الاكثر قراءةتحليلات و آراءغير مصنف

في ظل الازمات: لماذا يقف الشعب العراقي عاجزاً امام التغيير؟

بقلم: عُلا عبدالله الوائلي/ باحثة في الشأن السياسي

 

في ظل الأزمات السياسية الاجتماعية والاقتصادية الآنية والمستمرة التي يعاني منها العراق، يبرز تساؤل جوهري ومُلحّ لماذا لم يثُر الشعب العراقي تجاه نظام سياسي تسبب في تزايد البطالة، غياب العدالة الاجتماعية في توزيع الثروات، أزمة السكن الخانقة، ونقص فرص العمل، بينما لا تزال أزمتا المياه والكهرباء بدون حل؟ هذه الظروف الصعبة تدفعنا لاستكشاف الأسباب الكامنة وراء هذا الصمت، وكيف تُحكم السيطرة على إرادة الجماهير، يكشف نعوم تشومسكي في مقالته “أسلحة صامتة من أجل خوض حروب هادئة” عن عشر استراتيجيات أساسية للتحكم في الشعوب، وهي استراتيجيات تجد تطبيقها الواضح في العراق، حيث تُساهم في إضعاف المجتمع وتجريده من قدرته على التغيير،  ويوضح أيضًا جورج أورويل في رواية “1984” عن استخدام المعاناة كأداة للتحكم بالأفراد و السيطرة عليهم  في هذا المقال، سنوضح كيف يتم التحكم في الشعب العراقي، ولماذا لا ينهض من أجل التغيير؟

 

الاستراتيجيات العشرة للتحكم في الشعوب:

أولا: استراتيجية الإلهاء:

يُعدّ تحويل انتباه الرأي العام عن المشاكل الاجتماعية الحقيقية وغمره في قضايا تافهة وغير ذات أهمية استراتيجية فعالة تُمارسها الأنظمة السياسية للحفاظ على سيطرتها الهدف بسيط: أبقوا الجمهور مشغولاً، مشغولاً، مشغولاً، دون أن يكون لديه أي وقت للتفكير، في العراق يغرق الشعب في مشاكله اليومية التي يُخلّفها النظام السياسي، مثل أزمات الكهرباء والمياه، الغياب التام للخدمات الأساسية، البطالة، الفقر، ارتفاع أسعار المواد الغذائية في ظل صعود الدولار، التلاعب في أسعار العملة، وصعوبة تأمين لقمة العيش، هذه المشاكل المستمرة تُبقي تفكير الأفراد محصوراً في كيفية تجاوز عقبات الحياة اليومية، بدلاً من التفكير في التغيير السياسي الجذري الذي قد يُحسن واقعهم.

أبرز الأمثلة

  1. الخلافات الطائفية والسياسية المفتعلة: على الرغم من أن العديد من المشاكل الحقيقية تتعلق بالفساد وسوء الإدارة، تُركّز بعض الجهات الإعلامية بشكل مبالغ فيه على خلافات سياسية وشخصية بين القادة، أو تُشعل الفتن الطائفية بين الحين والآخر، هذه السجالات تُستهلك طاقة الجمهور وتُبعده عن التساؤل حول سبب استمرار الأزمات الخدمية أو تدهور الاقتصاد.

  2. التركيز المفرط على قضايا ثانوية في وسائل الإعلام: قد تُسلط الأضواء بشكل مبالغ فيه على أحداث هامشية أو خلافات شخصية بين المشاهير، أو على تحديات ترفيهية (الترند) لا طائل منها عبر منصات التواصل الاجتماعي، هذه القضايا على الرغم من كونها جذابة للوهلة الأولى، تُساهم في استنزاف وقت الجمهور وطاقته الذهنية، وتُبعده عن التفكير في القضايا الجوهرية كالبطالة المتفشية، فشل الطب والتعليم، أو ضعف البنية التحتية، والعديد من المشاكل الأخرى.

  3. تشجيع ثقافة الاستهلاك المفرط والتفاهة: عندما يُصبح التركيز على المظاهر والكماليات هو السائد، يُصبح المواطن منشغلاً بالسعي وراءها، مما يُقلص من اهتمامه بالقضايا الوطنية الكبرى تُساهم بعض أنواع المحتوى الترفيهي السطحي في ترسيخ هذه الثقافة، وبالتالي إبعاد الجمهور عن التفكير الجدي في مستقبله السياسي والاقتصادي،

تنجح بعض القوى المحسوبة على الحكومة في إبقاء الشعب مشغولاً، مشتتاً، وغير قادر على التفكير في الشأن السياسي العام أو محاسبة المسؤولين، ويتفاقم هذا التشتيت بوجود كم هائل من المحتوى الإعلامي غير المفيد وظهور صناع محتوى بلا قيمة حقيقية، والذين يُساهمون بفعالية في تشتيت الرأي العام عن الوضع السياسي المتردي.

ثانيا: استراتيجية “المشكلة – رد الفعل – الحل”: كيف تُصنع الأزمات لتمرير القرارات!

عندما تتراكم الأزمات، ويصل اليأس إلى ذروته، عندها فقط تُقدّم الحلول وكأنها المنقذ الوحيد هذه ليست مصادفة، بل هي استراتيجية مُحكمة تُعرف بـ “المشكلة – رد الفعل – الحل” يستخدمها أصحاب السلطة ببراعة لتمرير قرارات قد يرفضها الشارع في الظروف العادية، ولكن في خضم الأزمة، يُصبح الجمهور نفسه هو المطالِب الأول بتلك القرارات، تقوم هذه الآلية على خلق موقف أو مشكلة مفتعلة تستدعي رد فعل شعبي غاضب، عندما يشتد الضغط وتتعالى الأصوات المطالبة بالحل، تتدخل السلطة لتقديم “الحل” الذي غالبًا ما يكون قد أُعدّ مسبقًا، وبالتالي تُمرر قرارات كانت ستواجه معارضة شديدة لولا هذه الأزمة المفتعلة.

أمثلة من الواقع العراقي تُبرز هذه الاستراتيجية بوضوح، تُعدّ أزمة شح المياه وملوحتها في البصرة مثالًا كاشفًا، مع تلوث شط العرب وانتشار الأمراض، بلغ الغضب الشعبي ذروته، حينها يزور رئيس الوزراء المحافظة ليُعلن عن مشاريع تحلية المياه، السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو: لماذا لم تُطلق هذه المشاريع الضخمة، أو تُضخ كميات كافية إلى شط العرب منذ البداية؟ الجواب يكمن في استراتيجية “المشكلة – رد الفعل – الحل” لقد خُلقت المعاناة والنقص في الخدمات لجعل الشعب يائسًا ومطالِبًا بالحل، مما يُسهل على الحكومة تمرير مشاريع معينة أو حتى إحكام السيطرة، مستفيدة من مقولة جورج أورويل: “المعاناة هي السبيل الوحيد للسيطرة على الفرد وجعله مقيدًا وعاجزًا عن التغيير”

مثالاً اخر أزمة الكهرباء الأزلية، التي تفاقمت مع التوترات بين إيران وإسرائيل، حيث تعاني المحافظات الجنوبية تحديدًا من تقليل ساعات التجهيز بذريعة نقص إمدادات الغاز الإيراني، بالرغم من وجود مشاريع حكومية لتوليد الطاقة من تدوير النفايات بالتعاون مع شركات صينية. لكن الى الان المشاريع لا ترى النور ولماذا لا تزال الأزمة قائمة إذن؟ تُظهر أزمتا المياه والكهرباء في العراق بوضوح كيف تُستخدم الأزمات كغطاء، فبدلًا من معالجة الأسباب الجذرية للمشاكل مثل الفساد وسوء الإدارة، تُقدم الأزمات وكأنها قدر محتوم لا مفر منه، وهذا بدوره يُبرر قبول الشعب بحلول ترقيعية أو إجراءات تُقلل من سقف المطالب الشعبية، وتُرسخ حالة من العجز والاعتماد على السلطة.

 

ثالثا: استراتيجية التدرج: التغيير البطيء لصناعة الواقع الجديد

تُعدّ استراتيجية التدرج من الأساليب الماكرة التي تُستخدم لفرض تغييرات جذرية قد لا تحظى بالقبول الشعبي إذا طُبقت دفعة واحدة، الفكرة بسيطة: قدم التغيير قطرة بقطرة، ببطء شديد، حتى يصبح جزءًا من الواقع ويتقبله الناس دون وعي أو مقاومة كبيرة،

في العراق بعد عام 2003، شهدنا تطبيقًا صارخًا لهذه الاستراتيجية، لم تُفرض الظروف الاجتماعية والاقتصادية الجديدة والمختلفة بشكل جذري عن سابقاتها دفعة واحدة، بل جاءت هذه التغييرات تدريجيًا، وبشكل بطيء وممنهج، لتُحدث تحولًا عميقًا في بنية المجتمع والاقتصاد لقد أدت هذه التغييرات المتدرجة إلى: ازدياد نسبة البطالة بشكل مطّرد، سلم رواتب غير عادل لا يتناسب مع متطلبات الحياة، عدم الاستقرار الأمني والسياسي الذي أصبح سمة ملازمة، اللامركزية والتوسع في الخصخصة، مما أثر على الخدمات العامة وانقسام الشعب وتفاقم الأزمة بين الإقليم والحكومة الاتحادي،

مثال واقعي: تآكل قطاع التعليم العام وتدني جودته، بعد عام 2003، بدأت ميزانيات التعليم تتآكل تدريجيًا، مع نقص الاستثمار في صيانة المدارس وبناء الجديد منها لم يكن التدهور كارثيًا في البداية، بل كان بطيئًا وغير ملحوظ بشكل حاد، بدأت تظهر مشكلات مثل نقص المستلزمات الأساسية، وتأخر في صرف رواتب المعلمين أو تقليل الامتيازات، والتعدي على المعلم من قِبَل العوائل وجهات خفية دون وجود قانون رادع، هذه التغييرات ليس مادياً بل كانت تمس هيبة المهنة و القانون و كانت تُبرر بـ”التحديات الاقتصادية” أو “إعادة البناء”،

مع مرور السنوات، أصبح تدهور البنية التحتية للمدارس أكثر وضوحًا، وأصبحت ظاهرة نقص الكوادر التدريسية المؤهلة مشكلة متفاقمة في الوقت نفسه، بدأت المدارس الأهلية/الخاصة تنتشر بشكل كبير، وأصبحت خيارًا “ضروريًا” لمن يستطيع تحمل تكلفتها، كبديل للتعليم الحكومي المتدهور. لم يكن هناك قرار حكومي مباشر بـ”خصخصة التعليم”، ولكن هذا التدهور التدريجي دفع الأهالي للبحث عن بدائل خاصة اليوم، أصبح من “الطبيعي” رؤية المدارس الحكومية في حالة يرثى لها، وازدادت ظاهرة الدروس الخصوصية بشكل غير مسبوق لتعويض النقص في التعليم المدرسي. أصبح التفكير في جودة التعليم الحكومي حلمًا بعيد المنال للكثيرين، وتكيفت العائلات مع عبء التكاليف الإضافية (مدارس خاصة، دروس خصوصية) كجزء لا يتجزأ من العملية التعليمية هذا التآكل التدريجي جعل من الصعب المطالبة بتحسين جذري ومفاجئ، لأن الوضع الحالي أصبح “مقبولًا” كجزء من الواقع المعاش.

 

رابعا: التأجيل: تكتيك استراتيجي لتمرير القرارات الصعبة

التأجيل هو أحد الأساليب الماكرة لتمرير القرارات غير المقبولة شعبيًا. يُقدم القرار على أنه “موجع ولكنه ضروري”، مستغلًا ميل العامة لتقبل القرارات المستقبلية على الفورية، هذا لأن المجهود المطلوب منهم لن يكون فوريًا، وهناك اعتقاد سائد بأن “المستقبل دائمًا أفضل” وربما يمكن تجنب التضحية المطلوبة، يمنح هذا التكتيك مزيدًا من الوقت للعامة كي يتأقلموا مع القرار ويتقبلوه حتى يحين وقت تنفيذه.

من أبرز الأمثلة في العراق تعديل قانون الأحوال الشخصية، الذي اعتُبر اعتداءً صارخًا على حقوق المرأة بسحب الحضانة من الأم وإسقاط النفقة بذريعة تقليل نسبة الطلاق، رغم المظاهرات الرافضة الواسعة بالتعاون مع المنظمات المدنية، تم تمرير القانون وأصبح ساري التنفيذ، ومثال آخر هو قانون العفو العام، الذي شمل مجرمين يهددون السلم والأمن المجتمعي، المثير للدهشة أنه جرت محاصصة سياسية لتمرير قانون الأحوال الشخصية مقابل قانون العفو العام، هذه الأمثلة تجسد بوضوح استراتيجية التأجيل، حيث تُقدم “قوانين موجعة لكنها ضرورية” للجمهور، ليمتصوا الصدمة تدريجيًا بينما تستمر القضايا الحقيقية دون حل.

 

خامسا: خاطب العامة كأنهم “أطفال”

“إذا تمَّ التوجه إلى شخص ما كما لو أنه لم يتجاوز بعد الثانية عشرة من عمره، فإنه يتم الإيحاء له بأنه فعلا كذلك؛ وبسبب قابليته للتأثر من المحتمل إذن، أن تكون إجابته التلقائية أو ردُّ فعله مفرغة من أيِّ حس نقدي كما لو أنه صادر فعلا عن طفل ذي اثني عشر سنة، في العراق، غالباً ما يُلاحظ الخطاب السياسي والإعلامي الذي يُبسط القضايا المعقدة بشكل مخل، أو يتعامل مع الجمهور على أنه لا يمتلك القدرة على التحليل العميق.

 

سادسا: استخدم الجانب العاطفي بدلا من الجانب التأملي

استخدام الجانب العاطفي هو أسلوب كلاسيكي للقفز على التحليل المنطقي والحس النقدي للأفراد بشكل عام، فاستخدام الجانب العاطفي يفتح المجال للعقل الباطني اللاواعي لغرس الأفكار والرغبات والمخاوف والقلق والحض على القيام بسلوكيات معينة،في العراق تُستغل الطائفية لتشتيت الانتباه عن القضايا الجوهرية وتشويه أي دعوات للتغيير لخلق الانقسام و تشتيت الشعب عن الوضع السياسي لينشغل في حل المشكلة، فإن هذا يشتت الانتباه عن مشكلات الفساد والبطالة ونقص الخدمات فيصبح الناس منشغلين بالعداء لطرف آخر، مدفوعين بمشاعر الخوف والكراهية، بدلًا من محاسبة المسؤولين عن سوء إدارة البلاد هذا يُبقي الشعب منقسمًا ومنشغلًا بمشكلة وهمية، بينما تستمر القضايا الحقيقية دون حل.

 

سابعا: إبقاء العامة في حالة من الجهل والغباء:

“يجب أن تكون جودة التعليم المقدم للطبقات الدّنيا رديئة بشكل يعمق الفجوة بين تلك الطبقات والطبقات الراقية التي تمثل صفوة المجتمع، ويصبح من المستحيل على تلك الطبقات الدّنيا معرفة أسرار تلك الفجوة” في العراق لا يتجسد هذا المبدأ  فقط في جودة التعليم كما ذكرنا في الإستراتيجية رقم (٣)  بل أيضًا في تقييد الوصول إلى المعلومات النوعية ووسائل الإعلام المستقلة، ففي الوقت الذي تتفشى فيه وسائل الإعلام المضللة ومحتوى التواصل الاجتماعي السطحي، وتُفتقر المناطق الأكثر فقرًا للبنية التحتية اللازمة للاتصال بالإنترنت عالي الجودة أو الكهرباء المستقرة، يصبح من الصعب على شرائح واسعة من المجتمع الحصول على تحليل عميق وموثوق للأوضاع السياسية والاقتصادية، هذا النقص في الوصول إلى مصادر المعلومات الموثوقة، وتوفر البدائل الرخيصة والموجهة، يساهم في خلق طبقة غير قادرة على فهم آليات السيطرة أو المطالبة بحقوقها بوعي، مما يعمق التفاوت المعرفي والاجتماعي ويحدّ من قدرتها على تشكيل رأي عام مستنير وضاغط.

ثامنا: تشجيع العامة على الرضا بجهلهم

هذه الاستراتيجية تهدف إلى تشجيع الجمهور على أن يكون راضيًا بجهله، وأن يعتبر كونه غير مُلم بالقضايا المعقدة أمرًا طبيعيًا ومألوفًا، هذا يقلل من دافعهم للمعرفة والتطور والمطالبة بالحقوق، ويُشعرهم أن محاولة فهم الأمور المعقدة مضيعة للوقت أو تفوق قدراتهم،

في العراق نرى هذا عندما يُروّج لخطاب يقلّل من شأن العلم والمعرفة، ويُشيد بـ”البساطة” و”العفوية” على حساب التفكير النقدي. فمثلًا، قد تُبرز وسائل إعلام معينة شخصيات سطحية أو “مؤثرين” لا يقدمون محتوى ذا قيمة، ويُسوّق لهم كقدوة، بينما يُهمش المثقفون والخبراء. كذلك، عندما تُصوَّر المطالبة بالحقوق أو التساؤل عن الفساد على أنها “وطنية زائدة”، وأن الأفضل هو الانشغال بالهموم اليومية وتجنب السياسة لأنها ” بلا فائدة و معقدة”، فهذا يدفع الأفراد إلى التنازل عن محاولة فهم الأمور المعقدة ويشجعهم على الرضا بما يُقدم لهم من معلومات سطحية النتيجة هي مجتمع يتقبل عدم معرفته بالعمق، ويفقد دافعه للبحث عن الحقيقة أو مساءلة السلطة، اعتقادًا منه بأن الجهل افضل أو أن “الأمور ستسير من تلقاء نفسها دون تدخّل”.

تاسعا: تحويل التمرد إلى شعور ذاتي بالذنب:

من خلال جعل كل فرد يشعر بأنه السبب في تعاسته وسوء حظه، وذلك بسبب قصور تفكيره وذكائه وضعف قدراته، وقلة الجهود المبذولة من جانبه، وهكذا بدلا من أن يتمرد ضد النظام، ينغمس في الشعور بالتدني الذاتي الذي يؤدي لحالة من الاكتئاب تحبط أي محاولة للفعل لديه/ وبدون القيام بأي فعل، لا يمكن أبدا للثورة أن تتحقق في العراق، قد يُلام الفرد على فشله في إيجاد فرص عمل أو تحسين ظروفه المعيشية، بدلاً من مساءلة الحكومة عن الفساد أو السياسات الفاشلة.

عاشرا: معرفة الأشخاص أكثر مما يعرفون أنفسهم

أدى التقدم العلمي المتسارع مؤخرًا إلى توسيع الفجوة بين المعرفة العامة وتلك التي تمتلكها النخب الحاكمة، فبفضل علوم الأحياء، الأعصاب، وعلم النفس التطبيقي، تمكن “النظام” من فهم الكائن البشري جسديًا ونفسيًا بعمق لم يسبق له مثيل، هذا يعني أن النظام، في أغلب الحالات، يعرف الشخص العادي أفضل مما يعرف هو نفسه، مما يمنحه قدرًا أكبر من السيطرة والسلطة على الأفراد،

في العراق، يتجلى هذا التلاعب بوضوح خلال فترة الانتخابات، حيث يستغل المرشحون نقاط ضعف ومعاناة المواطنين للحصول على أصواتهم ،فالمرشحين يدركون تماماً ان الشعب العراقي يعاني من البطالة و نقص في الخدمات و سوء البنية التحتية هذه المعرفة تأتي لأستغلال الناخبين و تُقدم وعود بالتعيين، أو بناء الجسور، أو تبليط الشوارع، وهي في حقيقتها أبسط الحقوق الواجبة على المسؤولين دون مقابل، هذا الاستغلال المعرفي يُمكن النظام من التلاعب بالأفراد، مستغلًا احتياجاتهم الأساسية لتحقيق مكاسب سياسية، بدلاً من تقديم حلول حقيقية ومنصفة، و هذا يعكس فكرة ان النظام هو الذي يملك أكبر قدر من السيطرة و السلطة على الأفراد أكثر من الأفراد أنفسهم.

رواية 1984 جوروج اورويل: المعاناة وتدمير الفرد

“تُقدم رواية جورج أورويل “1984” صورة صادمة لمجتمع شمولي حيث تُستخدم معاناة الأفراد كأداة رئيسية للتحكم والسيطرة عليهم بشكل مطلق في هذا العالم، لا تقتصر المعاناة على الحرمان الجسدي أو القمع المباشر، بل تتجاوزه إلى الاستنزاف النفسي والعقلي المنظم يُجبر الأفراد على العيش في حالة دائمة من الخوف والقلق والشك من أي انحراف عن الخطاب الرسمي، والشك في كل من حولهم، بما في ذلك أقرب الناس إليهم، هذا الخوف المستمر يُصبح أداة لكسر الإرادة الفردية، حيث تُحرم الشخصيات من أبسط أشكال السعادة أو التعبير عن الذات، وتُجبر على قمع مشاعرها وأفكارها الحقيقية،

يُظهر أورويل كيف أن النظام لا يهدف فقط إلى قمع التمرد، بل إلى تغيير طبيعة الفرد من الداخل فالمعاناة الشديدة، حيث يتم إجبار الأفراد على خيانة مبادئهم وأحبائهم، وبالتالي تدمير هويتهم وذاتهم. عندما يُدمر الفرد داخليًا ويصل إلى نقطة لا يستطيع فيها الثقة حتى بمشاعره الخاصة أو رؤيته للواقع، فإنه يصبح هشًا مطيعًا، وغير قادر على المقاومة، المعاناة هنا ليست عقابًا فحسب، بل هي عملية غسل دماغ ممنهجة تضمن ولاءً مطلقًا لا يأتي من القناعة، بل من كسر الروح الإنسانية ذاتها،

في العراق، يتجسد هذا المفهوم بشكل مأساوي، حيث يُجبر بعض الأفراد، خاصة من يعيشون تحت خط الفقر المدقع، على ممارسة أعمال إجرامية لمجرد البقاء على قيد الحياة، فنحن نشهد مشاهد العنف والسرقات في الأسواق، يقوم بها أفراد يعانون بشدة من صعوبة الحصول على الأموال، كما أن انتشار ظاهرة التسول، عمالة الاطفال،تجارة المخدرات، تجارة الأعضاء البشرية، بيع الأطفال (تحديدًا حديثي الولادة)، عمل منظمات إجرامية لتنفيذ مثل هذه الأعمال، يُبرز كيف أن المعاناة القصوى تدفع البعض لخيانة مبادئهم وارتكاب أفعال لا يمكن تصورها في الظروف العادية، هنا، يتجلى دور المعاناة كمحرك  اساسي يستخدم كأداة للسيطرة و تدمير الفرد فيهدد السلم والأمن المجتمعي بشكل مباشر.

التدخلات الخارجية:

بالإضافة إلى الاستراتيجيات الداخلية التي تُمارس للسيطرة على الشعب، لا يمكن إغفال الدور الكبير الذي تلعبه التدخلات الخارجية في تعميق حالة الضعف السياسي والاجتماعي في العراق، وبالتالي المساهمة في تشتيت وانقسام الشعب، بحكم موقعه الجيوسياسي وثرواته الطبيعية، أصبح ساحة لتنافس القوى الإقليمية والدولية، التي تسعى لتحقيق مصالحها الخاصة، وغالبًا ما يأتي ذلك على حساب الاستقرار الداخلي للعراق وقدرته على تحقيق التغيير، لذا الاستقرار الداخلي مهم ومؤثر في قوة السياسة الخارجية لكل دولة،

تتجلى هذه التدخلات في عدة أشكال:

  1. دعم أطراف سياسية معينة: تتدخل بعض القوى الخارجية في العملية السياسية العراقية من خلال دعم قوى و أحزاب معينة، مما يؤدي إلى تعزيز الانقسامات الداخلية، وتقويض أي محاولة لبناء جبهة وطنية موحدة قادرة على مواجهة الفساد وتحقيق الإصلاح هذا الدعم قد يكون ماليًا، سياسيًا، أو حتى عسكريًا، ويهدف إلى ضمان وجود حكومة أو برلمان يخدم مصالح تلك القوى.

  2. تغذية الانقسامات الطائفية والعرقية: تستغل بعض الجهات الخارجية التصدعات المجتمعية في العراق (الطائفية والعرقية) لتعزيز نفوذها. من خلال دعم خطابات الكراهية أو إثارة النعرات، تساهم هذه التدخلات في إبقاء الشعب منقسمًا ومنشغلًا بالصراعات الثانوية، بدلًا من توجيه طاقته نحو محاسبة الطبقة السياسية أو المطالبة بحقوقه الأساسية.

  3. التحكم في الموارد الاقتصادية: تسعى بعض القوى الخارجية للسيطرة على الموارد النفطية والغازية في العراق، أو التأثير على قراراته الاقتصادية، هذا يؤثر سلبًا على قدرة الدولة على توفير الخدمات الأساسية وتحقيق التنمية المستدامة، مما يديم معاناة الشعب ويقلل من قدرته على التعبير عن رفضه للواقع القائم، عندما يشعر الأفراد بأنهم لا يملكون السيطرة على اقتصاد بلادهم، يتراجع لديهم الدافع للمطالبة بالتغيير.

  4. التأثير على القرار الأمني: وجود قوى أمنية متعددة الولاءات، بعضها مرتبط بأجندات خارجية، يضعف من قدرة الدولة على فرض سيطرتها الكاملة وتوفير الأمن للمواطنين، هذا الواقع يُمكن أن يُستخدم لترهيب أي محاولات اصلاحية أو حركات تقويم وتعديل سلمية، أو حتى لإثارة الفوضى بهدف إلهاء الرأي العام.

تخطي الإستراتيجيات و المعاناة لبناء المستقبل:

في ظل التحديات الجسيمة التي يواجهها العراق، يصبح كسر استراتيجيات السيطرة وتحويل المعاناة إلى دافع للتغيير أمرًا ضروريًا لبناء مستقبل أفضل الامر ليس مستحيلاً، بل يحتاج الى خطوات واعية ومستمرة تبدأ من الأفراد وتمتد إلى المجتمع، الوعي هو خط الدفاع الاول ضد الالهاءات و التجهيل يجب السعي خلف المعلومات الحقيقية و الموثوقة و التشكيك في الخطاب السائد و تحليل الاحداث بعمق و عدم الانجرار نحو الاخبار المضللة و السطحية لصالح جهه ما، و المطالبة المستمرة بالحقوق الاساسية التي كفلها الدستور من العيش بحياة كريمة و توفير المسكن و التعليم و فرص العمل، و المطالبة على انها حقوق اساسية مسلوبة و ليس هبه من اصحاب السلطة، و اجبارهم  على تقديم حلول جذرية بدلاً من الحلول الترقيعية، هذه المطالب يجب أن تكون جماعية ومستمرة، وتتجاوز الشكوى الفردية لتصبح ضغطًا شعبيًا لا يمكن تجاهله، ففي مواجهة الانقسامات الطائفية والعرقية والولاءات الفرعية، يبرز حب الوطن الخالص كقوة موحدة لا تُقهر، عندما تُقدم المصلحة العامة على المصالح الشخصية أو الفئوية الضيقة، يصبح الشعب كتلة واحدة قادرة على تحدي الفاسدين والطامعين، هذا يعني التخلي عن الانحيازات الضيقة، والعمل معًا كعراقيين موحدين، بغض النظر عن الاختلافات، من أجل بناء دولة قوية ومزدهرة،

فالمستقبل لا يُبنى بالصمت والعجز، بل بالوعي، والمطالبة المستمرة بالحقوق، ودعم المنظمات المدنية، وتغليب حب الوطن على كل اعتبار، هذه هي الركائز التي ستمكن الشعب العراقي من كسر قيود السيطرة وتحقيق التغيير المنشود.

 

Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?

Reload Reload document
| Open Open in new tab

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى