الاكثر قراءةترجماتغير مصنف

ديمومة اليمين الهندوسي كيف يُمهّد حزب بهاراتيا جاناتا الطريق لمرحلة ما بعد مودي

بقلم: هارتوش سينغ بال

ترجمة: صفا مهدي عسكر/ مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية

تحرير: د. عمار عباس الشاهين/ مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية

عندما أُعلنت نتائج الانتخابات العامة في الهند لعام 2024 شكّلت مفاجأة مدوية للشارع السياسي إذ جاءت مخالفة للتوقعات السائدة، فقد أخفق حزب بهاراتيا جاناتا الحاكم في تحقيق أغلبيته البرلمانية الثالثة على التوالي مكتفيًا بأقل من 240 مقعدًا من أصل 545 مقعدًا في مجلس النواب، وكان رئيس الوزراء ناريندرا مودي قد وعد أنصاره بأغلبية ساحقة الا أنه وجد نفسه مضطرًا إلى تشكيل ائتلاف مع قوى سياسية أخرى في سابقة تُعد الأولى من نوعها منذ توليه الحكم، إذ لم يسبق له أن احتاج إلى دعم خارج حزبه لتأمين استمرارية حكومته.

وقد قوبلت هذه النتائج بترحيب واسع من قبل قوى المعارضة كما احتفى بها ملايين الهنود ممن عانوا من وطأة السياسات القومية الهندوسية التي انتهجها مودي خلال سنوات حكمه، فقد ألغى الوضع الخاص لولاية جامو وكشمير الولاية الوحيدة ذات الأغلبية المسلمة وسنّ قوانين متحيزة في مجال الجنسية تُقصي المسلمين وتُعرضهم للتمييز فضلًا عن بناء معبد للإله راما فوق أنقاض مسجد تاريخي في أيودهيا المدينة التي تُعد مسقط رأس راما وفقًا للرواية الأسطورية الهندوسية، وقد جعل مودي من هذه “الإنجازات” محورًا لحملته الانتخابية الأخيرة مستعينًا بخطاب تحريضي ضد المسلمين كما اعتاد في معاركه الانتخابية السابقة، وعندما أخفق في تحقيق نصر كاسح في انتخابات 2024 سارع بعض الليبراليين إلى استنتاج أن القومية الهندوسية بدأت تخسر زخمها وأن الحزب الحاكم بدأ يفقد قبضته الحديدية على الدولة.

صحيح أن هذه النتائج أضعفت مكانة مودي إلى حدّ ما فالكاريزما الشخصية التي طالما اعتُبرت من أبرز أدواته السياسية لم تعد تتمتع بالتأثير ذاته، ومع ذلك فإن حزب بهاراتيا جاناتا تمكن من الفوز بمعظم الانتخابات الإقليمية التي أُجريت بعد الانتخابات العامة حتى في ولايات كانت التوقعات تشير إلى خسارته فيها، وقد حقق ذلك دون أن يتراجع عن خطابه القومي الهندوسي وإنما عبر تعديل تكتيكي في الاستراتيجية إذ خفّف من اعتماده على صورة مودي وعاد ليعتمد بشكل أكبر على منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانغ(RSS)، وهي المنظمة الأم للحزب والحاضنة الأيديولوجية للقومية الهندوسية في الهند التي يزيد عمرها عن قرن.

ويمثل هذا التحول عودة إلى التقاليد التنظيمية التي كانت سائدة قبل صعود مودي، فمنظمة RSS كانت تهيمن فعليًا على الحزب حتى فوزه الكاسح عام 2014 ومع أن مودي ظل وفيًا لأيديولوجيتها فإن شعبيته منحتْه قدرًا كبيرًا من الاستقلال عنها، وعلى عكس قادة الحزب السابقين الذين كانوا يتوجّهون إلى مقر المنظمة للقاء زعيمها كان زعيم RSS  هو من يزور مودي، لكن هذا التوازن تبدّل مؤخرًا ففي اذار الماضي زار مودي مقر المنظمة لأول مرة منذ توليه رئاسة الحكومة في دلالة رمزية على عودة مركز الثقل إلى القيادة الأيديولوجية، كما أن الحملات الانتخابية الأخيرة في الولايات لم تُبنَ على شخص مودي أو صورته بل قادها كوادر المنظمة المنتشرون في عموم البلاد والذين قاموا بحملات تعبئة ميدانية واسعة لضمان فوز الحزب.

ويُعد هذا الأداء السياسي القوي الذي حققته RSS بمثابة جرس إنذار لكل من يعتقد أن القومية الهندوسية آخذة في الانحسار، فهو يكشف أن الرهانات على تراجع بهاراتيا جاناتا بعد مودي كانت مبالغًا فيها وأن الحزب لا يعتمد على شخص الزعيم لتحقيق النجاح، بل إن وجود RSS بما تملكه من امتداد جماهيري وانضباط تنظيمي قد يجعل الحزب أكثر صلابة واستدامة في المدى الطويل، فالحزب يتمتع اليوم بقاعدة دعم واسعة ويتميز بقدرة عالية على التعبئة والتنظيم ما يجعله مؤهلاً للهيمنة على المشهد السياسي الهندي لسنوات قادمة بغض النظر عن هوية من يتولى قيادته، فمودي في نهاية المطاف مجرد فرد، أما RSS  فهي كيان يتجاوز الأفراد.

تماسك الطبقات الاجتماعية

     في ظاهر الأمر بدت الانتخابات العامة الهندية لعام 2024 بسيطة ومباشرة فقد خسر (حزب بهاراتيا جاناتا) ما مجموعه 63 مقعدًا بينما حصل (حزب المؤتمر الوطني الهندي) على 47 مقعدًا إضافيًا، وبدا أن الهند مثل كثير من الديمقراطيات حول العالم، تشهد صعوبات تواجه الأحزاب الحاكمة عند سعيها للفوز بولاية جديدة.

لكن الأرقام تخفي تعقيدًا سياسيًا أعمق، إذ إن معظم مكاسب (حزب المؤتمر الوطني الهندي) جاءت على حساب أحزاب إقليمية صغيرة لا نتيجة لقلب نتائج الدوائر التي يسيطر عليها (حزب بهاراتيا جاناتا)، ففي الواقع لم يخسر الحزب الحاكم في أي منطقة كان يخوض فيها مواجهة مباشرة مع حزب المؤتمر الوطني الهندي، وقد تركزت الخسائر الكبرى في ولاية أوتار براديش حيث فقد الحزب نحو نصف مقاعده لصالح حزب ساماجوادي وهو حزب إقليمي تمكن من مجاراة استراتيجية حزب بهاراتيا جاناتا الانتخابية وتوظيفها لصالحه.

لم تكن هذه الخسارة نتيجة رفض جماهيري واسع للقومية الهندوسية بل لأن حزب ساماجوادي نجح في استيعاب الطبقات الاجتماعية الدنيا والمهمشة بنفس الطريقة التي اعتمدها حزب بهاراتيا جاناتا على مدار العقدين الماضيين، فقد تمكن الحزب الحاكم من بناء تحالف انتخابي قوي عبر إدماج “الطبقات المتأخرة” أو الأقل نفوذًا اجتماعيًا ضمن منظومته السياسية من خلال التحالف مع الأحزاب الصغيرة التي تمثل هذه الفئات ومنحهم تمثيلًا سياسيًا فعليًا داخل صفوفه، وبهذا استطاع الحزب دمج تلك الطبقات مع قاعدته التقليدية من الطبقات العليا فشكّل تحالفًا انتخابيًا يصعب كسره. لكن حزب ساماجوادي تمكن من تقويض هذا التحالف، من خلال منح القيادات المنتمية للطبقات المتأخرة موقعًا داخل الحزب، وتخصيص عدد كبير من ترشيحاته البرلمانية لأبناء هذه الفئات ما مكّنه من قلب العشرات من الدوائر لصالحه.

أما (حزب المؤتمر الوطني الهندي) فقد فشل في استيعاب هذا التحول، إذ تعامل مع نتائج انتخابات 2024 على أنها إثبات لسلامة توجهه دون تعديل يُذكر في استراتيجيته، وفي انتخابات تشرين الاول بولاية هاريانا الشمالية على سبيل المثال راهن الحزب على استمالة طبقة زراعية واحدة مهيمنة هي طبقة الجات، في المقابل أعاد (حزب بهاراتيا جاناتا) تجميع تحالفه التقليدي من الطبقات المتأخرة وحشدها لمواجهة هذه الطبقة المهيمنة، ففاز الحزب بـ 48 مقعدًا من أصل 90 في برلمان الولاية محققًا بذلك نتائج أفضل من الدورة السابقة، في حين اكتفى (حزب المؤتمر الوطني الهندي) بـ 37 مقعدًا فقط في ما اعتُبر مفاجأة انتخابية كبرى.

من الجدير بالذكر أن حملة (حزب بهاراتيا جاناتا) في هاريانا لم تتمحور حول رئيس الوزراء (ناريندرا مودي) كالمعتاد، فقد غابت صور مودي عن الملصقات الانتخابية ولم تُبنَ شعارات الحزب وخطابه على كلماته، وبدلًا من ذلك اعتمد الحزب على تعبئة ميدانية واسعة قادها أعضاء (منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانغ) وهي المنظمة الأم للحزب والتي تمثل الحاضنة الأيديولوجية للقومية الهندوسية، وقد عملت كوادرها بفعالية في الأحياء والقرى لحشد الناخبين، كما استبدلت المنظمة قبل الانتخابات رئيس وزراء الولاية المنتمي إلى طبقة حضرية نافذة بسياسي من طبقة مهمشة ما عزز مكانة الحزب لدى تلك الفئات ودعم فوزه. وقد تكرّر هذا النموذج في انتخابات تشرين الثاني بولاية ماهاراشترا ثاني أكبر ولاية هندية من حيث عدد السكان، فقد أعاد الحزب هناك أيضًا بناء تحالف طبقي واسع مستعينًا بدعم منظمة (راشتريا سوايامسيفاك سانغ) التي تتخذ من الولاية مقرًا لها، كما فاز الحزب في انتخابات شباط في العاصمة نيودلهي وهو فوز لافت نظرًا لاختلاف التوجهات السياسية للمدن الكبرى عن الريف. إلا أن المنظمة نجحت في نقل ديناميكيات السياسة الطبقية من المناطق الريفية إلى العاصمة مما ساعد في إزاحة (حزب عام آدمي (، الذي كان قد فاز في الدورتين السابقتين من خلال التركيز على قضايا التعليم والصحة مع اتخاذ موقف مرن تجاه القومية الهندوسية، كما ساعد (حزب المؤتمر الوطني الهندي) من دون قصد في فوز الحزب الحاكم عندما قرر الترشح في معظم دوائر المدينة مما أدى إلى تشتيت التصويت المعارض.

بطبيعة الحال لا يقتصر اعتماد حزب بهاراتيا جاناتا على التعبئة الشعبية الميدانية، فقد وظف أيضًا أدوات سلطوية لتعزيز نفوذه كقمع وسائل الإعلام ومضايقة المعارضين السياسيين وتوسيع السيطرة على مؤسسات الدولة ولا سيما لجنة الانتخابات الهندية، وبعد أن سيطر الحزب على آلية تعيين مسؤولي اللجنة قام بتعيين شخصيات موالية له مما منح الحزب نفوذًا على تحديد مواعيد وجدولة الانتخابات بطريقة تخدم مرشحيه من القوميين الهندوس، كما أصبحت اللجنة أكثر غموضًا في تعاملها مع الاستفسارات بشأن قوائم الناخبين وعمليات التسجيل. مع ذلك فإن هذه العوامل كانت حاضرة في الانتخابات العامة لعام 2024، والتي سجّل فيها الحزب أداءً دون المتوقع، أما الانتصارات الأخيرة فتعكس نجاحًا تنظيميًا فعليًا، يفوق مجرد الاستفادة من أدوات السلطة.

 

الزعيم الجديد هو نفسه القديم

 كشفت نتائج الانتخابات في نيودلهي وهاريانا وماهاراشترا أن تراجع نفوذ ناريندرا مودي لا يعني بالضرورة تراجع القومية الهندوسية، بل إنها أعادت تشكيل موازين القوى الداخلية داخل هذا التيار، فمودي قد لا يزال وجه القومية الهندوسية لكن (منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانغ) أصبحت اليوم هي صاحبة القرار الفعلي، ولن تكون هذه المنظمة تابعة لرئيس الوزراء أو لأي شخصية سياسية أخرى بعد الآن.

ويبدو أن هذا التحوّل يرضي المنظمة، فقد أسست منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانغ حزب بهاراتيا جاناتا في أوائل ثمانينيات القرن الماضي وقادت توجيهه السياسي لعقود طويلة، وكان مودي قد بدأ مسيرته السياسية كناشط ضمن صفوف هذه المنظمة قبل أن تُوفده للعمل في الحزب، ولم يبدأ بتجاهل قيادة المنظمة إلا بعد أن بنى قاعدة انتخابية قوية مكّنته كرئيس للوزراء من توجيه الحزب وحتى المنظمة ذاتها، ورغم أن هذا الترتيب حقق للمنظمة كثيرًا من أهدافها الأيديولوجية الا أنها لم تكن مرتاحة أبدًا لفكرة التبعية السياسية لزعيم منتخب. لهذا رأت منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانغ في نتائج انتخابات 2024 فرصة لاستعادة موقعها القيادي، وقد عبّر رئيسها موهان بهاجوات عن هذا التوجه بعبارة ذات دلالة لاذعة حين قال بعد الانتخابات “الخادم الحقيقي لا يحمل الغرور”، وهي إشارة غير خفية إلى مودي.

ورغم أن خصوم مودي من التيار العلماني قد يستمتعون بمشاهدة تراجع نفوذه على يد المنظمة التي أنشأته الا أن دواعي القلق أكبر من دواعي السرور، فعودة منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانغ إلى مركز الثقل جعلت حزب بهاراتيا جاناتا أقوى مما كان عليه عندما كان مودي يحتل مركز الصدارة، فالقوة التي اكتسبها الحزب منذ عام 2014 كانت في نظر كثيرين ظرفية ومرتبطة بشخص الزعيم، أما الآن فإن الحركة القومية الهندوسية أصبحت أكثر رسوخًا لأنها باتت تستند إلى البنية التنظيمية العميقة التي بنتها المنظمة على مدى قرن كامل.

لقد أنشأت منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانغ منذ تأسيسها شبكات قوية تقوم بتنظيم الانتخابات ورعاية الفعاليات الثقافية والهيمنة على ما بينهما، وقد نجت من حظرها أربع مرات في التاريخ الحديث، ولم تُبدِ أبدًا أي علامات على التلاشي أو التراجع. ولو اختفى مودي من المشهد السياسي غدًا فإن اليمين الهندوسي سيحتفظ بسيطرته على السياسة الهندية، فقد نجحت منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانغ في بناء آلة انتخابية لا تضاهيها أي جهة سياسية أخرى، وهي اليوم تملك نفوذًا عميقًا داخل الجهاز الإداري والقضائي الهندي كما بسطت سيطرتها على معظم الجامعات في الولايات التي تحكمها وأعادت تشكيل المناهج الدراسية بما يتماشى مع أيديولوجيتها المتطرفة ذات الطابع الهندوسي التفوّقي.

أما رؤساء حكومات نيودلهي وهاريانا وماهاراشترا الحاليون فقد لا يملكون الكاريزما التي تمتع بها مودي لكنهم من وجهة نظر المنظمة أكثر نفعًا، فهم تكنوقراط مخلصون نشأوا داخل أروقة المنظمة وتشكّل وعيهم بالكامل داخل بنيتها الأيديولوجية وهم ملتزمون تمامًا بتنفيذ مشروعها، بكلمات أخرى فإن البنية السياسية والاجتماعية للهند أصبحت بشكل متزايد امتدادًا لماكينة منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانغ.

ولذلك فإن أي جهة دولية تتعامل مع الهند اليوم يجب أن تدرك أنها في الواقع تتعامل مع هذه المنظمة، وقد لا تبدو هذه الحقيقة ذات أثر ملموس على المدى القصير لكنها ستؤثر جذريًا على توجهات نيودلهي على المدى البعيد، ففي أثناء النزاع الأخير مع باكستان كانت الأيديولوجيا والخطاب اللذان تبناهما صانعو القرار الهنود منسجمين تمامًا مع أدبيات المنظمة المنشورة منذ أكثر من خمسين عامًا.

وإذا استمر هذا المسار فإن الهند قد تصبح أكثر عدوانية خاصة فيما يتعلق بقضية كشمير، ومن أبرز مطالب منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانغ التاريخية الاستحواذ على الجزء الخاضع للسيطرة الباكستانية من كشمير والذي تسميه الهند “كشمير الخاضعة لباكستان”، ويُعد هذا المطلب جزءًا من رؤية أوسع للمنظمة حول “الهند الكبرى” التي تتوسع فيها نيودلهي للسيطرة على مناطق من جوارها الجغرافي.

وقد يبدو هذا الطموح ضربًا من الخيال لكنه لا يختلف كثيرًا عن مقترحات أخرى كانت تبدو بعيدة المنال ثم تحوّلت إلى سياسات واقعية تحت نفوذ المنظمة، ومع استمرار هيمنة منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانغ فإن السياسة الخارجية الهندية ذات الطابع القومي الهندوسي قد تصبح حقيقة يتعيّن على جيران الهند بل والعالم بأسره التعامل معها بجدي، فالهند على ما يبدو ليست بصدد تغيير هذا المسار في أي وقت قريب.

* Hartosh Singh Bal, The Staying Power of India’s Hindu Right How the BJP Is Paving the Way for a Future After Modi, FOREIGN AFFAIRS, June 30, 2025. 

 

Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?

Reload Reload document
| Open Open in new tab

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى