الاكثر قراءةتحليلات و آراءغير مصنف

الاتفاق التجاري ما بين بكين وواشنطن: توازن مصالح ام صراع نفوذ؟

بقلم: الباحثة زينة مالك عريبي

 

 في 26 حزيران 2025، وقّعت الولايات المتحدة الامريكية والصين اتفاقًا جديدًا يُعتبر تتويجًا لمفاوضات استمرت منذ أشهر، في سبيل تهدئة الحرب التجارية حول تصدير المعادن النادرة والمغناطيسات من الصين للولايات المتحدة، مقابل خطوات أمريكية لتخفيف بعض القيود التقنية والجمركية، وخلال محادثات تجارية أجريت بين الولايات المتحدة والصين في مايو الماضي في جنيف، التزمت بكين بإزالة التدابير المضادة غير الجمركية المفروضة على الولايات المتحدة منذ الثاني من نيسان، لكن لم يتضح كيف سيتم إلغاء بعض هذه التدابير.

وفي إطار رد الصين على الرسوم الجمركية الأميركية الجديدة، علقت بكين صادرات مجموعة واسعة من المعادن والمغناطيسات المهمة، مما أدى إلى اضطراب سلاسل التوريد الضرورية لشركات صناعة السيارات والطائرات وأشباه الموصلات والمتعاقدين العسكريين في شتى أنحاء العالم.

هذا الاتفاق، الذي يُعد تكملة لـ”اتفاق جنيف” الموقع في ايار، أثار جدلًا حول ما اذا كان مجرد حل تقني لملف نادر للغاية، أم رسالة استراتيجية واسعة تعبّر عن تحول في موازين القوى والتناغم بين القطبين؟

 

اولا: تفاصيل الاتفاق الجديد

تم التوصل إلى تفاهم بين الولايات المتحدة والصين يخدم التجارة بين البلدين ويعد تفاهم إضافي ضمن إطار تنفيذ اتفاق جنيف، ويركّز على تسريع شحن المواد الأرضية النادرة، التي تُعد ضرورية لصناعات استراتيجية أمريكية.

وقد ارتفع مستوى التوتر في العلاقات الصينية-الامريكية مع بداية عودة   دونالد ترامب الى الحكم في مطلع العام الجاري، حيث أطلق موجة من السياسات الحمائية الجديدة، شملت الصين وعدداً من الشركاء التجاريين العالميين، بالمقابل ردّت بكين بوقف تصدير مجموعة من المعادن الحيوية، مما زاد القلق بشأن استقرار التجارة الدولية.

وقد تعهدت الصين خلال مباحثات مع واشنطن بإزالة تدابير غير جمركية على المنتجات الأمريكية، في محاولة لخفض التوترات، مما دفعها لاحقاً لمنح تراخيص تصدير مؤقتة لمورّدي المعادن الأرضية النادرة، لتلبية طلبات كبرى شركات السيارات الأمريكية.

بالمقابل  أعلن ترامب أن الاتفاق الحالي يتضمّن التزام الصين بتوريد المعادن النادرة  لأمريكا، مقابل مجموعة من التسهيلات الأمريكية للصين، اما الصين فقد أعلنت بأنها توصلت إلى اتفاق تجاري مع الولايات المتحدة، مشيرة إلى أن واشنطن سترفع القيود المفروضة عليها في حين ستقوم بكين بمراجعة السلع الخاضعة لضوابط تصدير،  ستحصل أمريكا على تعريفات جمركية بنسبة 55% اما الصين فستحصل على 10% وأضاف ترامب ان الصين ستورد الموارد الأولية النادرة للولايات المتحدة الامريكية بالمقابل ستعمل الأخيرة على تدريب طلاب الصين في الجامعات الامريكية.

نستنتج من ذلك أن الاتفاق التجاري الجديد يتضمن عدة تفاصيل أهمها:

  • المادة الأساسية: اتفاق لإعادة تسريع تصدير المعادن النادرة والمغناطيسات إلى الولايات المتحدة، بعد تعليق الصين لهذه الصادرات بسبب الرسوم الأميركية الجديدة.

  • مدى التنفيذ: الصين ستستمر في إجراءات التراخيص، لكن بمرونة أكبر في الموافقة على طلبات التصدير الأميركية.

  • التنازلات المتبادلة: واشنطن ستخفف من قيود على بعض الصادرات العالية التقنية والإلكترونية للصين ولو جزئياً، فضلا عن تسهيلات في تأشيرات للطلاب الصينيين وضمان مقاعد لهم في الجامعات التقنية الامريكية مما يعني ان الصين تخطط على المدى البعيد لزيادة الاستفادة من العلوم التقنية في الولايات المتحدة للحد الاقصى ما يجعلها تغطي الفجوة التقنية بينها وبين الولايات المتحدة.

ثانيا: ابعاد الاتفاق التجاري هل هو توازن مصالح؟ ام صراع نفوذ

يملك الاتفاق التجاري بين كل من الصين والولايات المتحدة ابعاد تجعلنا امام تساؤل مهم هل الاتفاق مابين البلدين هو توازن مصالح ام صراع من اجل النفوذ.

إذا أردنا القول بان الاتفاق يمثل توازناً للمصالح فذلك على المستوى الاقتصادي يخفّف من أزمة النقص في صناعة السيارات والطيران والطاقة المتجددة في الولايات المتحدة ويعيد استقرار سلاسل الإمداد العالمية اما من الناحية الاستراتيجية فيعني بالنسبة للولايات المتحدة منع الصين من التحكم في صادرات المعادن النادرة مما يحدّ من قدرتها على استخدام ذلك كسلاح ضغط، بينما التخفيف الأميركي يعزز من وضع الشركات الصينية ويخفف من التوترات.

 أما اذا افترضنا ان الاتفاق يمثل صراعا على النفوذ فذلك لان الولايات المتحدة الأمريكية تسعى لتعزيز نفوذها عبر الاستفادة من قدرتها على الابتزاز من خلال الرسوم والقيود التصديرية مقابل تحقيق مكاسب تقنية، اما بالنسبة للصين فلم تتخلَ ايضًا عن دورها الإنتاجي وتقنيات الترخيص، مما يعكس رغبة في الحفاظ على سلطتها، لكنها فرضت شروطاً لتفادي تبعات القفزة في الرسوم.

لكن يمكن القول ان الاتفاق يهدف لتخفيف حدّة التصعيد قبيل حلول موعد الـ 9 حزيران، وهو الموعد المحدد لإعادة فرض رسوم محتملة أكبر، الأمر الذي يعطي واشنطن مزيدًا من الوقت لتوسيع الاتفاق مع دول أخرى مثل الهند وبريطانيا.

 

ثالثا: أمريكا تطوق الصين تجاريا عبر فيتنام وجيرانها

بدأ ترامب حملته “لتطويق” الصين تجارياً عبر فيتنام وجيرانها، أخذ ترامب يضغط على دول جنوب شرق آسيا لتقليل اعتمادها على الصين في سلاسل التوريد، مما يزيد التوترات الاقتصادية والسياسية في المنطقة ويجبر الدول على مراقبة صادراتها واستثماراتها الأجنبية بدقة، فقد وقعت الولايات المتحدة وفيتنام اتفاقاً تجارياً أولياً يفرض رسوماً جمركية على الصادرات الفيتنامية ويستهدف إعادة تصدير السلع الصينية عبر فيتنام بنسبة 40%.

حيث يقدّم الاتفاق التجاري الأولي بين الولايات المتحدة وفيتنام، لمحة عن الكيفية التي يدفع بها الرئيس دونالد ترمب الدول من اجل تقليص اعتمادها التجاري على الصين، ففي بداية تسلم ترامب الحكم أجبر الشركات على تقليص اعتمادها على الصين، أما الآن، فهو يضغط على الدول لاستبعاد بكين من سلاسل التوريد الخاصة بها، ويُعد الاتفاق التجاري الأولي، بين الولايات المتحدة وفيتنام، الخطوة الأهم حتى الآن نحو تحقيق هذا الهدف، بالرغم من أن تفاصيل الاتفاق ما تزال محدودة، إلا أن الصادرات الفيتنامية إلى الولايات المتحدة ستواجه رسوماً جمركية بنسبة 20%، وهو معدل أقل مما كان ترامب قد هدّد به سابقاً.

والملفت ابضاً أن الاتفاق سيفرض رسوماً بنسبة 40% على أي صادرات من فيتنام تُصنّف على أنها إعادة تصدير (transshipment)، أي السلع التي مصدرها الحقيقي دولة أخرى (غالباً الصين) وتم تمريرها فقط عبر فيتنام، أن هذا البند موجه تحديداً إلى الصين، التي استخدمت فيتنام ودولاً مجاورة لها لـ”الالتفاف” على الرسوم الأميركية عبر إعادة تصنيع البضائع، ويحتمل أن تصبح هذه القاعدة جزءاً من صفقات تجارية مماثلة بين الولايات المتحدة ودول أخرى في جنوب شرق آسيا، في محاولة لتجنب الرسوم الباهظة التي دخلت حيّز التنفيذ في الاسابيع الماضية .

نستنتج مما سبق ذكره ان الاتفاق يشكل في ظاهره توازنًا للمصالح—حل أزمة تقنيّة في التجارة— لكنه في الجوهر هو صراع نفوذ تكتيكي بين عملاقين يتبادلان الأوراق ضمن لعبة استراتيجية، اما الرهان الأكبر فهو ما إذا كانت هذه خطوة أولى نحو صفقة أوسع (ربما “المرحلة الثانية”) تتضمن التكنولوجيا والممارسات التجارية، أم أنها لن تكسر الجليد وتبقى فقط لتجاوز لحظة شد وجذب.

في ضوء التحليل الذي تناول الأبعاد الاقتصادية والاستراتيجية للاتفاق التجاري الأخير بين الصين والولايات المتحدة، يتّضح أن هذا الاتفاق يتجاوز كونه تسوية تقنية لملف المعادن النادرة أو تجارة السلع، ليعكس ديناميكيات أعمق في بنية العلاقات الدولية. فعلى الرغم من أن الاتفاق قد أسهم في تخفيف بعض التوترات الظاهرة، وأعاد شيئًا من الاستقرار المؤقت لسلاسل الإمداد العالمية، إلا أنه لا يُنهي جذور الصراع القائم بين القوتين العظميين، والذي يتمحور حول الهيمنة التكنولوجية وإعادة تشكيل النظام التجاري العالمي.

إنّ ما يبدو توازنًا في المصالح على المدى القصير، يخفي في طيّاته سباقًا طويل الأمد نحو ترسيخ النفوذ، حيث توظّف كل من بكين وواشنطن أدواتها الاقتصادية كسلاحٍ دبلوماسي واستراتيجي. وقد أثبت الاتفاق أن التجارة لم تعد مجرد أداة للنمو المشترك، بل باتت وسيلة للمساومة، وإعادة توزيع مراكز القوة في عالم متعدد الأقطاب.

وعليه، يمكن القول إن هذا الاتفاق لا يمثل نهاية للصراع، بل مرحلة جديدة من التعايش التنافسي بين الطرفين، حيث تُدار المواجهة بأدوات ناعمة وأساليب مرنة، دون أن تتوقف الحرب الباردة التكنولوجية والاقتصادية الدائرة بينهما. وهذا ما يجعل من فهم هذه الاتفاقات ضرورة لفهم شكل العلاقات الدولية في العقود القادمة.

Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?

Reload Reload document
| Open Open in new tab

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى