الاكثر قراءةتقدير موقفغير مصنف
تحولات الصراع في الأراضي الفلسطينية المحتلة في ضوء المبادرات الإقليمية والدولية الأخيرة

بقلم: نور نبيه جميل/ باحثة في مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية
تشهد الساحة الإقليمية والفلسطينية على وجه الخصوص لاسيما منذ حزيران 2025 منعطفًا بالغ الحساسية، وسط تصاعد غير مسبوق في وتيرة الاشتباك بين (إسرائيل) والجمهورية الإسلامية الايرانية، وتحوّل غزة والضفة الغربية إلى ساحات توتر متقدمة في صراع إقليمي–دولي مركب. في ضوء ذلك تأتي المبادرات الإقليمية والدولية في هذا السياق محمّلةً بإرثٍ من العجز، ومحاولات احتواء، لا ترقى إلى مستوى تسوية شاملة، بل تسعى إلى “إدارة الاضطراب” وتطويقه مؤقتًا
ومن بين أبرز هذه المبادرات، تبرز التحركات الأميركية – ولا سيما من قبل الجمهوري دونالد ترامب لإحياء صفقة تبادل أسرى جديدة ووقف مؤقت لإطلاق النار في غزة، فضلًا عن طرح أفكار تتعلق بـ”نظام عربي انتقالي لإدارة غزة” بعد الصراع، في مقابل استمرار السيطرة الإسرائيلية الفعلية على أجزاء من الضفة الغربية. كما تُلقي المواجهة المفتوحة بين (إسرائيل) والجمهورية الإسلامية الإيرانية – التي خرجت من طور “التوتر الكامن” إلى نمط من الردع المتبادل المباشر – بظلال كثيفة على ديناميات الداخل الفلسطيني والخيارات المتاحة أمام الأطراف كافة
وفق ماسبق فإن الصراع الفلسطيني–(الإسرائيلي) في الآونة الأخيرة شهد ديناميات متشابكة على المستويين الإقليمي والدولي، تتقاطع فيها التحركات الميدانية على الأرض مع محاولات وساطة سياسية تبدو – للوهلة الأولى – متباينة الأهداف والغايات، والتي تلقي بظلالها على التوازنات الجيوسياسية في المنطقة.
أولًا: مبادرة ترامب… دوافع انتخابية مستقبلية أم عودة لمسرح التأثير؟
يحاول دونالد ترامب في سياق التثبيت الدائم للانتخابات الأميركية في السنوات المقبلة اذ لايريد إنهاء حياته السياسية مهما كان الثمن ويسعى لتسويق نفسه كفاعل قادر على إنجاز “صفقات كبرى” في السياسة الدولية، كما فعل سابقًا في اتفاقيات التطبيع. غير أن مبادرته الحالية لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى بين (إسرائيل) وحركة حماس تفتقر إلى مقومات الوساطة الفاعلة، لا سيما في ظل انعدام الثقة بين الأطراف، وتراجع مكانة الولايات المتحدة كوسيط نزيه في نظر الفلسطينيين والعالم اجمع عدا حلفائهم، ورغم أن ترامب قد ينجح – شكليًا – في تمرير اتفاق تكتيكي محدود، فإن نجاح المبادرة على المدى الاستراتيجي يبدو ضعيفًا في ظل غياب معالجة جذور الصراع، وعلى رأسها الاحتلال والاستيطان.
ثانيًا: مقترحات “السيادة العربية” على غزة: مناورات سياسية أم تصور مرحلي؟
تداول بعض مراكز التفكير الغربية والعربية فكرة إسناد إدارة غزة إلى جهة عربية (مصرية–سعودية–إماراتية) بعد “تحييد” حماس، مقابل ترتيبات إقليمية تشمل ضمًا محدودًا لأجزاء من الضفة الغربية. هذا الطرح، وإن غُلّف بمنطق “الواقعية السياسية”، يحمل في طياته تهديدًا جوهريًا لفكرة الدولة الفلسطينية الموحدة والمتواصلة جغرافيًا، ويعكس مسعى (إسرائيليًا) لتكريس الانقسام الجغرافي–السياسي بين غزة والضفة. كما يطرح تساؤلات حول قابلية الأطراف العربية لقبول أدوار وظيفية في قطاع غارق بالأزمات، ووسط غياب استراتيجية فلسطينية موحّدة جراء الاثار المدمرة من الحرب طيلة هذه السنتين.
ثالثًا: التصعيد في الضفة الغربية: تعزيز السيطرة أم إعادة رسم قواعد الاشتباك؟
يشير سلوك حكومة اليمين (الإسرائيلي) المتطرف بقيادة نتنياهو إلى محاولة فرض وقائع ميدانية جديدة في الضفة الغربية من خلال توسيع الاستيطان، وزيادة الاعتقالات، وشن عمليات اغتيال مركّزة، فضلًا عن إعطاء الضوء الأخضر للمستوطنين لممارسة العنف ضد الفلسطينيين. تهدف هذه السياسات إلى تقويض إمكانية المحافظة على دولة فلسطينية مستقبلًا، وإعادة تعريف الوضع النهائي على الأرض قبل أي مفاوضات محتملة. غير أن هذه المقاربة، وإن بدت ناجعة أمنيًا من المنظور (الإسرائيلي)، تولّد في المقابل مقاومة عنيفة مستمرة، وتنذر باندلاع انتفاضة جديدة.
رابعًا: تداعيات الحرب الإيرانية–(الإسرائيلية): انعكاسات على هامش المناورة (الإسرائيلية)
أعادت المواجهات المتصاعدة بين (إسرائيل) وإيران – عبر جبهات متعددة أبرزها سوريا ولبنان وغزة ترتيب الأولويات (الإسرائيلية)، بما في ذلك توجيه الموارد نحو الجبهة الشمالية. وفي هذا السياق، يبدو أن صانع القرار الإسرائيلي يتعامل مع غزة كجبهة يمكن “ضبطها” أو “إخضاعها” ضمن صفقة إقليمية، دون أن يخسر الدعم الأميركي أو يخاطر بانفلات الجبهة الداخلية. غير أن اشتداد التوتر الإقليمي – خاصة إذا تطورت المواجهة مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية – قد يفتح هامشًا لتحركات دولية جديدة تعيد فرض حل سياسي شامل، لا يقتصر على غزة فقط، بل يشمل الضفة والقدس.
خامسًا: سيناريوهات استشرافية لمآلات الصراع في ظل التحركات الراهنة
تفرض التطورات المتسارعة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، والتحركات الإقليمية والدولية المرتبطة بها، ضرورة استشراف المسارات المستقبلية المحتملة للصراع. وفي ضوء المعطيات الحالية، يمكن تصور ثلاثة سيناريوهات رئيسة:
-
سيناريو “التهدئة المؤقتة” وفق صفقة جزئية (الأرجح على المدى القصير):
يقوم هذا السيناريو على إمكانية تمرير اتفاق محدود بوساطة إقليمية أو دولية – قد يكون لترامب دور فيه – يشمل وقف إطلاق النار في غزة وتبادل الأسرى، دون معالجة القضايا الجوهرية. ورغم ما قد يوفره هذا المسار من هدنة وتخفيف، فإنه لا يحلّ أزمة الشرعية أو الاحتلال، ما يجعله مرشحًا للانهيار عند أول اختبار ميداني.
-
سيناريو “التصفية التدريجية” للقضية الفلسطينية (الخطر المتزايد):
يتمثل هذا السيناريو في استثمار (إسرائيل) للانقسام الفلسطيني، وتواطؤ بعض الأطراف الإقليمية والدولية، لفرض وقائع ديموغرافية وجيوسياسية جديدة، عبر ضم أجزاء أخرى من الضفة، وإبقاء غزة تحت إدارة عربية مؤقتة أو في حالة من العزلة المستدامة. ويُعد هذا السيناريو الأخطر، نظرًا لما ينطوي عليه من تقويض نهائي لحل الصراع، ودفع الصراع نحو مزيد من الراديكالية والتطرف العنيف.
-
سيناريو “استئناف مسار سياسي شامل” برعاية متعددة الأطراف (ممكن على المدى المتوسط–الطويل):
رغم التحديات، يبقى احتمال استئناف مفاوضات شاملة قائمًا، خاصة في حال حدوث تغيرات في الداخل الأميركي، أو تصاعد الضغوط الدولية، أو حدوث تحولات في النظام الإقليمي كتهدئة في الجبهة الإيرانية–(الإسرائيلية) أو مصالحة فلسطينية داخلية. يتطلب هذا السيناريو توافر إرادة سياسية فلسطينية موحدة، وموقف عربي ضاغط، ووساطة دولية غير منحازة، مما يجعله صعب التحقيق في المدى القريب، لكنه يظل ممكنًا في ضوء تغيّر المعطيات الدولية.
تقدير مرجّح
في ضوء المعطيات الحالية، فإن السيناريو الأول (التهدئة المؤقتة) يبدو الأقرب للتحقق، بصفته إجراءً وظيفيًا يلبّي حاجات الأطراف (الإسرائيلية–الأميركية–الإقليمية) في كسب الوقت، دون المخاطرة بتفجر الأوضاع الشاملة. إلا أن استمرار تجاهل القضايا الجوهرية الجذريةللصراع سيبقي المنطقة عرضة لانفجارات دورية، ويكرّس منطق إدارة الصراع على حساب تسويته.
يبدو أن المبادرات والمقترحات الراهنة، سواء أكانت أميركية أم إقليمية، تتجه نحو إدارة الصراع لا تسويته، وتفترض أن بإمكان الحلول الجزئية أو المؤقتة أن تؤدي إلى الاستقرار. إلا أن تجاوز جوهر الصراع المتمثل في الاحتلال، وحقوق الفلسطينيين المشروعة، يجعل من هذه المساعي – في أحسن الأحوال – هدنة هشة سرعان ما تنهار أمام تناقضات الواقع. ومن هنا، فإن أي تسوية جادة لا بد أن تنطلق من رؤية شاملة تضمن إقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة على كامل الأراضي المحتلة، وفق المرجعيات الدولية، بعيدًا عن منطق الإملاءات أو الصفقات.



