريك تفاوضي، بل الرأي العام التركي والمراقبون الدوليون. بالنسبة للرأي العام التركي، يظهر هذا العرض قوة الدولة ويؤكد أن حزب العمال الكردستاني كان “مخطئًا على الصعيد الدولي، يعزز هذا صورة تركيا كدولة تسعى بنشاط نحو السلام، مما قد يخفف الضغوط بشأن سجلها في مجال حقوق الإنسان أو عملياتها في العراق وسوريا. يسمح هذا النهج لتركيا بمتابعة أهدافها (حل حزب العمال الكردستاني) دون تنازلات سياسية مكلفة، مع الحفاظ على موقفها المتشدد بينما تبدو مرنة. إنه تحكم استراتيجي في السرد.

بالإضافة إلى ذلك، يتم استخدام نفوذ أوجلان المستمر كأصل استراتيجي، وليس كشريك تفاوضي. أوجلان، على الرغم من 25 عامًا في السجن، يتمتع “بنفوذ كبير” داخل الحركة الكردية. كانت دعوته لنزع السلاح “بيانًا مهمًا” أعلن حزب العمال الكردستاني “أنه سيطيعه”. ومع ذلك، فإن موقف تركيا هو “نزع السلاح غير المشروط” وتتجنب “الاعتراف بالطرف الآخر، هذا يشير إلى أن تركيا لا تتفاوض مع أوجلان أو حزب العمال الكردستاني كأطراف متساوية. بدلاً من ذلك، يتم استخدام سلطة أوجلان على حزب العمال الكردستاني لتحقيق هدف حل المجموعة، دون منح أي شرعية سياسية له أو لحزب العمال الكردستاني في المقابل. هذا تمييز دقيق ولكنه حيوي؛ مما يعني أن تركيا ترى أوجلان وسيلة للإدارة الداخلية لحزب العمال الكردستاني بدلاً من جسر للتسوية السياسية. وهذا يؤكد أيضًا عدم توازن القوى: تركيا تملي الشروط من خلال أوجلان، بدلاً من الانخراط في حوار ثنائي.

 

 

عملية السلام 2024-2025: سرد لنزع السلاح أحادي الجانب

تتميز عملية السلام الحالية بين تركيا وحزب العمال الكردستاني، التي تشكلت في 2024-2025، بتطورات رئيسية في موقف عبد الله أوجلان واستجابة حزب العمال الكردستاني، إلى جانب موقف تركيا الثابت بشأن نزع السلاح غير المشروط:

أ. دعوات عبد الله أوجلان الأخيرة لنزع سلاح حزب العمال الكردستاني وحله

في 27 شباط 2025، أصدر عبد الله أوجلان، زعيم حزب العمال الكردستاني المسجون، بيانًا مهمًا من جزيرة إمرالي، حث فيه المجموعة المسلحة على نزع سلاحها وحلها. رسالته، التي تم نقلها عبر ممثلي حزب العدالة الشعوب الديمقراطي (DEM Party)، أكدت أن الكفاح المسلح أصبح “باليًا” ودعت إلى الانتقال إلى الوسائل السياسية. لم تكن هذه أول دعوة لأوجلان لإنهاء الكفاح المسلح، لكن بياناته السابقة ركزت على إيجاد حل سياسي، بينما دعت هذه الدعوة صراحة إلى الحل. تأثرت دعوة أوجلان بـ”التطورات السياسية الأخيرة”، بما في ذلك التغيير غير المتوقع في لهجة دولت بختشلي، زعيم حزب الحركة القومية (MHP) وحليف رئيسي للرئيس أردوغان، في أكتوبر 2024، الذي دعا أوجلان إلى التحدث في البرلمان وحل حزب العمال الكردستاني، وأظهر أردوغان أيضًا دعمه لهذه الفكرة.

 

ب. وقف إطلاق النار أحادي الجانب وقرارات مؤتمر حزب العمال الكردستاني

في 1 اذار 2025، أعلن حزب العمال الكردستاني وقف إطلاق نار أحادي الجانب، مدعيًا أنه سيطيع أمر أوجلان وسيعمل على تنفيذه. في مؤتمره الثاني عشر (5-7 مايو 2025)، أعلن حزب العمال الكردستاني أربعة قرارات: إنهاء الصراع السياسي والعسكري ضد تركيا، والانتقال إلى الكفاح السياسي والقانوني، ووقف جميع أنشطة حزب العمال الكردستاني بحله، ووقف جميع الأنشطة العسكرية والسياسية. صرح حزب العمال الكردستاني أن “المؤتمر الثاني عشر قرر حل الهيكل التنظيمي لحزب العمال الكردستاني وإنهاء الكفاح المسلح، مع عملية تنفيذ يديرها ويوجهها القائد آبو [عبد الله أوجلان]. وبالتالي، انتهت جميع الأنشطة التي تتم باسم حزب العمال الكردستاني.

 

ج.الموقف الرسمي التركي: نزع السلاح غير المشروط كشرط مسبق، وليس نقطة تفاوض

حافظت الحكومة التركية على موقف “نزع السلاح غير المشروط” كشرط مسبق لأي نقاش حول حقوق الأكراد. صرح الرئيس أردوغان صراحة أن حزب العمال الكردستاني يجب أن ينزع سلاحه دون قيد أو شرط، وحذر من أنه في حالة توقف هذه العملية، ستستأنف العمليات العسكرية ضد حزب العمال الكردستاني. تعتبر أنقرة حزب العمال الكردستاني “جماعة إرهابية” وتسعى إلى “حله بشكل متحكم فيه” دون الدخول في عملية مصالحة حقيقية. تتجنب تركيا الشروط العادية لعملية السلام مثل الاعتراف بالطرف الآخر، أو توقيع الاتفاقيات، أو مشاركة الهيئات الضامنة.

إن إصرار تركيا على نزع السلاح غير المشروط ليس مجرد طلب إجرائي؛ بل هو تأكيد أساسي على سيادة الدولة ورفض إضفاء الشرعية على حزب العمال الكردستاني كفاعل سياسي. من خلال طلب الاستسلام أولاً، تعتزم تركيا تفكيك البنية التحتية العسكرية والسياسية لحزب العمال الكردستاني دون الدخول في عملية متبادلة تتطلب المساواة أو التنازلات بشأن حقوق الأكراد. يسعى هذا النهج إلى تعريف النتيجة على أنها “انتصار” على الإرهاب بدلاً من “اتفاق سلام” مع كيان سياسي، وبالتالي يمنع إنشاء أي سابقة للمجموعات المسلحة الأخرى التي تسعى إلى الشرعية السياسية من خلال الصراع.

 

 

د. تحليل “نزع السلاح الصوري” في السليمانية (تموز2025) ونطاقه المحدود

تدمير رمزي لبعض الأسلحة الخفيفة من قبل 20 إلى 30 مقاتلاً من حزب العمال الكردستاني في السليمانية، شمال العراق تخدم أهدافًا متعددة. بالنسبة لحزب العمال الكردستاني، هو إظهار لحسن النية والالتزام بأمر أوجلان، ويهدف على الأرجح إلى بناء الثقة أو الضغط على تركيا لاتخاذ إجراءات متبادلة. بالنسبة لتركيا، هو اختبار منخفض المخاطر لمدى سيطرة أوجلان الفعلية على منظمة حزب العمال الكردستاني الأوسع، خاصة عناصرها في العراق وسوريا. إذا واجه حزب العمال الكردستاني صعوبة حتى في تنفيذ هذا العمل الرمزي أو ظهرت انقسامات داخلية، فإن ذلك سيضعف موقف حزب العمال الكردستاني التفاوضي ويعزز رواية تركيا بأن المجموعة ليست كيانًا موحدًا وموثوقًا به لمفاوضات السلام. كما يسمح لتركيا بمراقبة ما إذا كان نفوذ أوجلان كافيًا لإجبار على نزع سلاح أوسع وأكثر جوهرية، دون أن تضطر تركيا إلى الالتزام بالتزامات أولية.

 

ه. غياب الاتفاقيات الرسمية أو الضمانات القانونية أو مشاركة طرف ثالث

حاليًا، لا يوجد اتفاق رسمي للسلام ولا توجد ضمانات قانونية أو دستورية محددة على عكس عمليات السلام الأخرى، لا توجد وثيقة موقعة في الأفق، لا توجد هيئة طرف ثالث مثل الأمم المتحدة أو الاتحاد الأوروبي كضامن، ولا يوجد برنامج محدد لنزع السلاح.   لم تقدم الحكومة التركية أي ضمانات رسمية في المقابل لنية حزب العمال الكردستاني المعلنة لنزع السلاح والحل. لم يتم تلبية مطالب الأكراد بالإصلاحات الديمقراطية والحقوق الثقافية وإطلاق سراح أوجلان، وتظل نوايا الحكومة غير واضحة.

يشير توقيت وطبيعة “عملية السلام” هذه إلى حسابات سياسية داخلية قوية من قبل حكومة أردوغان. يشير التغيير غير المتوقع في موقف حزب الحركة القومية إلى توافق استراتيجي لاستخدام دعوة أوجلان لنزع سلاح حزب العمال الكردستاني، ليس بالضرورة من أجل سلام حقيقي، ولكن لكسب رأس مال سياسي. من خلال التظاهر بمعالجة القضية الكردية، يمكن لأردوغان محاولة كسب الناخبين الأكراد المحبطين (الذين قد يدعمون حزب الشعوب الديمقراطي بخلاف ذلك)، مع إرضاء قاعدته القومية في نفس الوقت من خلال تأطيرها على أنها انتصار على منظمة “إرهابية”. تهدف هذه الاستراتيجية المزدوجة إلى توطيد السلطة وضمان النجاح الانتخابي المستقبلي، مما يشير إلى أن هذه العملية تتعلق بالبقاء والتوسع السياسي أكثر من حل الصراع.

 

 

السياق التاريخي والأيديولوجي: القومية التركية و”متلازمة سيفر

يتجذر نهج تركيا تجاه القضية الكردية وعملية السلام الجارية بعمق في المبادئ التأسيسية للجمهورية التركية ومخاوفها التاريخية.

1. المبادئ التأسيسية للجمهورية التركية: الهوية الموحدة، وحدة الأراضي، وقمع الفروق العرقية (الكمالية)

تؤكد الدولة التركية الحديثة، التي تشكلت في عشرينيات القرن الماضي على أساس القومية الكمالية، على الوحدة والاستقرار من خلال هوية سياسية موحدة، وتحيل الفروق الثقافية والعرقية إلى المجال الخاص. تشمل مبادئها التأسيسية الوحدة اللغوية، ووحدة الأراضي، والهوية التركية؛ وهي هوية تجمع بين الولاء المطلق للدولة، والعلمانية المتطرفة، والعداء للتعددية الثقافية. تعتبر الحكومة التركية أي مفاوضات حول القضايا الداخلية، لا سيما مع الحركة الكردية، خيانة لتراث أتاتورك وتهديدًا للوحدة الوطنية. هذه الأيديولوجية متجذرة في البرلمان، والدستور، والعقيدة العسكرية، والتعليم، والجهاز القضائي في تركيا.

2. متلازمة سيفر” كخوف سائد من المؤامرات الخارجية والداخلية لتقسيم تركيا

تشير “متلازمة سيفر” إلى اعتقاد سائد في تركيا بأن أعداء داخليين وخارجيين خطرين، وخاصة الغرب، يتآمرون لإضعاف وتقسيم الجمهورية التركية. ينبع المصطلح من معاهدة سيفر (1920) التي اقترحت تقسيم الإمبراطورية العثمانية وإنشاء منطقة كردية تتمتع بالحكم الذاتي في شرق الأناضول. على الرغم من أن هذه المعاهدة لم تُنفذ قط، إلا أنها عززت عقلية الحصار والبارانويا القومية. لا تزال هذه المتلازمة عاملًا حاسمًا في السياسة الخارجية والداخلية لتركيا، مما أدى إلى شك مستمر في الغرب وتطرف موقف النخب تجاه المنافسين الداخليين، بما في ذلك الإسلام السياسي أو الأقليات العرقية الذين يتم تقديمهم كمتعاونين مع القوى الأجنبية. قارن دولت بختشلي، زعيم حزب الحركة القومية، في وقت سابق اتفاق سلام مع الأكراد بمعاهدة سيفر، مدعيًا أن هذا الاتفاق “سيؤدي إلى انهيار الجمهورية التركية.

توفر متلازمة سيفر إطارًا أيديولوجيًا قويًا ومتجذرًا بعمق للحكومة التركية لتبرير موقفها المتشدد تجاه التطلعات السياسية الكردية. من خلال تأطير أي مطالب بالحقوق الثقافية أو السياسية كجزء من مؤامرة خارجية لتقسيم الأمة، فإن هذه المتلازمة تنزع الشرعية عن الفاعلين السياسيين الأكراد وتسمح للحكومة بتجنب المفاوضات الحقيقية. تعمل هذه الرواية على حشد الدعم العام للإجراءات القمعية، حيث يعتقد المواطنون أنهم يدافعون عن وجود الأمة ضد التهديدات الوجودية. وهذا يحول قضية سياسية داخلية إلى ضرورة أمن قومي، ويجعل التسوية تبدو خيانة.

 

3. كيف تؤثر هذه الأيديولوجية على رفض أنقرة الاعتراف بحزب العمال الكردستاني كفاعل سياسي أو تقديم تنازلات حقيقية

ترى تركيا نفسها معجزة ما بعد الإمبراطورية التي نجت من مصير دول مثل سوريا أو يوغوسلافيا، وتعتبر أي مفاوضات داخلية، لا سيما مع الحركة الكردية، تهديدًا لوجودها.  تعتقد الحكومة أن حركة مسلحة لا يمكن أن تتحول إلى قوة سياسية شرعية، لأن ذلك سيفتح الباب أمام الآخرين أيضًا للحصول على الشرعية السياسية من خلال الكفاح المسلح. هذه الأيديولوجية المتجذرة بعمق تجعل تركيا تعتقد أن التسوية مع الأكراد لا يمكن إصلاحها، لأنها تخشى أن يؤدي منح الأكراد حقوقًا ثقافية أو سياسية إلى تشجيع أقليات أخرى مثل العلويين والأرمن والشركس على تقديم مطالب مماثلة . كما أن وجود نماذج الحكم الكردي في سوريا والعراق قد أثار قلق تركيا، وترى أنقرة الفيدرالية في العراق واللامركزية في سوريا ليست حلولًا، بل ناقوس خطر لبقائها.

يشير هذا الوضع إلى تناقض استراتيجي. فبينما ترفض الأيديولوجية الكمالية أساسًا شرعية المطالب السياسية الكردية وتعتبر حزب العمال الكردستاني تهديدًا وجوديًا، فإن تركيا مستعدة لاستخدام السلطة الرمزية لأوجلان، نفس زعيم هذه المنظمة الإرهابية، لتحقيق أهدافها. هذا لا يعني الاعتراف بشرعيته السياسية، بل هو استغلال عملي لنفوذه لتحقيق النتيجة المرجوة (حل حزب العمال الكردستاني) دون الانحراف عن المبادئ الكمالية الأساسية. وهذا يسلط الضوء على مرونة تركيا الاستراتيجية ضمن حدودها الأيديولوجية الصارمة، باستخدام شخصية عدو لتحقيق تدمير العدو، وبالتالي تعزيز رواية الدولة عن القوة والسيطرة.

 

 ديناميكية “الصراع المجمد” وآفاق المستقبل

تظهر عملية السلام بين تركيا وحزب العمال الكردستاني بشكل متزايد سمات الصراع المجمد (stuck conflict)، وهو وضع ينتهي فيه الصراع المسلح النشط، ولكن لا توجد معاهدة سلام أو إطار سياسي يحل الصراع بما يرضي الأطراف المتحاربة. هذا الوضع هو تعايش هش مع اتفاقيات غير مكتملة يمكن أن يصاحبها انفجار عنف في أي لحظة.

أ. خصائص “الصراع المجمد” وتطبيقها على حالة تركيا-حزب العمال الكردستاني

الصراعات المجمدة هي نزاعات تظل دون حل لفترات طويلة وتتوقف عند مستوى عالٍ من الشدة والتدمير. وهي عادة ما تشمل العديد من الأطراف وتتضمن مجموعة معقدة من القضايا التاريخية والدينية والثقافية والسياسية والاقتصادية. في مثل هذه العمليات، تكون عبارات مثل المفاوضات الثنائية ذات طبيعة صورية في الغالب؛ في الواقع، نحن نواجه نوعًا من وقف إطلاق النار حيث تنتظر الحكومة الاستسلام النهائي للطرف الآخر. ينشأ هذا الوضع بسبب عدم وجود حل مربح للجانبين، حيث يهدد نظام قيم أو سيطرة مجموعة على منطقة ما الطرف الآخر. إن غياب الاحترام المتبادل هو العقدة الرئيسية في هذه العملية .

يصف هذا التعريف جيدًا الوضع بين تركيا وحزب العمال الكردستاني. على الرغم من دعوة أوجلان لنزع السلاح ووقف إطلاق النار من قبل حزب العمال الكردستاني، لا يوجد اتفاق رسمي أو ضمان قانوني أو إطار سياسي شامل لحل الصراع .لا تزال تركيا تعتبر حزب العمال الكردستاني منظمة إرهابية وترفض الاعتراف به كشريك سياسي، بينما يصر حزب العمال الكردستاني على ضرورة الإصلاحات الدستورية والحقوق الثقافية للأكراد. هذا التباين في التوقعات وعدم الرغبة في التسوية بشأن القضايا الهوياتية والسياسية يبقي الصراع في حالة مجمدة.

ب. الضغط العسكري المستمر والوجود الإقليمي لحزب العمال الكردستاني

على الرغم من عملية السلام الجارية، واصلت تركيا عملياتها العسكرية ضد حزب العمال الكردستاني وفروعه في شمال العراق. منذ عام 2019 فصاعدًا، اعتمدت تركيا بشكل متزايد على قوتها الجوية، بما في ذلك الطائرات المسلحة بدون طيار، لمواجهة حزب العمال الكردستاني وتابعيه. وقد قيدت هذه العمليات بشكل كبير حركة حزب العمال الكردستاني ودفعته إلى موقف دفاعي. كما عمقت تركيا تعاونها مع بغداد وحكومة إقليم كردستان في العراق، مما يزيد من تقييد قدرة حزب العمال الكردستاني على المناورة في المنطقة. هذا الضغط العسكري المستمر، إلى جانب استخدام نفوذ أوجلان الرمزي والضغط العسكري على أكراد سوريا، هو من الأدوات الرئيسية لتركيا في هذه العملية.

ج. مستقبل غير مؤكد: سيناريوهات وعقبات السلام الشامل

لا يزال مستقبل هذا الصراع الطويل الأمد غير مؤكد يمكن أن تشمل السيناريوهات المحتملة ما يلي:

  1. التعايش الهش: استمرار الوضع الحالي “للصراع المجمد” الذي يصاحبه وقف إطلاق نار غير مكتمل، ومحاولات حوار متقطعة، واحتمال انفجار العنف .

  2. الاستسلام الكامل لحزب العمال الكردستاني: تأمل تركيا أن تؤدي هذه العملية إلى استسلام كامل لحزب العمال الكردستاني، ومع ذلك، يصر حزب العمال الكردستاني على ضرورة ضمان حقوق الأكراد لنزع السلاح الكامل.

  3. تغيير في موقف تركيا: لا يمكن تحقيق سلام شامل إلا إذا غيرت تركيا نهجها، واعترفت بالحقوق السياسية والثقافية للأكراد، وأجرت إصلاحات دستورية. ومع ذلك، توجد عقبات هيكلية وأيديولوجية عميقة في تركيا تجعل مثل هذا التغيير صعبًا للغاية.

د. تشمل العقبات الرئيسية أمام السلام الشامل ما يلي:

  1. الأيديولوجية الكمالية ومتلازمة سيفر: هذه المبادئ الأساسية للدولة التركية، تعتبر أي تسوية مع الأكراد “لا يمكن إصلاحها” وتهديدًا للوحدة الوطنية.

  2. غياب الاحترام المتبادل: لا تعتبر تركيا حزب العمال الكردستاني شريكًا سياسيًا، وهذا عدم الاحترام المتبادل هو العائق الرئيسي في هذه العملية .

  3. غياب الضمانات القانونية: يؤدي عدم وجود إطار قانوني ودستوري محدد لحقوق الأكراد إلى تآكل الثقة.

  4. نفوذ حزب العمال الكردستاني الإقليمي: يضيف نشاط حزب العمال الكردستاني في العراق وسوريا وسيطرته على مناطق مثل روج آفا تعقيدات إضافية إلى هذا الصراع ويشجع تركيا على مواصلة العمليات عبر الحدود.

إن عملية السلام الحالية بين تركيا وحزب العمال الكردستاني هي عرض نزع سلاح أكثر من كونها محاولة حقيقية لحل الصراع. هذه العملية أحادية الجانب، تهدف بشكل أساسي إلى حل حزب العمال الكردستاني دون تقديم تنازلات متبادلة أو ضمانات قانونية لحقوق الأكراد، وتقودها تركيا. إن دعوات عبد الله أوجلان لنزع السلاح واستجابة حزب العمال الكردستاني، على الرغم من كونها خطوات مهمة نحو تخفيف التوتر، تبدو غير كافية في غياب إطار تفاوضي متساوٍ وشامل.

تكمن جذور هذا النهج في الأيديولوجية القومية الكمالية التركية التي تؤكد على الهوية الموحدة ووحدة الأراضي وتعتبر أي تمييز عرقي تهديدًا لوجود الدولة. كما تعزز “متلازمة سيفر” هذه المخاوف وتسمح للحكومة بتبرير أي مطالب داخلية على أنها مؤامرة خارجية لتقسيم البلاد. هذا السياق الأيديولوجي يمنع أنقرة من الاعتراف بحزب العمال الكردستاني كفاعل سياسي شرعي وتقديم تنازلات حقيقية.

نتيجة لذلك، تشبه الديناميكية الحالية “صراعًا مجمدًا” حيث تراجع العنف النشط، لكن جذور الصراع لم تُحل. إن الضغط العسكري التركي المستمر على حزب العمال الكردستاني في العراق وسوريا، إلى جانب غياب الثقة والضمانات القانونية، يجعل آفاق السلام المستدام غامضة. بدون تغيير جوهري في نهج تركيا تجاه الحقوق السياسية والثقافية الكردية والرغبة في التفاوض الحقيقي والمتبادل، من المرجح أن يتأرجح مستقبل هذا الصراع طويل الأمد بين التعايش الهش وتجدد العنف.

 

Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?

Reload Reload document
| Open Open in new tab

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى