تحليلات واراء

الدعاية السوداء في عصر العلانية

مسلم عباس

الدعاية السرية سلاح نفسي قديم، ارتبط بنشر الاشاعات وخلق القلاقل بين صفوف المجتمع المعادي، وخاصة بين العناصر العسكرية، ونشطت بشكل كبير مع استخدام الراديو في عشرينيات القرن العشرين، حيث وظفت بكثافة في الحرب العالمية الثانية سواء من قبل دول الحلفاء او دول المحور.

توصف الدعاية السوداء بانها مادة تأتي من مصدر غير معلن عنها، حتى ان المتلقي اما انه لا تتوافر لديه اي فكرة عن مصدر ما يتلقاه واما انه يتوهم مصدرا مخالفا للمصدر الفعلي. وهنا تكمن خطورة العمل الدعائي السري. اذ تقوم بنشر ما لا يمكن نشره او ما لا يمكن الترويج له علنا، اما لتأثيره على سمعة القائم بالدعاية كونها تسير فوق ارض من الاكاذيب والتسقيط السياسي، او نتيجة المخاطر المرتبطة بالردود الرسمية من قبل الخصم، من قبيل الرد بالمثل او تنظيم حملات دعائية مضادة. لهذا السبب تلجأ الدول الى الدعاية السرية كنشاط يقلل مخاطر الرد ويبعد التهمة عن الدول او الجماعة القائمة بالعمل الدعائي.

على سبيل التوضيح استخدمت بريطانيا الدعاية السوداء اثناء الحرب العالمية الثانية لتحقيق اهدافها السياسية، بعيدا عن التزاماتها بالموضوعية والصدق في تقديم المعلومات التي كانت تتبناه انذاك قناة بي بي سي، وقد عملت (هذه الدعاية) على ان تبدو وكانها صادرة من اوربا، بينما كانت تصدر في الحقيقة من انجلترا، ولم يعرف الشعب البريطاني شيئا عن اساليب الدعاية السوداء التي استخدمتها بريطانيا. فقد كتب جيرمي بنيت في عام ١٩٦٥ يقول: “لم يكن العمل سريا فقط، ولكنه لم يكن معروفا حتى للحكومة”.

ومع التقدم التكنلوجي توقع البعض افول الاساليب الدعائية السرية على اعتبار ان الانفتاح الاعلامي قد ادى الى تشبع الجمهور بالمعلومات ولم يعد بالامكان التاثير عليه باساليب ملتوية، لكن الواقع يشكف عكس ذلك، فمواقع التواصل الاجتماعي اصبحت بيئة خصبة تنمو على اكتافها وحتى في اعماقها نبتة الافكار السرية الهدامة، فالاذاعة سابقا استبدلت اليوم بالمجموعات والصفحات الالكترونية تحت تسميات مموهة.

ما نراه اليوم في العلاقة بين مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الاعلام التقليدية هو نوع من التخادم من اجل دفع بعض القضايا باتجاه معين، وهي احدى صفات العمل الدعائي المؤثر، حيث التنظيم والتخطيط والتوجيه المركزي من جهة عليا مع تنويع في الوسائل والاساليب من اجل ان تشبع رغبات الجمهور في الشعور (الوهمي) بالحصول على معلومات من مصادر مختلفة، فضلا عن تنويع العمل واساليب العرض داخل الوسيلة الواحدة.

بعض القضايا التي لا تستطيع وسائل الاعلام الترويج لها لاسباب مهنية وحرصا على سمعتها (التي تدعيها)، تلقى هذه المهمة على عاتق الصفحات الوهمية من اجل شن حملات دعائية عبر مواقع التواصل، وبعدها تقوم وسائل الاعلام التلقليدية بتغطية هذه الحملات، والترويج لها باعتبارها لسان حال طبقات المجتمع، وهذه الحالة لا تتعلق بوسائل الاعلام الصغيرة، بل بالكاد تقتصر على وسائل الاعلام العالمية فهي تعرف “من اين تؤكل الكتف” كما يقول المثل الشعبي.، وكل ذلك تتم تغطيته تحت مسميات توحي بنوع من الاحترام للجمهور.

السبب في انتشار هذه الظاهرة واستفحالها بدل موتها في ظل العولمة والانفتاح الاعلامي يعود لغياب الحقيقة وتلبد الاجواء امام الجمهور، فالخصوم يمزقون الاحداث ويجعلونها اشلاء لدرجة يصعب فهمها من قبل الجماهير، وتبقى الناس متعطشة لكل ما يخالف الاراء السائدة فكانت الصفحات المشبوهة او ما تسمى الجيوش الالكترونية هي السبيل (الوهمي) الى ذلك، املا من عامة الناس في الحصول على شيء غَيّبَه الصراع، لكنه في الواقع يعود لنفس المصادر التي حرمته تنفس نسيم الحقيقة.

في العراق حيث الصراع ازلي ابدي كما يبدو، بعيد عن الحل مهما ادعى الفرقاء رغبتهم بتحقيق نوع من الوئم، وهذه هي البيئة الملائمة للتيارات السياسية من اجل حجب شمس الحقيقة عن الجمهور بغية التحكم به وتوجيه مسار الاحداث عن طريق العمل الدعائي السري بكثافة، ومخاطره الاجتماعية والسياسية كبيرة جدا.

موقع بيت الاعلام العراقي رصد اليات استخدام “الدعاية السرية” او ما يسمى بالجيوش الالكترونية وقد وجد ان الصفحات السرية تنشر الكثير مما تسميه ملفات فساد إداري ومالي غير مطروقة في وسائل الإعلام التقليدية، على أن تقديم الملفات مع “إعلان ممول” للوصول الى أكبر قدر من الجمهور يخلو من الوثائق والبراهين، بينما تقوم صفحات أخرى بمونتاج كتب رسمية لوزارات وهيئات رسمية عبر برامج الفوتو شوب لإضفاء نوع من الصدقية على الأخبار. وغالبا ما تحصل هذه المنشورات على تفاعل واسع من الجمهور الذي يصدق هذه الروايات ويبني عليها مواقفه.

كما سجّل تقرير بيت الاعلام العراقي أن هذه الصفحات تُنشط منشوراتها بشكل مكثف أوقات الأزمات والمناسبات والحوادث على الصعيد الوطني مثل التفجيرات وحالات الخطف وزيارة مسؤولين الى البلد، ويكون فحوى المنشورات التهجم اللفظي ضد سياسيين عبر جبهتين أو أكثر تسعى لتحميل الطرف الآخر أسباب الأزمات، والأكثر قلقا استغلال هذه الحوادث لتضخيمها، مثلا عبر نشر عشرات الصور على أنها لقتلى في تفجيرات يتبين لاحقا أنها صور قديمة، أو سرد روايات عن سياسيين وربطها بالحوادث.

ويؤكد التقرير ان بعض الصفحات تنتحل أسماء أحزاب وكتل سياسية معروفة، وتبين بعد الرصد أن فحوى منشوراتها تهاجم هذه الأحزاب وأعضائها دون معرفة جهوية هذه الصفحات.

اذن الحرب مستعرة خلف الشاشات الذكية، والازمات وقود يزيد من امد الصراع ويعمقه اكثر، واذا كانت في السابق تسمى بالإذاعات السرية مخترقة الحواجز الجغرافية للدول ومحطمة قيود التشويش المكلف ماديا في ذلك الزمن، فان الدعاية السرية في عصر المعلوماتية يصعب مواجهتها، وربما تكون مواجهتها مستحيلة وخاسرة اذا لم تقرر الدول استخدام اساليب جديدة في الحرب ضد امراء الحرب الالكترونية بجيوشهم السرية.

لكن سيطرة الحسابات الوهمية والصفحات المزورة في مواقع التواصل الاجتماعي او حتى المواقع غير الرسمية على الشبكة العنكبوتية تعطي مردودا سلبيا يقلل من قيمة وسائل الاعلام ويفقدها ليس مصداقيتها فقط، بل سلطتها ورمزيتها للمجتمع باعتبارها مؤسسات لنشر المعلومات والاخبار التي يمكن عن طريقها فهم البيئة الاجتماعية والسياسية المحيطة بالفرد.

قد تعطي الدعاية السرية مفعولا سريعا يسهم في تسجيل بعض نقاط الفوز ضد الخصوم، الا ان الافراط والانفلات الذي وصلت اليه شبكة الانترنت بصورة عامة يثقل مهنة الصحافة ومواقع التواصل الاجتماعي بكم هائل من عدم الاحترام، وهذا الامر سوف يؤدي الى انفلات اجتماعي خطير، وينبؤ بازمات سياسية وحروب يصعب اطفاء نارها لا عسكريا ولا الكترونيا، لان نار التجهيل والكذب والتزوير قادرة على حرق مشعلها قبل الضحية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق