الاكثر قراءةترجماتغير مصنف

ترامب يُضعف الاستخبارات الأميركية تسييس الجهاز يُفاقم مخاطر الفشل الأمني*

بقلم: ديفيد ف. جيوي ومايكل ف. هايدن (1)

ترجمة: صفا مهدي عسكر/ مركز حمورابي للبحوث والدراسات الإستراتيجية

تحرير: د. عمار عباس الشاهين/ باحث في مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية

قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بحزم خلال اجتماع مجلس الأمن الذي نُقل تلفزيونيًا عشية غزوه الفوضوي والشامل لأوكرانيا في شباط 2022 “تحدث بوضوح!” موجّهًا كلامه إلى رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية الروسية سيرغي ناريشكين، بدا ناريشكين متوترًا وعندما تمكن أخيرًا من تأييد الاعتراف بمنطقتي دونيتسك ولوهانسك الأوكرانيتين كدول مستقلة – وهي الكلمات التي كان بوتين ينتظرها – أمره بالجلوس فجأة كطالب رسب في امتحان شفوي، يعزى تردد ناريشكين الواضح في تبني مبرر بوتين للحرب إلى افتقار المعلومات الاستخباراتية القاطعة التي تؤكد أن “العملية العسكرية الخاصة” ستعيد كييف إلى الفلك الإمبراطوري لموسكو، ومع ذلك فضل ناريشكين الامتثال والانصياع إذ كانت مخاطر معارضة بوتين واضحة رغم غموض المعلومات المتوفرة.

يُعتبر اعتقاد بوتين الراسخ بأن أوكرانيا ستستسلم سريعًا أكبر فشل استخباراتي في عهد حكمه الذي امتد لأكثر من ربع قرن، وأبدى غضبًا شديدًا عندما لم تسير الغزوة كما تصور موجهًا اللوم ومانعًا بعض كبار المسؤولين الأمنيين، لكنه وقع بنفسه في الفخ الذي صنعه إذ كغيره من الأنظمة الاستبدادية أوجد بيئة يغذي فيها المرؤوسون القائد بما يرغب بسماعه فقط، تعنى الاستخبارات الحقيقية بتشجيع القادة السياسيين على طرح الأسئلة الصحيحة ومراجعة افتراضاتهم والنظر في السيناريوهات السلبية المحتملة، ورغم وجوب تكيّف ضباط الاستخبارات مع مصالح وأولويات قادتهم فإن أسمى أشكال الخدمة التي يمكن أن تقدمها الوكالات الاستخباراتية هي تصحيح المفاهيم الخاطئة الراسخة لدى القادة.

تمتلك الولايات المتحدة مجتمعًا استخباراتيًا يحظى بإعجاب دولي واسع إلا أن عهد الرئيس دونالد ترامب شهد ظهور بعض المظاهر التي تجعل الأنظمة الاستبدادية عرضة للفشل الاستخباراتي مما زاد من هشاشة النظام الأميركي، إذ أدى أسلوب ترامب الشعبوي والشخصي إلى التقليل من قيمة المعلومات الاستخباراتية وإساءة معاملة الوكالات المنتجة لها، ففي أواخر حزيران وقبل يوم من توجيه ضربات أميركية لمنشآت نووية إيرانية تجاهل ترامب شهادة تولسي جابارد مديرة الاستخبارات الوطنية أمام الكونغرس والتي أكدت أن إيران ليست على وشك تطوير سلاح نووي – وهو تقييم يتعارض مع مزاعم ترامب، قال ترامب “لا يهمني ما تقول”، وبعد الضربات أعلن بفخر أن المواقع النووية الإيرانية استُهدفت وتم “تدميرها بالكامل” في حين قدم تقرير أولي لوكالة الاستخبارات الدفاعية تقديرًا أكثر تحفظًا للأضرار.

ولا تكمن المشكلة فقط في تحقير ترامب للاستخبارات بل في خلق إدارته بيئة تضطر فيها القيادات العليا إلى تكييف تقييماتها لإرضائه، كرر وزير الدفاع بيت هيغسث تصريحات ترامب المبالغ فيها متجاهلًا تقرير وكالته الاستخباراتية، ووصف المتحدث باسم البيت الأبيض كارولين ليفيت “التقييم المزعوم” بأنه “خطأ فادح”، وسرعان ما زعم كل من جابارد وجون راتكليف مدير وكالة الاستخبارات المركزية توفر “معلومات استخباراتية جديدة” تدعم وجهة نظر ترامب لكنه رفضا الكشف عنها علنًا.

وبتزايد تعيين الموالين بدلًا من المحترفين ذوي الخبرة مثلما حدث في أحد المكاتب الحيوية لمكافحة الإرهاب بوزارة الأمن الداخلي حيث أصبح قائد المكتب حديث التخرج دون خبرة في الأمن القومي تواجه الوكالات الاستخباراتية خطر التسييس المفرط مما يحولها إلى أدوات تبرير للسياسات بدلًا من تقديم معلومات موضوعية، وفي الوقت نفسه تواجه الولايات المتحدة تهديدات أمنية وطنية جسيمة من بينها ازدياد خطر الإرهاب نتيجة سعي الجماعات المدعومة من إيران للانتقام من الضربات الأميركية، سواء أكانت الهجمات إرهابية أو سيبرانية أو أخطاء في السياسة الخارجية أو مفاجآت عسكرية فإن تبعات إخفاقات الاستخبارات ستكون بالغة الخطورة والتهديدات تتصاعد باستمرار.

لا تسمع الشر

     الإخفاقات الاستخباراتية أمر حتمي حتى في الأنظمة الصحية، فكشف الأسرار وتقييمها بدقة يمثل تحديًا كبيرًا في أفضل الظروف ولا تخلو العمليات والتحليلات من أخطاء بشرية، لكن التشوهات داخل النظام تزيد من احتمالية الفشل. النموذج النموذجي هو النظام السلطوي حيث يحكم القائد الواثق من نفسه ولا يتسامح مع الآراء المخالفة، في مثل هذه الأنظمة يعمل ضباط الاستخبارات في بيئة تُمنع فيها مواجهة السلطة بالحقيقة ويُفضل الطاعة على الكفاءة والتملق على الموضوعية ويُطلب تقديم “حقائق بديلة” للحفاظ على سرد القائد المفضل، تقديم تقييمات صادقة تتعارض مع آراء الحاكم يُعتبر خيانة ويعاقب عليها، وبدون وجود مساحة للنقد والتحليل الصريح قد يتلقى القادة معلومات خاطئة ويتخذون قرارات بناءً عليها كما حصل مع ناريشكين.

اليوم تواجه الولايات المتحدة خطرًا مماثلًا، أسلوب ترامب الشعبوي يتميز بعدم الثقة في السلطات المعتمدة ورفض الخبراء الذين يقدمون حقائق أو تحليلات غير ملائمة تتحدى معتقداته السياسية الأساسية، مثل القادة الاستبداديين أحاط ترامب نفسه بموالين يجتازون اختبارات ولاء أيديولوجية مثل التأكيد على أن انتخابات 2020 “سُرقت” منه، هذه الثقافة من التحليل المسيس والرقابة الذاتية وقمع الحقائق غير المرغوبة تخلق بيئة مشابهة لتلك الموجودة في الأنظمة الاستبدادية التي تؤدي إلى إخفاقات استخباراتية. الولاء الشخصي يتفوق على الكفاءة أو الخبرة لخدمة ترامب، صحيح أن الرئيس يجب أن يتوقع ولاءً من موظفيه لكن إدارة ترامب وضعت الولاء فوق الحقيقة، طُلب من عدد من المحترفين ذوي الخبرة إعلان توجهاتهم الانتخابية كشرط لشغل مناصب أمنية كانت تقليديًا غير سياسية وهو اختبار يطرد الأكفاء ويرسل رسالة واضحة لمن يبقى الطاعة شرط الاستمرار.

يقوم كبار ضباط الاستخبارات الموالون للقادة الشعبويين أو الاستبداديين بضبط أنشطة وكالاتهم وفقًا لما يرغب القائد في سماعه أو لا، هذا يحول موارد الاستخبارات بعيدًا عن التهديدات الحقيقية، على سبيل المثال أعاد مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي كاش باتيل تنظيم الوكالة لتحويل الجهود نحو تطبيق قوانين الهجرة والحد من الجرائم العنيفة مما أدى إلى نقص التمويل للتحقيق في تهديدات أمن قومي خطيرة مثل الإرهاب والجرائم السيبرانية ونشاطات الاستخبارات الأجنبية، ورغم أهمية مكافحة الجريمة إلا أن حماية الأمن القومي تتطلب إدارة أوسع بكثير من المخاطر.

وهذا ليس المثال الوحيد على تهميش أو إغلاق وحدات استخباراتية تركز على التهديدات الأجنبية خلال إدارة ترامب ولا الوحيد في تحويل الموارد بعيدًا عن التهديدات الجدية لخدمة أجندات سياسية، في ايار أمرت تولسي جابارد بزيادة جمع المعلومات عن غرينلاند لتقييم حركة استقلالها رغم أن غرينلاند ليست تهديدًا أمنيًا للولايات المتحدة وكان الهدف دعم اقتراح ترامب بضم الجزيرة، وكالات الاستخبارات تمتلك موارد محدودة وإن أُهدرت على تهديدات وهمية أو خطط مشبوهة للسيطرة على أراضٍ أخرى فإن ذلك يزيد احتمال تعرضها للمفاجأة من قبل خصوم مثل الصين وإيران وروسيا.

السعي لإرضاء القيادة

     يميل السياسيون دومًا إلى حذف التحفظات والمبالغة في ثقة التحليلات أو تقليل أهمية وجهات النظر المعارضة كما فعل ترامب حين وصف تقرير وكالة الاستخبارات الدفاعية (DIA) الأول عن الأضرار التي لحقت بالبرنامج النووي الإيراني بأنه “غير حاسم”، ليست إدارة ترامب الوحيدة في التاريخ التي تفضل المعلومات الاستخباراتية التي تدعم سردية سياسية معينة، في أواخر الستينيات وأثناء الحرب في فيتنام فضّل الرئيس ليندون جونسون تقييمات البنتاغون المتفائلة على وجهات نظر وكالة المخابرات المركزية الأكثر تشاؤمًا مما شوش على فهمه للحرب ومنحه أملًا زائفًا في استراتيجية تصعيد فاشلة، وفي 2002 أنشأ وزير الدفاع دونالد رامسفيلد مكتب الخطط الخاصة لتأكيد وجود صلة بين العراق والقاعدة – وهو ارتباط لم تجده وكالة المخابرات المركزية موثوقًا – لدعم مبررات غزو العراق. في كلا الحالتين أدت انتقائية المعلومات الاستخباراتية إلى فشل استراتيجي للرؤساء، ومع ذلك يبدو أن البيت الأبيض الحالي أغفل دروس التاريخ، في ايار أقالت تولسي جابارد رئيس مجلس الاستخبارات الوطنية المؤقت ونائبه بعد أن قدّما تقييمًا يفيد بأن جماعة “ترين دي أراجوا” الإجرامية في فنزويلا ليست تحت سيطرة الحكومة الفنزويلية وهو ما تعارض مع مزاعم إدارة ترامب التي استُخدمت لتبرير ترحيل فنزويليين، وعندما توصل الفريق إلى هذه النتيجة طلب رئيس موظفي جابارد وهو موالٍ لترامب إعادة النظر في الأدلة و”إعادة صياغة” التقييم حتى لا يُستخدم ضد جابارد أو ترامب – وهو طلب سياسي صريح، تمسك قادة المجلس بتقييمهم الأصلي بدلاً من تعديله بما يتوافق مع سياسة الرئيس مما كلفهم وظائفهم.

يمكن توقع كيف أن إقالة مسؤولين استخباراتيين لتقديمهم تقييمات قائمة على الأدلة تدفع من تبقى إلى ممارسة الرقابة الذاتية والتفكير الجماعي وهما عاملان رئيسيان في فشل الاستخبارات ويسودان في الأنظمة الاستبدادية، قد يتردد المحللون الشجعان في الكشف عن معلومات مهمة يحتاج ترامب لمعرفتها إذا كانت ضد رغباته، وإذا اقتصر ما يتلقاه الرئيس على تقييمات مُصممة لإرضائه فسوف يعلق في دائرة أصدائه غير قادر على اتخاذ قرارات مستنيرة بناءً على الواقع.

لقد كان لتسييس الاستخبارات عواقب تتجاوز البيت الأبيض، خلال فترة إدارة بوش والضغط من أجل الحرب على العراق فقد المجتمع الاستخباراتي الأمريكي مصداقيته مع الشعب الأمريكي وشركائه في الخارج، واليوم يواصل هذا التآكل في ثقة الجمهور والحلفاء. وإذا اعتبر الحلفاء أن الاستخبارات الأمريكية غير موثوقة أو يخشون أن تتسيّس معلوماتهم فقد يقللون من مشاركتها مع واشنطن، مما يحرم وكالات الاستخبارات الأمريكية من أدلة مهمة قد تحتاجها لكشف مؤامرة أو فهم تطور رئيسي، التعاون مع الوكالات الأجنبية هو جزء أساسي من جمع المعلومات الاستخباراتية، فواشنطن تمتلك قدرات هائلة لكنها لا تستطيع تعويض جمع وتحليل المعلومات الذي توفره شركاؤها.

بينما تدعي إدارة ترامب علنًا أن إجراءاتها تهدف إلى نزع التسييس من وكالات الاستخبارات الأمريكية فإنها في الواقع زادتها تسييسًا عبر الضغط عليها لإصدار تقييمات تدعم السرديات السياسية المفضلة ورفض التقييمات التي لا تتوافق معها وطرد الموظفين الذين يُنظر إليهم كغير موالين ومضايقة العاملين من خلال اختبارات كشف الكذب العشوائية بزعم التحقيق في تسريبات، بات واضحًا لدى موظفي الخدمة المدنية أن وظائفهم رهينة لأهواء الإدارة، كما حدث مع قادة مجلس الاستخبارات الوطنية قد يُطردون لمجرد قيامهم بمهامهم ومثل العاملين في مكاتب التنوع والمساواة والشمول قد يُقالون إذا أنجزوا مهامًا لا ترغب الإدارة في إنجازها، وبالمثل أُقيل ستة موظفين في مجلس الأمن القومي بعد لقاء ترامب مع الناشطة اليمينية المتطرفة لورا لومر فقط بسبب الاشتباه في عدم الولاء أو قد يُقال مديرا وكالة الأمن القومي بلا سبب معلن،

الفوضى الإدارية التي تُسوَّق على أنها خفض للتكاليف أضعفت الروح المعنوية، في اذار زار إيلون ماسك ومستشاروه في ما يُسمى ب(وزارة كفاءة الحكومة) مراكز وكالة المخابرات المركزية والأمن القومي مما أثار مخاوف العاملين المهنيين، وبعدها أعلنت الوكالتان عن تخفيض آلاف الوظائف أغلبها عبر إلغاء عروض عمل وتسريح موظفين جدد وتقاعد روتيني وعروض خروج طوعي، جذبت عروض الخروج الطوعي عددًا من كبار ضباط الاستخبارات إلى مغادرة الخدمة رغم أن كثيرين قالوا إن العرض سهل عليهم قرار الاستقالة، وخسارة هؤلاء الخبراء لا تحرم الإدارة من خبراتهم فحسب بل أيضًا إلغاء عروض العمل يمنع تعويضهم بضباط شباب واعدين مليئين بالحماس والوطنية. من الناحية المثالية يجب أن ترحب وكالات الاستخبارات بمواهب متنوعة من جميع أنحاء البلاد وتستغلها، تضييق قاعدة المواهب يحرم الدولة من الاستفادة الكاملة من إمكانات مواطنيها ويُضعف مساهمة الاستخبارات في صنع القرار، في الاتحاد السوفيتي لم يكن يُسمح سوى لأعضاء الحزب الشيوعي بالانضمام إلى وكالة الاستخبارات الرئيسية (KGB) مما أثر سلبًا على أداء الوكالة حيث قللوا من تقدير صلابة تماسك الغرب ومبالغة في قوة دول الحلفاء السوفيت والحركات الثورية، خلال الحرب العالمية الثانية استفادت الاستخبارات البريطانية من عبقرية (آلان تورينغ) في فك الشفرات جزئيًا لأنه أخفى ميوله الجنسية، للأسف إدارة ترامب تبعد المواهب عبر إيصال رسالة واضحة بأنها لا تقدر التنوع في وجهات النظر داخل وكالات الاستخبارات، فبدلًا من إعادة تعيين موظفين عملوا مؤقتًا على مبادرات التنوع والشمول تم فصلهم عند إغلاق هذه المبادرات مما يشير إلى توقع الالتزام الأيديولوجي.

مجتمع استخبارات أمريكي يتصرف بشكل متزايد كدولة استبدادية سيواجه صعوبة في الاحتفاظ بالموظفين وجذب جدد، حالياً قد لا تبدو الخدمة العامة جاذبة لأفضل وألمع العقول الأمريكية، والأسوأ من ذلك أن القوى العاملة الحالية محبطة ومشتتة بسبب عمليات التطهير وسوء المعاملة التي يرونها، آلاف من ضباط الاستخبارات يبحثون عن فرص عمل في القطاع الخاص، القوة العاملة المتوترة والمشتتة بالكاد يمكنها تحقيق الأداء الأمثل.

قرب إدارة ترامب من نظريات المؤامرة أيضًا يقوض علاقتها بالاستخبارات، لورا لومر التي أثار لقاءها مع ترامب إقالات بارزة في وكالات الاستخبارات معروفة بنشرها نظريات مؤامرة منها الادعاء غير المثبت بأن هجمات 11 ايلول كانت “عملية داخلية”، كما روّج مسؤولون في إدارة ترامب مثل نائب مدير مكتب التحقيقات الفدرالي دان بونجينو لنظريات مؤامرة تتهم “الدولة العميقة” بإخفاء الحقيقة عن الشعب الأمريكي في عدة قضايا من وفاة جيفري إبستين في السجن إلى اغتيال جون كينيدي، لم تُكتشف مؤامرات حقيقية لكن تشويه سمعة وكالات الاستخبارات باعتبارها جزءًا من “الدولة العميقة” يترك أثرًا دائمًا على مصداقية عملها.

تشويه صورة الاستخبارات يجعل الولايات المتحدة أقل أمانًا في النهاية، تحتاج وكالات الاستخبارات إلى دعم الجمهور للقيام بمهامها على نحو فعّال، يعتمد إنفاذ القانون الفيدرالي على سبيل المثال على المعلومات التي يقدمها المواطنون واستمرار وصف مكتب التحقيقات الفدرالي بأنه “فاسد إلى أقصى حد” قد يثني الناس عن التعاون مع العملاء، وإذا كانت وسائل الإعلام المرتبطة بترامب تروج لخطاب شعبي عن وجود تهديد داخلي خصوصًا من وكالات الأمن والاستخبارات تجاه الحريات المدنية فقد يجد السياسيون صعوبة في دعم قوانين تمكّن من جمع المعلومات الضرورية. في أوائل العام الماضي عندما جرت محاولة إعادة تفويض المادة 702 من قانون مراقبة الاستخبارات الأجنبية والتي تسمح للحكومة بمراقبة الأجانب خارج الولايات المتحدة، انضم نفس الأشخاص الذين يقودون الآن مكتب التحقيقات إلى وسائل الإعلام اليمينية المتطرفة لتشويه القانون بوصفه أداة أورويلية بيد “دولة عميقة” غير مسؤولة، جرى تجديد التفويض لعامين آخرين لكن الحادثة أبرزت مدى هشاشة أدوات الاستخبارات الحيوية أمام الخطاب السياسي المبالغ فيه.

شكل الفشل

     ترامب ليس مستهلكًا طبيعيًا للاستخبارات فمن خلال ندرة إحاطاته في هذا المجال – حيث لا يتجاوز عددها مرة واحدة في الأسبوع علنًا مقارنة بما كان يتلقاه أسلافه من ست إحاطات أسبوعية عادةً – يبدو أنه غير مهتم بالفوائد التي يمكن للاستخبارات الجيدة أن توفرها، يعمل ترامب بناءً على حدسه وغالبًا ما يبرر سياساته بأنها “منطق سليم” وهو أسلوب شعبوي يعتمد على التقدير الفوري وليس على العملية المنهجية التي يتبعها محللو الاستخبارات، يفضل ترامب الشعارات على الجوهر والسرد المبسط على التعقيد ونظريات المؤامرة على الفضول والبحث، يتجنب الخوض في التفاصيل وتتعارض مواقفه الأيديولوجية مع المنهج التجريبي كما أظهرت معركته مع الاقتصاديين حول آثار سياسة الرسوم الجمركية، يبدو أنه يقدّر الاستخبارات فقط حين تؤكد حدسه الخاص ولا يعتمد عليها لتحدي معتقداته أو لاستكشاف زوايا مختلفة.

إدارة ترامب لنظام الاستخبارات الأمريكي تزيد من احتمال وقوع إخفاق استخباراتي، قد يظهر ذلك في شكل هجوم مفاجئ أو قراءة خاطئة للخصم أو فشل في التنبؤ بحدث مهم آخر، لقد تجاهل ترامب التحذيرات من قبل ففي ولايته الأولى تأخر في الاستجابة للتحذيرات المبكرة بشأن انتشار كوفيد-19 مما أعاق استجابة الولايات المتحدة المبكرة للجائحة، كما استهان بالمخاطر الأمنية للتطرف المحلي المتصاعد التي عرضها عليه محللو الاستخبارات في مكتب التحقيقات الفيدرالي ووزارة الأمن الداخلي قبيل اقتحام مبنى الكابيتول في 6 كانون الثاني 2021. وقد يتكرر أمر مشابه اليوم، التحذيرات التي تم رفضها مرارًا وبشكل متحيز قد تتوقف عن الوصول في نهاية المطاف، قد تفشل الاستخبارات لأن المعلومات الحيوية قد لا تصل إلى ترامب، وخوف المسؤولين من العقاب قد يدفعهم إلى ممارسة الرقابة الذاتية أو تجنب تقديم تقييمات قد تثير رد فعل أيديولوجيًا مثل التحذيرات بشأن التطرف العنيف المحلي بين الجماعات اليمينية المتطرفة أو العمليات المعلوماتية الروسية، كما كتب المحلل السابق في وكالة المخابرات المركزية براين أونيل الشهر الماضي في Just Security الإخفاق الاستخباراتي القادم لن يكون مفاجأة بل سيكون خيارًا.

وقد لا يدفع إخفاق استخباراتي خلال فترة حكمه ترامب إلى إصلاح المشكلات التي تسببت به، بل قد يلوم وكالات الاستخبارات الأمريكية على تقصيرها أو قد يروج زورًا لفكرة أنها كانت تحاول الإيقاع به، وأي إصلاح قد تتبناه إدارته بعد وقوع إخفاق سيُصمم على الأرجح لتسييس المجتمع الاستخباراتي أكثر، وتقويض استقلاليته ومنح السلطة التنفيذية سيطرة أكبر على الميزانيات والكوادر والصلاحيات.

الفريق الرياضي الموهوب الذي يُدار بشكل سيء قد يحقق الفوز بالكاد، وإذا نجت الولايات المتحدة من إخفاق استخباراتي كبير في السنوات المقبلة فسيكون ذلك بفضل الاحترافية المستمرة في وكالات الاستخبارات، لكن هذه الوكالات لن تحقق أقصى إمكاناتها فإذا استُخدمت بشكل خاطئ أو تم تجاهلها أو تسييسها باستمرار فلن تتمكن من إنتاج الميزة المعلوماتية التي صُمم المجتمع الاستخباراتي لتوفيرها للرئيس الأمريكي، يعشق ترامب ثروات الولايات المتحدة الطبيعية – نفطها وغازها الطبيعي وغاباتها وزراعتها، والمجتمع الاستخباراتي الأمريكي الفريد هو مورد ثمين آخر ركيزة لـ(العظمة) التي يسعى إليها ترامب، إن ضمان أمن أمريكا اليوم وللأجيال القادمة يعتمد على حسن رعايته لهذه الثروة الوطنية.

 

* David V. Gioe and Michael V. Hayden, Trump Is Breaking American Intelligence Politicizing the System Makes Dangerous Failures More Likely, foreign affairs, July 2, 2025.

(1)  ديفيد ف. جيوي/ هو أستاذ عالمي في الاستخبارات والأمن الدولي لدى الأكاديمية البريطانية في كلية كينغز لندن، وعمل سابقًا محللًا وضابط عمليات في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA).
مايكل ف. هايدن/ هو جنرال متقاعد في سلاح الجو الأميركي، شغل منصب مدير وكالة الأمن القومي (NSA) بين عامي 1999 و2005، ومدير وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) من عام 2006 إلى 2009.

Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?

Reload Reload document
| Open Open in new tab

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى