الاكثر قراءةتحليلات و آراءغير مصنف
الحرب الهجينة المتبادلة: كيف تتصاعد المواجهة الروسية الغربية في المنطقة الرمادية

بقلم: حسن فاضل سليم
باحث في مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية
“سوف يفوز من يعرف متى يقاتل ومتى لا يقاتل” … صن تزو
إن هذه الحكمة القديمة تجد اليوم صداها في أشكال الصراع المعاصرة، حيث أصبح الفصل بين القتال وعدم القتال هو تحديد المنطقة الرمادية، فالهجمات الغاشمة واساليب التأثير على الرأي العام والثورات الملونة ليست الا حالة من حالات الحرب الهجينة التي تجري بين روسيا والغرب في المنطقة الرمادية، لقد كانت روسيا كثيرا ما تتهم الغرب بشن حرب هجينة ضدها من خلال تمويل ما يعرف بالثورات الملونة التي اندلعت في دول تمثل عمقا استراتيجيا روسيا كجزء من مجالها الحيوي في اوكرانيا وجورجيا حيث رافق هذه الحرب الهجينة حملات من الدعاية المضادة لروسيا ومحاولات نشر حالة الكراهية للروس في هذه الدول لضمان لتطويق روسيا ومن ثم نقل تلك الثورات الى داخلها بغية اسقاط الدولة وادخالها في حالة من الفوضى ومن ثم تقسيمها.
نعم هكذا ينظر الخبراء الروس للحرب الهجينة التي يشنها الغرب عليهم منذ سنوات اذ يعتقدون انها تبدأ من خلال السماح لمنظمات المجتمع المدني الممولة خارجيا بالعمل داخل اراضيهم ، والتي تشكل النواة الاساس للحرب الهجينة الغربية حيث تعمل هذه المنظمات على تأجيج الشارع ضد الحكومة من خلال استغلال بعض المطالب المشروعة ثم ما ان تخطأ السلطات بالتعامل مع تلك الاحتجاجات ينشط دور هذه المنظمات في تحويل الاحتجاجات الى حالة شاملة تهدد استقرار الدولة والمجتمع ومن ثم ستنشط الدعاية الغربية لدعمها على ان يتبع ذلك تحولها الى ظاهرة مسلحة في حالة تم قمع التظاهرات المدنية وهو ما تنتظره بطبيعة الحال القوى الغربية.
لقد قسم اندريه كاريبكو الخبير الروسي في شؤون الحرب الهجينة ادوات المواجهة الى ثلاث مراحل ([1]):
-
تسجيل جميع منظمات المجتمع المدني رسميا ومتابعة عملها وتمويلها فضلا عن رفع مستوى الوعي بمخاطر استغلال العمل المدني في التحريض على السلطة وذلك من خلال وسائل الاعلام والأكاديميين وخبراء الامن القومي.
-
تدريب رجال فرض القانون على التعامل بشكل سليم مع الاحتجاجات السلمية وتجنب التعامل بقسوة معها مما يعطي فرصة للمنظمات المرتبطة بالخارج على زعزعة استقرار النظام والامن من خلال التحريض على السلطات عبر وسائل التواصل.
-
انشاء حركات مجتمع مدني وطنية كضد نوعي للحركات الممولة من الخارج تخرج بتظاهرات مضادة للتظاهرات المدعومة من منظمات المجتمع المدني.
اما فاليري غراسيموف رئيس اركان الجيش الروسي السابق فقد كان ابرز من وضع النموذج الروسي للحرب الهجينة ضد الغرب وحلفاءهم، في مقال نشره عام 2013 تضمن مجموعة من الافكار حول كيفية المزج بين الوسائل العسكرية وغير العسكرية في الحرب حيث اطلقه عليه الخبراء مبدأ غراسيموف او عقيدة غراسيموف، وبحسب الجيش الامريكي فأن هذه العقيدة تمثل التطور الابرز في الفكر العسكري الروسي فاذا كان كارل فون كلاوزفيتز قد عرف الحرب بانها “استخدام العنف لتحقيق اهداف سياسية” فأن غراسيموف قد يرى بأن ” السياسة هي استمرار ممارسة الحرب بشكل آخر” اي ان السياسة هي في عقيدة غراسيموف شكل من اشكال الحرب .
إذ يرى غراسيموف ان قواعد الحرب قد تغيرت وان الوسائل غير العسكرية قد تنامى دورها في تحقيق الاهداف السياسية والاستراتيجية وقد تجاوزت في كثير من الاحيان فعاليتها قوة الاسلحة، ومن المفيد الاشارة الى ان غراسيموف في مقالته لعام 2013 والتي نقلتها مجلة (Military Review) اشار الى انه من الضروري تطوير الطائرات المسيرة ودعم ابحاث الذكاء الاصطناعي وانظمة القتال المستقلة حيث دعا الى تشكيل قوة ربوتية روسية بالكامل تجري عملياتها بشكل مستقل في زمن يمكن ان تقاتل فيه الروبوتات وتطير وتزحف في المستقبل القريب)[2](.
لقد كانت هذه الافكار سابقة لاوانها واستشرافا لمستقبل الحرب لم يلبث الا ان تحقق مع روسيا ومع غراسيموف ذاته في الحرب الاوكرانية، حيث استخدم الاخير افكاره وحاول نقلها على ارض الواقع، فقد شنت روسيا في بداية الحرب على اوكرانيا، كما ان التطبيق الفعلي للحرب الهجينة تم في عام 2014 عندما تمكنت روسيا من السيطرة على شبه جزيرة القرم بعملية سريعة وغير معلنة بشكل مسبق وكذلك دعم التمرد في منطقة الدونباس، الا انه فشل لاحقا في الحرب الاوكرانية في عام 2022 نتيجة سلسلة من الاخفاقات التي اصابت القوات الروسية والتي من بينها تمرد حركة فاغنر التي كانت تتهم غراسيموف بالفشل الميداني وكذلك سقوط كورسك بيد القوات الاوكرانية ما دفع بوتين الى اقالته من منصبه.
ان مفهوم الحرب الهجينة بالتأكيد ليس من اختراع روسيا بل ان اول من صاغ هذا المفهوم هو الجنرال الامريكي جيمس ماتيس وفرانك هوفمان عام 2005 عندما اعتبروا ان الحروب المستقبلية ستتألف من مزيج من الوسائل التقليدية وغير التقليدية اذ يرى انه لن تحسم الحروب في المستقبل على الجبهات فقط بل بالقدرة على التكيف في بيئات مختلطة حيث يتم الدمج بين التكتيكات غير النظامية مع قدرات تقليدية متوسطة([3]).
الحرب الهجينة المتبادلة: تصاعد المواجهة في المنطقة الرمادية
ان ما تشهده اوروبا اليوم من تصاعد الاتهامات المتبادلة بين روسيا والغرب حول “التهديدات الهجينة” يؤكد ان المفهوم لم يعد مجرد اطار نظري بل تحول الى تطبيق عملي متبادل بين القوى المتصارعة في بيئة المنطقة الرمادية التي تعرف بانها مجموعة من الأنشطة التي تحدث بين السلام (أو التعاون) والحرب (أو الصراع المسلح) حيث تقع العديد من الانشطة الاقتصادية الشائنة وعمليات التأثير والهجمات الإلكترونية إلى عمليات المرتزقة والاغتيالات وحملات التضليل. بشكل عام غالبا جميعها تقع تحت عتبة الصراع المسلح ([4]).
فمع امتداد الحرب الاوكرانية الى عامها الثالث، اصبحت الساحة الاوروبية مسرحا لتجليات هذا النوع الجديد من الصراع، اذ تتحدث العواصم الاوروبية لاسيما في برلين وبروكسل عن هجمات إلكترونية وحملات تضليل إعلامي وتخريب تحت سطح البحر تُنسب إلى موسكو، فيما ترى روسيا في المقابل أن الغرب يمارس ضدها حربًا هجينة شاملة عبر العقوبات الاقتصادية، وتسليح كييف، والحرب المعلوماتية التي تستهدف الرأي العام الروسي.

وقد تعمّقت المخاوف الأوروبية مؤخرًا بعد تسلل طائرات مسيّرة روسية إلى الأجواء البولندية خلال عمليات القصف على أوكرانيا، ما دفع وارسو إلى رفع مستوى التأهب، فيما أعلنت برلين في تشرين الاول 2025 عن إعداد خطة وطنية لمواجهة “التهديدات الهجينة الروسية” تشمل حماية البنية التحتية الحيوية وتعزيز الدفاع السيبراني والإعلامي. هذا التفاعل يكشف أن الحرب الهجينة أصبحت متبادلة ومركّبة، فبينما ترى موسكو نفسها في موقع الدفاع ضد حرب هجينة غربية، تتعامل أوروبا مع الأنشطة الروسية باعتبارها حربًا هجينة موجهة ضدها، ليتحوّل الصراع إلى حلقة دائمة من العمليات الرمادية التي لا تتوقف عند حدود الجبهات، بل تمتد إلى المجال المعلوماتي، الاقتصادي، والتكنولوجي على حدٍّ سواء.
من جانب آخر برزت تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كعنصر جديد في معادلة الصراع. ففي 17 تشرين الاول/ 2025، التقى ترامب بالرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في البيت الأبيض، حيث ناقشا إمكانية تزويد أوكرانيا بصواريخ توماهوك بعيدة المدى. ورغم طلب زيلينسكي، أبدى ترامب ترددًا في الموافقة على هذه الخطوة، مشيرًا إلى ضرورة الحفاظ على هذه الصواريخ لأغراض الدفاع الوطني الأمريكي، ومؤكدًا أن مثل هذه الخطوة قد تؤدي إلى تصعيد العلاقات مع روسيا. وأضاف ترامب أنه يعتزم عقد قمة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في المجر، في محاولة للتوسط في إنهاء النزاع القائم في أوكرانيا، في وقت حذرت فيه روسيا من أن تزويد أوكرانيا بصواريخ توماهوك قد يؤدي إلى تدمير العلاقات الروسية الأمريكية، معتبرةً أن ذلك يشكل تصعيدًا خطيرًا في النزاع.
وبالنهاية فأن النصر سيحسم لمن يعرف كيف يقاتل ومتى واين وما هي الادوات التي يستخدمها والتي لم تعد تقتصر على الادوات العسكرية فقد تكون الادوات غير العسكرية وساحات القتال الرمادية انسب ميدان للصراع بين القوى الكبرى التي لا ترغب في الدخول بمواجهة مباشرة ضد بعضها البعض تساعدها على تجنب الحرب المباشرة وتحقيق بعض المكاسب الاستراتيجية بدون قتال مباشر.
([1]) . Andrew Korybko, Hybrid wars and democratic security, Geopolitika Center, 12.6.2016, at URL: https://www.geopolitika.ru/en/article/hybrid-wars-and-democratic-security
([2]) . Valery Gerasimov, The Value of Science Is in the Foresight New Challenges Demand Rethinking the Forms and Methods of Carrying out Combat Operations, MILITARY REVIEW, Army University Press, U.S Army , January-February 2016, p24-26.
)[3]( . General James N. Mattis & Frank Hoffman, Future Warfare: The Rise of Hybrid Wars, U.S Naval Institute, Vol. 131/11/1,233, November 2005, at URL : https://www.usni.org/magazines/proceedings/2005/november/future-warfare-rise-hybrid-wars?utm_source=chatgpt.com
)[4]( . Clementine G. Starling, Today’s wars are fought in the ‘gray zone.’ Here’s everything you need to know about it, Atlantic Council , 23.2.2022, at URL:
https://www.atlanticcouncil.org/blogs/new-atlanticist/todays-wars-are-fought-in-the-gray-zone-heres-everything-you-need-to-know-about-it/



