الاكثر قراءةتحليلات و آراءغير مصنف
دور سلاح الجو في ادارة الحروب الحديثة: حروب (الشرق الأوسط) انموذجا

بقلم: أ.د سعد عبيد السعيدي/ مدير مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية
شهد العالم تحولات جذرية في الحروب وتوازناتها منذ ان طرح ألكسندر دي سفر سكي نظريته القائمة على اساس السيادة الجوية والتي عبر عنها بمقالة نشرها عام 1942 تحت عنوان (توقع النصر) افاد فيها بان الطائرة سوف تغير جغرافية العالم وتاريخه وان القوة الجوية سوف تقرر مصير النصر، وانه من يستطيع السيطرة على القواعد الجوية الرئيسية لما بعد الحرب سوف يصبح أعظم قوة في العالم، وعليه فان جوهر هذه النظرية تعتبر أن من يملك السيادة الجوية يسيطر على مناطق تداخل النفوذ الجوي، وبالتالي يسيطر على العالم. ومنذ ذلك الوقت الى الان وبشكل تصاعدي وسلاح الجو يفرض هيمنة شبه مطلقة في مسارح العمليات ويحسم الحروب لصالح الطرف الاكثر تقدما في مجال الطائرات المقاتلة بمختلف انواعها.
ولو عدنا قليلا الى التاريخ المعاصر سنجد ان القوة الجوية هي التي منحت الاقوياء عسكريا قوتهم وهي التي منحتهم فرصة الفوز في الحرب، فلو تتبعنا مجريات واحداث اهم الحروب في النصف الثاني من القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين سنكتشف الاثر البالغ للقوة الجوية في احراز النصر او التفوق على الاقل.
ففي حرب الخليج الثانية التي دارت بين العراق بعد غزوه للكويت من جهة وقوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة من جهة اخرى عام 1991 كان التفوق والحسم يعودان للقدرات الكبيرة التي امتاز بها سلاح الجو الذي تمتلكه قوات التحالف، والمتمثل باكثر من الف طائرة مقاتلة من اهمها ما تمتلكه الولايات المتحدة من اسطول جوي متطور جدا من الطائرات المقاتلة وعمودها الفقري طائرات اف 16 واف 18 واف 22 رابتور واف 35 التي تنتمي الى الجيل الخامس، فضلا عن طائرات قاصفة وقاذفات استراتيجية منها B-2 الشبحية وكذلك قاذفات B-52 القادرة على حمل ذخائر عملاقة واسلحة نووية، وطائرات الخنزير A10 وهي طائرات اسناد ارضي، وطائرات مروحية مختلفة من اهمها الاباتشي والشينوك والبلاك هوك، وطائرات مسيرة مختلفة ومتطورة. اضافة الى طائرات باقي دول التحالف ومن اهمها الطائرات الفرنسية رافال والطائرات البريطانية تورنيدو وغيرها.
وعلى الرغم من تفوق الجيش العراقي على قوات التحالف من حيث العدد والقدرات البرية حيث كان يمتلك ما لا يقل عن 60 فرقة عسكرية وقوات متجحفلة اخرى ساندة لها، الا ان نتيجة الحرب كانت كارثية على العراق وتم هزم القوات العراقية بسهولة نتيجة لتعرضها لعدد كبير من الطلعات الجوية والقصف الهائل بكل انواع الذخائر وتدمير كامل لقدرات التصدي او الصمود امام هذا التفوق الجوي، الامر الذي افضى بالنهاية الى انسحابها من الكويت واضطرار النظام العراقي حينها الى الاذعان لكل قرارات مجلس الامن بما فيها تدمير اسلحته الاساسية.
وقد تكرر هذا السيناريو في حرب اسقاط حركة طالبان والقاعدة في افغانستان عام 2002 وحرب احتلال العراق عام 2003، حيث كان لسلاح الجو المتفوق الدور الحاسم في الانتصار والتمهيد للسيطرة على الارض وتغيير النظام ومنح القوات البرية مرونة عالية للتحرك ومسك الارض وتدمير الاهداف المعادية بمساندة سلاح الجو المتمثل بطائرات الاسناد الارضي والطيران المروحي.
كما ساهم سلاح الجو الروسي بعد عام 2015 في تدمير اغلب قدرات تنظيم داعش الارهابي وبعض فصائل المعارضة السورية المتشددة وابعادها تدريجيا عن دمشق والانقضاض عليها وتفكيكها بفعل ضربات سلاح الجو الروسي وتهيئة مسرح العمليات للجيش السوري وحلفائه لاستعادة السيطرة على المدن السورية.
وفي الحرب التي تدور مع الاحتلال (الإسرائيلي) منذ سنين تمكن جيش الاحتلال هزيمة الجيوش العربية بسبب تفوقه الحاسم في سلاح الجو رغم فارق القدرات البرية لصالح الدول العربية، وصولا الى معارك طوفان الاقصى وامتداداتها زاد دور سلاح الجو في المعارك الدائرة وفي منح الافضلية للجيوش التي تمتلك اعلى قدرة في هذا المجال، حيث تمكنت اسرائيل من مسك زمام المبادرة في حروبها مع خصومها المتمثلين بمحور المقاومة، وانتهاءا بالحرب الاخيرة مع الجمهورية الاسلامية الايرانية، حيث اتضح كيف اسهم سلاح الجو للاحتلال (الإسرائيلي) بمنح قدرات هجومية كبيرة (لإسرائيل) على الرغم من التفوق الايراني في باقي الصنوف ومنها سلاح الصواريخ او القدرات البرية.
ان التفوق الجوي (الإسرائيلي) على كل خصومها في منطقة الشرق الاوسط يوفر لها الميزات الاتية والتي تعد ميزات حاسمة في الحروب الحديثة:
-
السيطرة على اجواء الخصم بسرعة قصوى والتحكم بحركة الطيران العسكري والمدني ومراقبة الاجواء واخضاع تحركات الخصم على الارض او البحر لمراقبة دقيقة، وهذا ما اتاح لاسرائيل فرض سيطرتها على اجواء الدول العربية المحيطة بها (سوريا ولبنان) واختراق اجواء العراق بسهولة تامة والسيطرة الجوية على اجواء إيران اثناء المعارك الامر الذي جعل مسرح العمليات الحربية الاخيرة في الجو تحت سيطرة سلاح الجو الاسرائيلي بالكامل.
-
ان التفوق الجوي يتيح (لإسرائيل) تنفيذ عمليات قصف وتدمير ممنهج لقدرات خصومها العسكرية والمدنية ومنها استهداف القطعات العسكرية الفعالة واستهداف المطارات وتدميرها واستهداف منصات إطلاق الصواريخ وتحييد الانظمة الدفاعية بل وحتى استهداف المرافق المدنية والمصانع والجسور والمصافي والموانيء والغذاء والطاقة وغيرها من مقومات صمود الدولة، وهذا كان واضحا في الحروب الاخيرة حيث مكن سلاح الجو المتطور اسرائيل من استهداف مقدرات خصومها وتدمير اغلبها.
-
سيطرة سلاح الجو (الإسرائيلي) على اجواء المنطقة وبالاخص اجواء لبنان وسوريا وإيران وقدرته على اختراق اجواء باقي دول المنطقة ومنها العراق والاردن بسهولة ساهم في رفع قدرات (إسرائيل) في مجال اغتيال قادة بارزين في محور المقاومة سواء كانوا قيادات حزب الله او قادة عسكريين وعلماء نووين ايرانيين، فضلا عن وضع كامل القيادة الايرانية وقيادات محور المقاومة في دائرة الاستهداف المباشر والاغتيال انطلاقا من قدرات سلاح الجو في تنفيذ ضربات دقيقة اعتمادا على توجيه جوي -فضائي من قبل الاقمار الاصطناعية.
-
يوفر سلاح الجو (الإسرائيلي) قدرة عالية في مجال الرصد والمراقبة والتتبع، حيث يضع كل خطوة يخطوها خصوم هذا الاحتلال تحت المراقبة والتتبع مما يسهل عليه عملية استهداف نقل الاسلحة والذخائر داخلية، او استيرادها من الاصدقاء، او حتى عمليات تنقل القادة الكبار من مكان الى اخر، الامر الذي يربك خطط خصوم هذا العدو المحتل ويضيق من خياراتهم العسكرية.
-
ان التهديد الذي يمثله سلاح الجو (الإسرائيلي) لقيادات محور المقاومة او قادة الدول الاخرى في المنطقة يمثل عنصر القوة الاساس لهذا الكيان المحتل ويضع كل دول المنطقة تحت تهديد خطير وداهم ومستمر ويدفعها في ظروف معينة اما الى التراجع عن مواقفها الثابتة وعدم تحدي هذا الكيان المحتل واما الذهاب باتجاه التطبيع معه او الدخول في ترتيبات امنية وسياسية كما تفعل سوريا الان مثلا لتجنب استهدافها من قبل آلة الحرب (الإسرائيلية) المتمثلة بسلاح الجو. وهكذا أصبح سلاح الجو (الإسرائيلي) عامل ضغط سياسي كبير وليس عنصر للتفوق العسكري فقط.
وسائل مواجهة تفوق سلاح الجو (الإسرائيلي)
-
السعي لرفع قدرات سلاح الجو لدول المنطقة لا سيما منها الدول التي لا تمتلك طائرات مقاتلة متقدمة ومنها إيران وسوريا والعراق ولبنان، ويأتي ذلك عبر وضع استراتيجيات طويلة الامد لتحديث اساطيلها الجوية عبر اتفاقيات سياسية – عسكرية مع دول اخرى كالصين وروسيا.
-
محاولة خلق بدائل محلية تدريجيا لتصنيع طائرات مقاتلة حتى لو كانت بقدرات متواضعة كبداية لمسيرة تصنيعية تنتهي بتطوير طائرات لها القدرة على خوض اشتباكات جوية حقيقة ومواجهة قدرات العدو.
-
تطوير انظمة دفاع جوي متطورة لها القدرة على مواجهة الطائرات (الإسرائيلية) واسقاطها او على الاقل حرمانها من السيطرة الجوية لتوفير مظلة جوية للقطعات العسكرية ومنها سلاح الصواريخ وحماية القيادة السياسية والعسكرية من الاستهداف من قبل طائرات العدو المقاتلة او المسيرة، ويأتي ذلك في إطار خطة متكاملة عبر التفاهم مع دول معينة تمتلك قدرات متازة في مجال انظمة الدفاع الجوي ومنها الصين مثلا.
-
تطوير انظمة صاروخية متقدمة على غرار صواريخ الجمهورية الاسلامية لا سيما منها الفرط صوتية من اجل تكاملها مع سلاح الجو لتشكل قدرات ردع حقيقية بوجه التفوق الجوي (الإسرائيلي).
-
امتلاك وتطوير قدرات تكنولوجية عسكرية واستخبارية مهمة في مجال الحروب الالكترونية والسيبرانية والمعلوماتية لمواجهة الة الحرب (الإسرائيلية) وتضليل اسلحة العدو الجوية، وتحسين القدرة على الرصد والتوجيه للأسلحة الصاروخية والجوية الوطنية.
-
تطوير سلاح الطيران المسير وزيادة قدراته في مجال الرصد والاختراق والمناورة والاستهداف وزيادة سرعة الوصول للهدف لجعله سلاح اسناد لسلاح الطيران الحربي.
-
تجنب خوض معارك خاسرة مع (إسرائيل) في الفترة القادمة والتركيز على تجنب اخطاء الماضي واعادة تشكيل العقائد القتالية والعسكرية والتسليحية ومنها الانتقال الى عقيدة تطوير سلاح الجو بالدرجة الاساس وهيمنة عناصر التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي في عقيدة القتال والمقاومة قبل خوض اي حرب جديدة مع هذا العدو.